رئيس الحكومة، الدستور الجديد وادعاء تنفيذ برنامج المؤسسة الملكية
بقلم /الحسين بوخرطة
لقد أصبح اليوم واضحا، بعد ما يقارب ثلاث سنوات من عمر حكومة الدستور الجديد، أن ما آلت إليه الأوضاع بعد تطبيق المنهجية الديمقراطية مباشرة بعد الإعلان عن نتائج الاستحقاقات التشريعية الأخيرة لا يبشر بحدوث تراكمات جديدة في واقع الممارسة في المشهد السياسي المغربي. فبعدما صادق المغاربة، بنسبة عالية، على دستور2011، الذي أعطى سلطات واسعة لرئيس الحكومة وجعل مسؤولية هذه الأخيرة أمام البرلمان حقيقة ثابتة، تتبع الرأي العام كيف أن السيد بنكيران «الشخص» لا ولم يتحفظ يوما في ترديد ما مفاده أنه مجرد منفذ لتعليمات صاحب جلالة ، محاولا إيهام المغاربة وكأنه مجرد منفذ لبرنامج غير معلن وغير رسمي تمت بلورته في مؤسسة القصر الملكي. إنه يريد أن يعطي الانطباع للمغاربة وكأن البرنامج الذي تعاقد من خلاله معهم، البرنامج الذي مكنه من الحصول على أكبر عدد من البرلمانيين في تاريخ ممارسة العمل الحكومي في المغرب، قد تحول إلى مجرد حبر على ورق، أو وثيقة ثانوية يصعب عليه تنفيذها بسبب ضغوطات العفاريت والتماسيح، بدون أن يجرأ على تحديد هويتها وأمكنتها ومواقعها المؤسساتية. لقد تناسى رئيس الحكومة «المنتخبة» أن المغاربة يتتبعون منطق خطاباته ومدلولها السياسي وخباياها ومقاصدها. إنهم واعون أن الازدواجية في تصريحاته ما هي في واقع الأمر إلا مجرد تمويهات لتغطية إخفاقاته وعجز حكومته على إنتاج السياسات العمومية المترجمة لبرنامج حزبه السياسي وبرنامج حكومته الذي ألقاه مباشرة أمام مرأى ومسمع المغاربة في بداية فترته الانتدابية. لقد تأكد بما لا يفيد الشك أن هاجس استمراريته في الحكم جعله يضع جانبا البرنامج الذي تعاقد من خلاله مع الناخبين، ولم يجد من سبيل لإتمام فترته الانتدابية سوى الاقتصار على تطبيق املاءات المنظومة النيوليبرالية ومؤسساتها السياسية والاقتصادية والمالية. فأمام ضعف القدرة الاقتراحية لوزراء حكومته وعجزهم على إعطاء الانطلاقة لمسار تنموي يحدث نهضة إنتاجية حقيقية تفجر كل الطاقات والإمكانيات التي تتوفر عليها البلاد (رأس المال المادي وغير المادي)، وجد السيد بنكيران نفسه أمام خيارين لا ثالث لهما، فإما أن يستقيل نتيجة فشله، أو الدخول في تنفيذ خطة «جهنمية» لاشعبية، مركزا، من أجل الحفاظ على التوازنات التقليدية العامة المعروفة إرضاء للمؤسسات المالية الدولية، على الممازجة بين الخطابات المموهة للحقيقة وإصدار القرارات اللاشعبية الواحدة تلو الأخرى والاعتماد على المساعدات والقروض الخارجية. لقد ثبت اليوم، بما لا يفيد الشك، أن هذه الحكومة تفتقد إلى المؤهلات الضرورية لإعادة بناء نموذج تنموي اقتصادي شامل يدخل البلاد إلى عالم الإنتاج والعلم والمعرفة والتكنولوجيا، الأمر الذي جعل رئيسها يلجأ دوما إلى «الشعبوية»، تارة بإقحام اسم جلالة الملك محاولا تكريس الانطباع عند الناخبين وكأن المؤسسة الملكية هي المصدر الوحيد والواحد في إصدار التوجيهات والتعليمات والتفاصيل التنفيذية للعمل الحكومي، وتارة باتهام المعارضة بالمزايدات والمكر والمكيدة،…..إلخ.
فعلا، لقد أصبح واضحا أن التجربة الحالية، بالرغم من تقدم النص الدستوري، قد تميزت بطغيان الخطابات «الشعبوية» على الفعل والبرنامج السياسيين، وعلى الرؤية التنموية الواضحة البديلة. لم نلمس في تحركات هذه الحكومة أي مبادرات عمومية قادرة على استنفار كل القدرات البشرية المتوافرة لدى الفئات الشعبية ولدى ذوي المهارات والكفاءات. فعكس ما جاء في البرنامج الانتخابي للحزب الأغلبي من وعود وعلى رأسها تحقيق 7 بالمائة كنسبة نمو، يتابع الرأي العام كيف يتم القضاء على أهم المقومات لتحقيق ذلك. فعلا، باستثناء ما تحققه المؤسسة الملكية من منجزات ومبادرات (يتعمد رئيس الحكومة تضمينها في حصيلة حكومته)، لم يلمس المتتبع أي مجهود حكومي يذكر للزيادة في الطاقة الإنتاجية للاقتصاد الوطني، ولم تقدم الحكومة أي تحفيز ملموس للزيادة في الاستثمار المنتج وتنمية الإمكانيات المادية والبشرية لإنتاج الدخل الحقيقي في المجتمع. إن التمادي في الاستمرار في إضعاف القدرة الشرائية للمستهلكين والسعي إلى ضرب الحركات النقابية لا يمكن تفسيره إلا بجهل أو تجاهل الحكومة للروابط المتينة التي تميز العلاقة ما بين النمو الاقتصادي والزيادة في متوسط نصيب الفرد من الدخل الإجمالي المحلي الحقيقي. وعندما نتحدث عن معدل النمو الاقتصادي الحقيقي، نعني به الزيادة في معدل دخل الفرد النقدي بنسبة تفوق بشكل واضح معدل التضخم. وعليه، يتضح، من خلال هذه القاعدة الاقتصادية، أن الحكومة، من خلال لجوئها المتكرر إلى الزيادة في الأسعار، وعلى رأسها الزيادة في أسعار المحروقات، أنها لا تحس بأي حرج في قضائها على أبرز مقوم لتحقيق النمو الاقتصادي. فبهذه الزيادات المتكررة وغير المبررة اقتصاديا، يكون المغرب قد مر إلى وضعية حرجة قد يكون فيها معدل التضخم قد تجاوز زيادة دخل الفرد النقدي، أي الوصول إلى وضعية يكون فيها معدل النمو الحقيقي سالبا. نقول هذا بدون أن نستحضر كون ارتفاع نصيب الفرد من الدخل المحلي الإجمالي يبقى مرهونا إلى حد بعيد بضرورة تحقيق معدل نمو اقتصادي وطني يفوق معدل النمو الديموغرافي، وكون هذا الارتفاع في الدخل يجب أن يكون قارا وعلى المدى الطويل للحيلولة دون السقوط في ما يسمى بالنمو العابر. وعليه، لا يمكن الإعلان عن تحقيق ارتفاع حقيقي في نسبة النمو الاقتصادي إلا في حالة تحقيق زيادة ملموسة في نصيب الفرد من الدخل، وأن تكون هذه الزيادة حقيقية وليست نقدية (لتجنب الوهم النقدي)، وأن تكون على المدى البعيد وليست عابرة. كما أن الإقرار الإحصائي بتحقيق نمو اقتصادي معين لا يمكن اعتباره نموا حقيقيا ودائما إلا في حالة ما إذا أحدث تغيرات في الهيكل والبنيان الاقتصادي، وساهم بشكل ملموس في تحقيق العدالة الاجتماعية في مجال توزيع الدخل. وعندما يتم الحديث عن تغيير الهيكل بالنسبة لوضعية بلادنا الاقتصادية، فإن ذلك يعني توسيع الطاقة الإنتاجية المغربية والمرور من إنتاج المواد الأولية إلى المواد المصنعة.
أما ما تتبعه الرأي العام من هجوم مقصود على «الطبقة الوسطى» (الطبقة الإدارية بالنسبة للمنظومة الليبرالية الجديدة)، لا يمكن أن نجد له تفسيرا في العلوم الاقتصادية، بل هو مجرد قرارات وإجراءات خضعت لحسابات تكتيكية تمت بمنطق «حساب البقال». أما من الناحية الاقتصادية، فمعادلة سنجر للنمو الاقتصادي معروفة ومرتبطة بثلاث متغيرات أساسية : الادخار الصافي (جزؤه الأكبر هو مجموع ادخار الطبقة الوسطى)، وإنتاجية رأس المال (إنتاجية الاستثمارات الجديدة الممولة من الادخار)، ومعدل نمو السكان. وعندما أثرت عبارة «منطق البقال»، لأميز هذا المنطق عن المنطق السياسي للفاعل الاستراتيجي، أردت من خلال ذلك الإشارة إلى أن المبادرات السياسية التاريخية لمحاربة الفقر في المجتمعات لم تخضع يوما لمنطق «الصفقات السياسية»، أي لم تخضع لنوع من «الترخيص» لتمويل محاربة الفقر من خلال الهجوم «الممنهج» على مكتسبات الطبقة الوسطى ومحاولات إضعاف قدرتها الشرائية والاحتجاجية على السواء (الاقتطاع من الأجور أيام الإضراب عن العمل). وهنا أذكر رئيس الحكومة بزمن تحريض أولياء وآباء التلاميذ والتلميذات ضد رجال التعليم في الأيام العصيبة، ومحاولات خلق الفتنة ما بين الفئات الاجتماعية بالمغرب الموحد.
> خلاصة
إن الحل في اعتقادي بالنسبة لبلادنا، لتعزيز المكتسبات وتحقيق التراكمات المطلوبة سياسيا واقتصاديا، يتطلب اليوم نضالا جادا على المستويين الاقتصادي والسياسي. إن النضال من أجل الديمقراطية والحريات والحقوق سيبقى دائما ناقصا وبدون وقع قوي على الواقع الاجتماعي والثقافي ما لم يواكبه نضال مؤسساتي من أجل الوصول إلى نمط تنموي متجدد، نمط يوفر فرص العمل الكافية، ويرفع من القدرة التنافسية للاقتصاد الوطني، ويحقق قدرة إنتاجية مستقلة. إن بلادنا في الحاجة إلى شراكة قوية بين كبار المسؤولين في الدولة، والمؤسسات الإنتاجية المؤممة الكبرى، ومنظمات أرباب العمل، والجامعات والمدارس العليا والمعاهد المتخصصة في التكوين المهني والتقني. تحتاج بلادنا إلى منظومة تحفيزية لتشجيع الأبحاث والابتكار وتطوير القدرات الإبداعية في الإنتاج، منظومة تساهم بالقوة اللازمة في خلق نوع من التوازن ما بين مجالات الصناعة الدقيقة والخدمات التواصلية الحديثة وبين الصناعات الثقيلة المعتادة والصناعات الغذائية والتجهيزية. لقد حان الوقت للقطع النهائي مع اقتصاد الريع، والاستمرار في الاعتماد أكثر على تحويلات المغاربة المقيمين بالخارج، ومداخيل السياحة الدولية، وتصدير المواد الأولية الخام والمنتوجات الفلاحية الطبيعية.