يسبح العالم العربي الإسلامي بكامله في بحر أفكار لا حصر لها تُغمِّسه يوميا في تناقضات أصبح من العسير تجاوزها لتتضح الرؤية و يستقيم الطريق. ومرد هذا في اعتقادنا هو أننا عاجزون عن القيام بنوع من تركيب الأفكار وفحصها بالتأمل العميق بإعمال العقل النظري و ليس العقل العملي البراغماتي، الذي نستعمله بلا هوادة مُتوهمين بأنه يقودنا إلى رؤية الواقع بموضوعية و حياد كاف من أجل الفعل فيه بأخذ مسافة إبستمولوجية ضرورية وليس اختيار الإبحار في محيطات الأفكار الرائجة والأطروحات المستهلكة. وبهذا أمكن القول بأن خيبة أمل الحراك العربي للسنين الأخيرة هو خيبة أمل في مستوى تعامل مفكرينا مع الأحداث، التي لم تفرز تنظيرات ذكية، بقدر ما تقوقع المفكر في زاوية وصف معينة، وبهذا غلب وصف اندلاع غضب الربيع العربي على عملية تفكيكه وفهمه من الداخل واستشراف نتائجه، السلبية منها الإيجابية.
يسبح العالم العربي الإسلامي بكامله في بحر أفكار لا حصر لها تُغمِّسه يوميا في تناقضات أصبح من العسير تجاوزها لتتضح الرؤية و يستقيم الطريق. ومرد هذا في اعتقادنا هو أننا عاجزون عن القيام بنوع من تركيب الأفكار و فحصها بالتأمل العميق بإعمال العقل النظري و ليس العقل العملي البراغماتي، الذي نستعمله بلا هوادة مُتوهمين بأنه يقودنا إلى رؤية الواقع بموضوعية و حياد كاف من أجل الفعل فيه بأخذ مسافة إبستمولوجية ضرورية وليس اختيار الإبحار في محيطات الأفكار الرائجة و الأطروحات المستهلكة. و بهذا أمكن القول بأن خيبة أمل الحراك العربي للسنين الأخيرة هو خيبة أمل في مستوى تعامل مفكرينا مع الأحداث، التي لم تفرز تنظيرات ذكية، بقدر ما تقوقع المفكر في زاوية وصف معينة، وبهذا غلب وصف اندلاع غضب الربيع العربي على عملية تفكيكه وفهمه من الداخل واستشراف نتائجه، السلبية منها الإيجابية. قاد هذا الفقر الفكري إذن إلى شيئين خطيرين: احتواء حركات الإحتجاج هذه من طرف ديكتاتوريات لا تختلف عن بعضها إلا في اللباس الخارجي و إفراز وضعية احتدم فيها الصراع بين الحداثيين و الرجعيين، كل بمثله العليا و براغماتيته الواضحة، على حساب رؤية شاملة، واعية بما فيه الكفاية للظرفية الراهنة , واضعة المصلحة العامة للشعوب العربية المسلمة في قمة أولوياتها و ليس اللهث وراء السلطة بكل الوسائل و لو على حساب مسح الأمة من على خارطة الكرة الأرضية. إذن، في غياب كل تواصل إيجابي بين الفرقاء، اتضح بأن الحداثة المأمولة و محاولات تسييس الإسلام هما عنصران يفرقان بالضرورة، يُشعلان فتيل الحروب الصغيرة و الكبيرة، و يكون الخاسر الأول و الأخير هو الإنسان العربي المسلم.
لم نكترث في تفكيرنا في الحداثة الغربية في أصولها الفكرية الحقيقية، بل لم نتجاوز لحظة الإنبهار و اعتبارها العصى السحرية التي يمكنها إنقاذ الأمة من كل أمراضها، بل لم نع البتة بأن الحداثة في صيغتها الحالية قادتنا أفرادا و جماعات إلى اختزالها في مكون وحيد، و هو أخطر مكوناتها، ألا و هو جانبها التقني. هذا الجانب بالضبط هو المشكل الحقيقي للحداثة، حتى في أوطانها الأصلية، لأنه يقود إلى منطق مناقض تماما لعقل الحداثة الفكرية، التي كان هدفها الأول و الأخير هو تنمية الإنسان و ليس آلات تحكم سيطرتها على هذا الأخير، موهمة إياه بأنها تساهم في حريته، في الوقت الذي تُقَيِّده يوميا بقيود استهلاك و خلق إنسان جديد يحمل في ثنايا وجوده كل المتناقضات. لم يكن العالم الإسلامي مهيئا بما فيه الكفاية لا فكريا و لا روحيا لاستقبال الحداثة، لأنها أُقْحِمَت في العالم العربي المسلم و هو في عز استعماره من طرف الدول الغربية، و هو نائم في سبات عميق في جهله و فقره المادي و المعنوي، متكئا على وسادة دينية موروثة، مليئة بخرافات وأساطير ليست لها أية علاقة بدينه ولا بمقوماته الروحية.
مظاهر هذه المتناقضات كثيرة لا يمكن حصرها في نص قصير كهذا. من أهمها أن كل حياة العربي المسلم تدور حول فهم لاواع خاطئ لمنطق الإستهلاك. أصبح هذا الأخير الهدف الأول والأخير للإنسان العربي، الذي لم يعد يهتم أساسا بضروريات الحياة، بل غطس في اللهث على الثانويات و على كل ما هو براق من السلع و استقدام آلات و معدات منزلية و بضائع تساهم يوميا في استيلابه و تركيعه للمدبر الأول و الصانع الأصلي لهذه الأشياء. يتباهى المرء بامتلاكه لهذه الآلة أو تلك، و لم ينتبه و لو للحظة، بأنها هي التي تمتلكه و تؤثر في حياته يوميا، بل تغيرها سلبيا و دون أن يعي بأن كل هذه السلع المتدفقة هي خطر حقيقي على صحته الجسدية و على بيئته و اقتصاده القومي و القطري، بل حتى الإقليمي.
تمظهر آخر يوضح بما فيه الكفاية خطر عدم استيعاب العربي المسلم للحداثة و هو هذا الفهم المقلوب لمفهوم الفردانية بكل خصوصياته الفلسفية و الميتافيزيقية، بما في ذلك الحرية الشخصية. فقد انفجر هذا المفهوم في الذات العربية المسلمة و شتتها تشتيتا، بحيث أنها أصبحت نرجسية فردية و جماعية و أفرزت لامبالاة عامة اتجاه الواقع الإجتماعي و الإقتصادي و السياسي، بل أصبحت المصلحة العامة غريبة في مجتمع لا يبحث أفراده إلا على مصالحهم النرجسية الحضيضية و لو على حساب كرامتهم الإنسانية الأنطلوجية. أصبحت المحرمات مُحللة و أصبح قتل الغير من أجل إشباع النرجسية الذاتية معمول به، حتى و لو تعلق الأمر بالأم أو الأب أو الزوجة و الأطفال. هذا النوع من الجرائم الجديدة، هي تعبير واضح على أن النرجسية هي التي أُنْتِجَت في لاوعي الفرد العربي المسلم و ليس الفردانية، كمبدأ وجودي يضمن حق الإختلاف عن الآخرين و يعكس وعي الفرد، ليس بحقوقه فقط، بل قبل كل شيء بواجباته اتجاه ذاته و اتجاه الآخرين.
هناك نتيجة مرتبطة ارتباطا وثيقا بهذا الفهم المقلوب للفردانية و المُصاحبة بالاستحمام في عالم استهلاك محموم، و يتعلق الأمر في رفع كل كرامة الجسد، الذي أصبح سلعة معروضة في المزاد العلني و مُستباح لكل العيون المكبوتة. فالجسد العربي أصبح في ملك الشركات العالمية الكبرى المتخصصة في إنتاج و ترويج مواد تجميل و لباس، مُوهمة الإنسان العربي، رجلا كان أو امرأة، بأن أهم شيء في الحياة هي بيع الواجهة بكل السبل؛ مُقحمة اللاوعي العربي في تناقضات جسد-نفسية لا حصر لها: تبرج مُصاحب للجلباب و الحجاب، و بيع اللحم البشري بأبخس الأثمنة من أجل “ليلة حارة” أو “متعة عابرة”، و كأن الإنسان العربي ينتقم من فقره و حرمانه و جهله و قمع لجسده. أصبح الشارع العربي عاهر بكل عمق المصطلح، و أقصى العهارة هي عهارة الفكر و السياسة و رجال الدين و اللاوعي الفردي و الجماعي.
في المقابل, نجد بأن فهم الدين قد عرف هزات عميقة و أصبح أداة قهر و سلاح سياسي في أيدي متطرفين، يتوهمون بأن ساعة الخلاص قد اقتربت و بأن مضاعفة الضربات ضروري للتعجيل بقيام الساعة. و هذه الأخيرة ليست هي القيامة، بل ساعة استيلائهم على زمام الأمور، برؤى أقل ما يُقال عنها أنها شوفينية تصفوية. أصبحت هذه الحركات الدينية-السياسية أوكار طيور ضالة، أنهكتها متناقضات المجتمع العربي و تحاول شراء خلاصها بالتضحية بالجسد المستباح، على أمل أن يكون قربانا يكفر عن كل السيئات التي اقترفت في حقه. إذا كانت عهارة الجسد المرتبطة بذاك الفهم المقلوب للحداثة تبحث عن إشباع كيفما كان نوعه، فإن عهارة الجسد المرتبطة بالدين المتطرف هي بحث عن نفس الإشباع، لكن بطرق مختلفة. لم يعد للجسد أية قيمة أخرى في نظر المتطرف، من غير إحراقه و تعذيبه و تشتيته في معارك جهادية، تضمن له – في وهمه- الجنة التي حُرم منها في هذه الدنيا.
أضف إلى ذلك كون بعض القيم الأسرية و الإجتماعية التي كانت بمثابة تلحيم للعائلة و المجتمع تعرف تقهقرا ملموسا في ممارساتنا و سلوكنا اليومي. فالأخوة و الصداقة مثلا، لم يعد لها أي أساس قيمي من غير ما يجنيه المرء ماديا أو معنويا منها. أي تغليب منطق البراغماتية في مثل هذه العلاقات. و حتى العلاقة الزوجية لم تنج من مثل هذه الأمور، فغالبا ما يطغى على مثل هذه العلاقات نفس المنطق النفعي بدرجات متفاوتة و بحدة غير معهودة. لم يعد ما يجمع بين الزوجين تلك المُثُل الراقية مثل التضحية من أجل الآخر و بناء عائلة قوامها التآزر و المحبة، بقدر ما نلمس طغيان المصلحة الشخصية و الحسابات الدقيقة لما قد يجنيه المرء من زواجه أكانت هذه المصلحة مادية أو معنوية. لا يتعلق الأمر هنا بالمصلحة المشتركة لكلا الطرفين، بل بما قد يحصل عليه هذا الطرف أو ذاك من الآخر. و تجليات نتائج هذا الأمر تكمن في ارتفاع معدل الطلاق بعد أقل من سنتين في تجربة الزواج في العالم العربي الإسلامي كأقل خسارة إنسانية أو اندلاع اختلافات تصل في بعض الأحيان إلى التصفية الجسدية للآخر و تشريد الأطفال و رميهم في قمامة مُجتمعية، مُنْتِجِين بذلك طوابير أجيال بلا هوية و لا مصير و لا حق في الحياة، تكون في غالب الأحيان لقمة شهية لأباطرة المخدرات و العهارة و المتشددين دينيا. أما الجوار كقيمة مجتمعية مهمة، فإنها أصبحت ناذرة، حتى في العمارات الشاهقة التي تأوي مئات الناس. في غالب الأحيان لم يعد المرء، السابح في بحر نرجسيته الذاتية، يهتم حتى بمن يسكن قُبالته مباشرة في نفس العمارة و لا يعرف عنه إلا شكله الخارجي، و لربما لا يتبادلان التحية إذا ما التقيا صدفة في سلم العمارة. أصبح سكان الحواضر “مُونَادَات” قائمة بذاتها، معزولة عن بعضها البعض و مقحومة في تنافس استهلاكي مرضي، نابع من منطق التباهي و محاولة إظهار الواجهة الأمامية في أحسن حال.
في نفس السياق نجد أن من يمتلك ولو بصيصا بسيطا من السلطة يستغل هذه الأخيرة لإشباع نزواته النرجسية و كبته المادي أو المعنوي، بما في ذلك الغريزي، في ميدانه. و أخطر تجل لهذا هي العلاقة التربوية و البيداغوجية التي تجمع مربين و معلمين و أساتذة بمن اتمنوا عليهم. اندلعت في السنين الأخيرة ظاهرة خطيرة في استغلال التلاميذ و الطلبة إما ماديا في شكل دروس “خصوصية” أو جنسيا من طرف أساتذة غاب فيهم و عنهم الضمير المهني و الأخلاقي، حتى أصبحت أطوار تعليم بعينها “مصانع” تتخرج منها بائعات الهوى و أصبحت أبواب بعض الجامعات أو الإقامات الجامعية مسارح مواعيد “العشاق” و الباحثين عن اللذة الحيوانية بأبخس الأثمان؛ دافعين الطلبة إلى نوع من “الدفاع عن حرمة الجامعة” بتعرض سبيل “صيادي الهوى” و اندلاع نزاعات حقيقية “للقضاء” على ما يسمى في لغة الطلبة “الميوعة الجنسية”؛ و هي نزاعات لا تكون بالضرورة نزاعات قيم أخلاقية مبدئيا، لكنها ملفوفة بنوع من “الحسد” الإستهلاكي و الرغبة في نفس الجسد المباح الذي “يتمتع” الآخر به، صاحب السيارة المُركنة في باب الحرم الجامعي مباشرة.
تقود كل هذه العوامل و غيرها كثير إلى فقدان الهوية و زعزعة الشعور بالإنتماء إلى وسط اجتماعي يشبه في نظر الكثيرين بركة أخلاقية قدرة، اجتمعت فيها ميكروبات الحداثة و الدين المتطرف، لتُفرز إما اللامبالاة اتجاه هذا المجتمع الذي ينبذ فيه المجتمع الفرد، و هذا الأخير المجتمع و يعزز النرجسية الذاتية بكل النتائج السلبية لهذه الأخيرة على الأفراد و المجتمع.
البديل الحقيقي في نظرنا هو إيجاد طريق ثالث، لا يروم إلى التوفيق بين الحداثة كما نعيشها اليوم و بين التطرف الديني؛ لأنهما قطبين متناقضين و متنافرين، كلما حاول التطرف الديني محاربة هذا النوع من الحداثة، كلما تقوت هذه الأخيرة و أفرزت آلاف ردود الفعل و طورت ميكانيزمات دفاع لا تخطر على البال. و كلما حاولت هذه الحداثة القضاء على التطرف الديني كهدف أسمى أو تحجيمه كحد أدنى، كلما انبهرت في صلابة مقاومته و عناده، حتى و إن كان المنضوون له لا يمثلون إلا نسبة قليلة جدا من عموم المسلمين. الطريق الثالث هو مسؤولية فئتين متكاملتين، قد يكون خلاص الأمة رهين باستعدادها للتضحية من أجل هذه الأمة. الفئة الأولى مُمثلة في المفكرين الأحرار، الذين استوعبوا و هضموا مقومات الحداثة الفكرية و الفلسفية و الأيديولوجية، و الذين بإمكانهم أخذ مسافة إبستملوجية منها لفحصها و عدم الوقوف في حدود “طُرق الحطب” التي تفرضها، بل تتبع المسارب الضيقة لغاباتها الكثيفة المعقدة. كل “داعية حداثي” لم يفقه العمق الفكري للحداثة، لا يختلف البتة عن أي “داعية ديني”، لم يفقه من دينه إلا القشور. أما الفئة الثانية فهي فئة “رجال الدين” العارفين بدينهم و المستعدين لأخذ موقف مما وُرث و مما هو مفروض إلى حد الساعة على عامة المسلمين من أيديولوجيات سياسية في ثوب ديني. ما تحتاجه الأمة المسلمة حاليا هم فقهاء ينغمسون في سبر أغوار فلسفة الحياة في الإسلام و حب هذه الفلسفة كينونة غائبة في الإسلام الشعبي، و ليس إلى إحياء فترات تاريخية بعينها قاد فيها الرسول (ص) دعوته بحد السيف ضد أعدائه. من المستحيل الرجوع إلى هذه الفترة التاريخية في الإسلام، لأنها كانت محصورة على محمد (ص) وحده و من يُهم عامة المسلمين بأنه “يجاهد” من أجل هذا الهدف، فإنه ينصب نفسه دون أي سند لا ديني و لا قانوني في منصب النبي، و هذا عين الحرام. فتاريخ النبي الأمي (ص) لن يتكرر في تاريخ البشرية و لن يستطيع أي إنسان، و ليس من حق أي كان، الزعم بأنه “يجاهد” باسم الرجوع إلى هذا المنبع. ما هو أساسي أمام الفقيه المعاصر هو إعادة النظر في السنة و حتى فيما وصلنا من الذكر الحكيم، لأن كل من له دراية بدينه يعرف حق المعرفة بأن أيادي قذرة تلاعبت بكتاب الله و “اجتزت” منه ما كانت تود اجتزازه خدمة لمصالح بعينها. فلسفة الحياة في الإسلام هي المطلوبة الآن و ليس بفتح النقاش من جديد في قضية “الفرقة الناجية” و استباحت دم كل الفرق الأخرى.
ما يجب التركيز عليه في هذا الطريق الثالث هو التخلص النهائي من أشباه المفكرين في الحداثة و أشباه الفقهاء في الدين، و بالخصوص أولائك الذين يضعون أقلامهم و فكرهم رهن إشارة “والي الأمر” و “أمراء المؤمنين”. ما نحتاج إليه هم مفكرون لا يعتبرون ما يتقاضونه من أجر على فكرهم علاوة من “أصحاب القرار”، بل حقا طبيعيا لما يقدمونه للمجتمعات العربية الإسلامية من خدمات من أجل توفير أسس فلسفة الحياة في الإسلام، و ليس فلسفة الموت والتدمير. إن تكامل عمل هاتين الفئتين من المفكرين ضروري و حاسم لتثبيت أسس الطريق الثالث هذا.
عن جريدة الاتحاد الاشتراكي
27 غشت 2014