الخطاب السلفي وتحطيم العقل- قراءة وقراءة نقدية في الفكر السلفي
(القسم الثاني- قراءة نقدية في الفكر لسلفي (18من 28)
بقلم /د.عدنان عويّد
(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون” (البقرة 134).
تحديات الفكر الجبري للإنسان : (B)
4– تبخيس الرأي والرأي الآخر:
بينا في القسم الأول من هذه الدراسة ما المقصود بالرأي وما هو موقف أهل السنة والجماعة منه, بل ما هو موقفهم من علم الكلام برمته, حيث جاء عندهم أن علم الكلام لا يصلح لاستنباط أصول الدين ومعرفة الله, وإن النصوص الإسلامية من قرآن وسنة نبوية وما أقرته الجماعة من أهل السلف فيها ما يكفي من الحجج العقلية والبراهين المنطقية لمجادلة المخالفين ودعوتهم إلى الإسلام. فالمنهج السلفي في مسألة موقفه من علم الكلام يقر بأن هذا المنهج لديه مجموعة قواعد يستند إليها, وقد أشرنا إليها وهي :
إعلاء النقل على العقل, ورفض التأويل بغير دليل, وكثرة الاستدلال بالآيات والأحاديث والإقلال من الرأي الشخصي عند الكلام عن الدين.
إن محاربة العقل والإرادة لدى الإنسان ستؤدي بالضرورة إلى محاربة الرأي, فإبداء الرأي وبخاصة في قضايا الشرع والتشريع, هو خروج عن مقدسات أهل السنة والجماعة, وبالتالي يعتبر هذا الخروج بدعة ويصل أحياناً إذا وظف سياسياً إلى درجة الكفر والزندقة والخروج عن الجماعة والإقرار بمحاربتهم, وهذا ما مورس تاريخياً ضد المعتزلة والشيعة وكل من قال بالرأي, بكل طوائفهم دون تمييز من قبل المتطرفين والغلاة السنة. فالصراعات السياسية على السلطة كان لها تأثيرها الواضح والكبير على مسألة النص الديني ذاته كما اشرنا في موقع سابق, حيث لجأ الطرفان للاستعانة بهذا النص تفسيراً ووضعاً لخدمة مصالحهما السياسية. فالشيعة المعتدلة مثلاً, الذين حاربهم الأمويون والعباسيون, ومنعوهم من الوصول إلى الخلافة, عملوا على توسيع دائرة المباح بعد غيبة أو اختفاء الإمام الثاني عشر (محمد بن الحسن), 329هـ, حيث انتهت عندهم مسألة الاحتكام للنص الذي يقول به آل البيت, وبالتالي لم يعد المرجع الفقهي لمستجدات الحياة القرآن والسنة والحديث وأقوال الأئمة فحسب, وإنما فتحت قضية الاجتهاد على العقل وحرية الإرادة, وقد برر الشيعة ذلك, أي مسألة حرية الإرادة والأخذ بالرأي, استناداً لموقف الإمام علي منه, حيث يقول الطبطبائي : ( من بين جميع الآثار التي تنسب إلى الصحابة ينفرد الإمام علي بن أبي طالب بخطابه وبيانه المبهر في معرفة الله تعالى بأنه يتصف بالتفكير العميق جداً ).(66).. هذا وأن الشيعة اليزيدية التي حملت السيف ضد السلطة القائمة مطالبة بالخلافة كما هو معلوم, قد انحازت إلى الملكة الفكرية اللاسلفية, أي إلى مَلَكَةِ المعتزلة التي تنحاز بالضرورة إلى العقل الكلي وحرية الاجتهاد .
فهذا هو المؤسس النظري للمذهب الشيعي مؤسس المذهب الجعفري, الإمام جعفر الصادق المتوفى سنة 148هـ يبين رأي الشيعة في مسألة الرأي بعد ما لقوا من الحصار الشديد من البيتين الأموي والعباسي وضغطهما على آل البيت وشيعتهم, بل وحتى لعن الإمام علي على المنابر: (إن الشيعة يرفضون المذاهب الأخرى القائلة بالرواية أو الخبر أو القياس, أو الإجماع. إن الشيعة يقولون بالنص فقط ويرفضون الإجماع, على اعتبار أن ما يقوله الأئمة الإثنا عشر معصومون عن الخطأ, وما يقولونه موحى به لهم, فالإمام عندهم بمرتبة الرسل والأنبياء.).( 67).
أمام هذا الموقف الشيعي الرافض لمصادر التشريع السنية كمصدر رئيس ووحيد, وأمام فسحهم المجال واسعاً لسيادة دور العقل الرأي والتفكير وحرية الإرادة, بعد غبية الإمام الثاني عشر (بغض النظر هنا عن رأينا في مسألة العصمة التي سنقدم رؤية نقدية لها في مكان لا حق من هذه الدراسة ), كانت هناك في المقابل مواقف الموالين للسلطة القائمة المناوئة لهذا الموقف سياسياً ودينياً, والمبخسة بحق العقل والرأي. وسنعرض هنا إضافة لما عرضناه سابقاً في هذا الاتجاه, أهم آراء مشايخ أئمة السلفية من أهل السنة والحديث في مسألة الرأي, كي يتبين لنا حالة الاحتقار للرأي عندهم, وبالتالي ما تتضمنه من احتقار للإنسان ذاته الذي كرم الله عقله ورأيه ومعرفته الشخصية بتنزيل أول آية تقول : (أقرأ باسم ربك الذي خلق.) .
لقد روى عبد الله عن أبيه أحمد بن حنبل قائلاً: ( سمعت أبي يقول : لا تكاد ترى أحداً نظر في الرأي إلا وفي قلبه دغل). أي فساد.(68). وله قوله الشهير أيضاً : (إن الحديث الضعيف عندي أفضل من الرأي.).
سئل الشعيبي عن النكاح فقال لمن سأله : (إن أخبرتك برأيي فَبُلْ عليه.). ويقول ابن القيم عن هذا الرأي مستغرباً: ( فهذا قول الشعيبي في رأيه, وهو من كبار التابعين, ولقد لقي مائة وعشرين من الصحابة, وأخذ عن جمهورهم .) . كما يقول ابن تيمية عن السنتيلتي : ( إنه قيل للسختياني ما لك لا تنظر في الرأي ؟. فقال أيوب: قيل للحمار مالك لا تجتر قال أكره أكل الباطل . ).(69).
قال مالك بن انس : ( رآه القعنبي يبكي فقال له: يا أبا عبد الله ما الذي يبكيك؟. فقال له : يا ابن قعنب ومالي لا أبكي؟.!, ومن أحق بالبكاء مني ؟!, والله لوددت أني ضربت بكل مسألة أفتيت فيها بالرأي سوطاً, ولقد كانت لي السعة فيما سبقت إليه, ليتني لم أفت بالرأي. )(70).
هذا وقد ظلت مسألة الصراع على السلطة ولم تزل تشكل المحور الأساس في تحذير وبلورة الصراع بين من يقول بالجبر ومن يقول بالقدر, وقد وصل هذا الموقف إلى ذروته مع وصول المعتزلة إلى السلطة في عهد المأمون والمعتصم والواثق, ومع سقوط الموقف القدري على يد الخليفة العباسي المتوكل كما اشرنا في موقع سابق, وصعود أهل السنة والجماعة إلى دفة القيادة الفقهية عُدَ القول بالإرادة الإنسانية بدعة لأفعاله وقدرته. أي بدعة منكرة وإحداثاً في الدين.
وأحب هنا أن أقف قليلاً عند مسألة ذات دلالات عميقة تتعلق بموقف أهل السنة والجماعة من أصحاب الرأي في الدولة الإسلامية في العصر العباسي وهو العصر الذي سادت فيه قضية الصراعات الفكرية ما بين أصحاب العقل وأصحاب الرأي, بعد أن تدخلت في هذا الصراع الدولة ذاتها (الخلفاء), حيث شكلت محاكم تفتيش لكل من التيارين كما هو معروف تاريخياً وبخاصة في الفترات الزمنية التي سيطر فيها المأمون والمعتصم والواثق على الخلافة, وهم الذين تبنوا الفكر ألمعتزلي القدري, وراحوا ينكلون بأصحاب النقل ومن اختلف مع القدرية في مسائل عديدة وفي مقدمتها قضية خلق القرآن والتجسيد. وكذا كان الحال مع وصول “المتوكل” إلى الخلافة وهو الذي ناصر أهل السنة والجماعة ضد القدرية, وراح ينكل بهم أيضاً على آرائهم, ويقيم لهم محاكم التفتيش.
أمام مسألة الصراع الفكري/ السياسي هذه, ومن خلال القراءة النقدية للتوجهات الفكرية لكلا التيارين أو الاتجاهين المتصارعين, فقد تبين أن أصحاب الرأي (القدرية) كانوا أكثر فهماً للإسلام من أهل النقل من جهة, وأكثر قدرة على إقناع الآخرين به من أهل النقل من جهة ثانية. فهذه المصادر التاريخية تذكر كما ورد في كتاب (ضحى الإسلام) لأحمد أمين ص. (358) م ,( ان ملك السند طلب من الخليفة الرشيد أن يبعث إليه من يناظره في الدين, فبعث الرشيد إليه قاضياً لا متكلماً, لأن الرشيد كان قد منع الجدال في الدين وحبس علماء الكلام, وعندما قابل القاضي من اعتمد للنقاش من قبل ملك السند, سئل القاضي من قبل محاوره : قل لي هل إلهك (الله) قادر أن يخلق مثله؟. فقال القاضي هذه المسألة من علم الكلام وهي بدعة وأصحابنا ينكرونها. فكتب ملك السند إلى الرشيد يخبره بما جرى فقامت قيامة الرشيد وضاق صدره وقال: أليس لهذا الدين من يناضل عنه؟. فقالوا له بلى يا أمير المؤمنين, هم الذين نهيتهم عن الجدال في الدين, وجماعة منهم في الحبس. فقال : أحضروهم , فلما حضروا قال ما تقولون في هذه المسألة؟, فقل صبي من بينهم: هذا السؤال محال, لأن المخلوق لا يكون إلا محدثاً, والمحدث لا يكون مثل القديم , وبالتالي استحال أن يقال يقدر على أن يخلق مثله أو لا يقدر. فقال الرشيد وجهوا إليه بهذا الصبي.). هذا ويذكر المصدر ذاته بأن “أبي هذيل العلاف” شيخ المعتزلة, قد أسلم على يديه أكثر من ثلاثة آلاف رجل.) ص359.
ما أريد قوله هنا هو: إن أصحاب الرأي في الإسلام لم يكونوا كفاراً, وإنما كانوا مسلمين يؤمنون باله وبكتبه ورسله ويعملون على نشر الإسلام ودعمه بما يدعون إليه بالعقل والمنطق والحجة, لا كما يصفهم أهل السنة والجماعة بأنهم كفار وملاحدة وزنادقة.
كاتب وباحث من سورية
لنشرة المحرر
28 غشت 2014