مع تأزم الوضع الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط، بفقدانها حلفاءها التقليديين بعد الثورات العربية، وغياب الفاعلية والتأثير في أزمات المنطقة مثل سوريا، وتعثر عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وصولا إلى تنامي التنظيمات “الجهادية” في العراق، بدأ الخبراء الأمريكيون يطرحون بدائل أمام الإدارة الأمريكية للتعامل مع قضايا المنطقة التي تزداد تأزما مع مرور الوقت.
ومن تلك المحاولات، مقالة عالم السياسة الأمريكي “ستيفن والت”، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد، مؤلف دراسة اللوبي الإسرائيلي والسياسة الخارجية الأمريكية، والتي نشرها مؤخرا على مدونته بموقع مجلة “الفورين أفيرز”، والتي يقدم فيها خروجا آمنا للولايات المتحدة من المنطقة، بما يضمن لها مصالحها القومية، وعدم الضرر بالإقليم بشكل أكبر.
تأزم الوضع في الشرق الأوسط
يبدأ والت مقالته بقوله إنه مع كل مرة تتدخل فيها الولايات المتحدة في إقليم الشرق الأوسط، فإن أحواله تسوء، لذا حان وقت الرحيل، وعدم النظر للخلف. ويحاول الكاتب في مقالته توضيح مدى سوء الوضع الذي وصل إليه الشرق الأوسط. فهناك حرب أهلية على أشدها في سوريا، والحرب بين إسرائيل وفلسطين، وإراقة المزيد من الدماء (معظمه فلسطيني)، وكذلك فإن تنظيم “الدولة الإسلامية” في العراق وسوريا بسط نفوذه على مساحة كبيرة من الأراضي العراقية، والمسئولون في بغداد يتم قنصهم.
ويستطرد والت أن الأوضاع في ليبيا تسوء على عكس ما تشدق به الصقور بعد سقوط نظام القذافي. وظهور نزاع على الانتخابات يهدد الديمقراطية في أفغانستان قد يعطي الفرصة لطالبان لتحقيق مكاسب.ويتحدث الكاتب عن مفارقة انتقاد الرئيس التركي الجديد “رجب طيب أردوغان” للنظام المصري بعد 30 يونيو، ثم ظهور ميول أردوغان الاستبدادية. ويتحدث عن أن الخلاف الدبلوماسي بين السعودية والإمارات من جهة، وقطر من جهة أخرى لا يزال غير مستقر.
يقول والت إن هذه السلسلة من الأزمات تجذب النقاد، فقد أخذ أحد المحافظين الجدد، إيلوت كوهين، يرثي سياسة الولايات المتحدة في الإقليم، ملقياً باللوم على أوباما، وتردده في حشد الأمة لشن مزيد من الحروب، فضلا عن أن آخر حرب قد شجع عليها كوهين كانت غزو العراق في مارس 2003، والتي كان ضررها يفوق بكثير أي شيء فعله أوباما.
في حين يقدم السفير السابق تشارلز فريمان، الذي أجرى دراسة على عقود من التدخل الأمريكي في المنطقة، وجهة نظر أكثر إقناعاً، إذ توصل إلى نتيجة مفادها أنه من الصعب التفكير في أي مشروع أمريكي في الشرق الأوسط الذي وصل الآن أو يوشك على الوصول إلى نهاية مأساوية.
غياب الحليف الاستراتيجي
يشير والت في مقاله إلى أن الولايات المتحدة ارتبطت خلال فترة الحرب الباردة بتحالفات قوية في المنطقة، لكنها الآن ليس لديها في الشركاء ما يجذبها لشراكتهم، حيث رأى الكاتب أن مستقبل مصر مقلق، ويكاد يتحول نظام العدالة والتنمية لأردوغان لنظام حزب واحد، والعمل مع نظام الأسد غير وارد، ومعظم معارضيه ليسوا أقوياء، والسعودية ملكية “ثيوقراطية” أصابتها شيخوخة، ويرى إيران نوعا مختلفا لهذه الثيوقراطية، وإن كان نظامها له ملامح شبه ديمقراطية، ولكن سجلها الحقوقي مزر، وطموحاتها الإقليمية مثيرة للقلق.
ويخلص والت إلى عدم وجود حليف استراتيجي، فلا الأردن الهش، ولا لبنان، ولا ليبيا، واختتمتها إسرائيل بأحداث الغضب ضد الفلسطينيين. غير أن هذه “العلاقة الخاصة” مع إسرائيل تشعل مزيداً من العداء ضد واشنطن، ويجعلها تبدو منافقة وغير فعالة في عيون العالم. كما أشار إلى أنه ذات حال الفصائل الفلسطينية، فالسلطة الفلسطينية “فاسدة”، وغير فعالة، وعناصر حماس لا يزالون يعلنون أسوأ أنواع العداء للسامية، بحسب وجهة نظر الكاتب.
وعلى الرغم من أن دولا مثل قطر والبحرين لا تزالان حليفتين أساسيتين في المنطقة لمصلحتهما الذاتية، فإنه لا يوجد في الإقليم ذاك الحليف الحقيقي الذي يمتلك رصيدا استراتيجيا أو أخلاقيا هذه الأيام.
يري والت أن الافتراض القائل إن التدخل الأمريكي في منطقة الشرق الأوسط يجعل الولايات المتحدة الأمريكية أكثر أمنا واستقرارا أضحي غير واقعي في ظل الظروف التي تمر بها المنطقة، مما جعل هذا الافتراض محل شك. حيث الكاتب الأمريكي أن نزاعات وانقسامات الإقليم الحاكمة له الآن لا تمثل أي خطر مباشر لمصالح الولايات المتحدة. إضافة إلى ذلك، فإن صراعات الإقليم هي نتيجة لفشل الحكومات التي طال أمدها، والتي تفاقمت بسبب التدخل الخارجي، مما أدى لخلافات السنة والشيعة، والإسلاميين (باختلاف مشاربهم)، وغيرهم.
بالإضافة إلى هذا الصراع على أسس طائفية في العراق، وسوريا، ولبنان، وغيرها، والشكوك المتكررة بين العرب وإيران، والصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الذي لا تزال تتكرر أصداؤه خلال العالمين العربي والإسلامي.
ترك الشرق الأوسط لمواجهة مشاكله
يشير الكاتب إلى أن ما يجب أن تتذكره الولايات المتحدة أن لها مصالح دائمة في الشرق الأوسط، وليس بالضرورة صداقات دائمة. أما فيما يخص مصالحها الاستراتيجية، فقد كان هدفها منذ الحرب العالمية الثانية منع أي قوة وحيدة من السيطرة على النفط في الخليج. ويستطرد: على الرغم مما تسببه صراعات المنطقة للولايات المتحدة، فإنها تجعل سيطرة قوة وحيدة أبعد ما يكون عن أي وقت مضى.
ويستنكر الكاتب أن تكون إيران، أو الأكراد، أو العراق، أو السعودية، أو تركيا، أو الصين، أو تنظيم الدولة الإسلامية قادرة على إدارة هذه المنطقة الواسعة والمليئة بالمشكلات، كما لا يمكن لأي منها تذليل هذه الخلافات. لذا، فإن هدف واشنطن متحقق، سواء تدخلت الولايات المتحدة أم لا.
ويضيف: أما ما سيثيره البعض عن التزامنا الأخلاقي تجاه من يعانون، وضرورة القضاء على الإرهاب، ومنع انتشار أسلحة الدمار الشامل، فكلها أهداف نبيلة، ولكن علينا أن نتعلم من الأعوام العشرين الماضية، حيث تسبب التدخل الأمريكي في مزيد من المشكلات. وأِشار إلى أن الغزو الأمريكي للعراق تسبب في ظهور تنظيم الدولة الإسلامية واتجاه إيران إلى امتلاك سلاح نووي.
لذلك، يرى الكاتب أنه على أمريكا التراجع خطوة أكثر مما عليه الآن، ولا يعني بذلك العزلة، وإنما فك الارتباط الاستراتيجي، ووضع الإقليم في مكانة متأخرة على قائمة أولويات السياسة الخارجية الامريكية. وبدلاً من حمل هذه الدول على فعل – ما نعتقده الصواب – وفي الأغلب يكون رد الفعل التجاهل، أو التوبيخ، فمن الأفضل تركها لبعض الوقت لحل مشكلاتها، وإذا أرادت إحداها المساعدة، فعليها أن تدفع ثمناً باهظاً.
ويشير الكاتب كذلك إلى أن ما يطرحه قد يعني أنه على الولايات المتحدة وقف جهودها غير المجدية لإنهاء الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني. فعلى الرغم من أنه عارض ذلك سابقاً، فإنه- على ما يبدو- لا يوجد رئيس أمريكي لديه إرادة لتحدي مؤيدى إسرائيل في الولايات المتحدة. ويؤكد أنه على الولايات المتحدة عدم تبديد وقتها وهيبتها، لتحقيق مساع عقيمة، وتكف عن التدخل إلى أن تصبح جاهزة لفعل ما هو أكثر من التملق والمرافعة. أما إذا أراد القادة الإسرائيليون المخاطرة بمستقبلهم من أجل “إسرائيل الكبرى”، فعليهم تحمل ذلك. ويؤكد أن انتهاء الأمر بإسرائيل إلى أن تكون دولة فصل عنصري، ومنبوذة دولياً، أمر مؤسف، ولكنه ليس من أهدافنا الحيوية. وإذا كان كذلك، فيجب أن يتغير.
ويرى أنه توافقاً مع ذلك، قد تنهي الولايات المتحدة مساعداتها الاقتصادية لمصر وإسرائيل، وغيرهما، ولكنه لا يتوقع أن يقوم الكونجرس فجأة باتخاذ القرار الصائب، إلا أنه يحفظ لنفسه حق الحلم بذلك.كما يشير إلى أن عرضه السابق للموضوع يؤكد أن الإقليم سيظل في حالة فوضى لبعض الوقت، أياً كان قرار الولايات المتحدة. لذلك، يرى أن إثارة السؤال الآتى مهمة جدا: هل يجب على الولايات المتحدة أن تبدد مزيداً من الدماء، والأموال على المهام غير المجدية، وبطرق تجعل شعوب الإقليم غاضبة، ويشجع قلة منها على البحث عن طرق للانتقام، أم أن عليها أن تنأى بنفسها عن كل مَن في الإقليم، وتتدخل فقط عندما يهدد الوضع عدداً كبيراً من المواطنين الأمريكيين، أو بوجود تهديد حقيقي وشيك بالسيطرة على المنطقة؟.
وفي طرحه للجوانب السلبية لهذا الأمر، من ضعف همم بعض حكومات الإقليم، وعدم مساعدتها في محاربة الإرهاب، يرى أن الهجمات الإرهابية المعادية للولايات المتحدة قد ظهرت كرد فعل لسياساتها في الإقليم، لذا يرى أن سياسة أمريكية أقل انخراطاً ستجعل هذه المشكلة أقل حدة.
ويختتم والت بأن أي أسلوب غير ذلك ستكون نتائجه أسوأ بكثير مما حدث خلال ما يربو على عشرين عاماً. ومع ذلك، يعترف بأنه لا ينفي تدخل الولايات المتحدة لأغراض إنسانية لإغاثة الأقليات الدينية المحاصرة في العراق، والمهددة بالانقراض، والمجاعات، ولكن ليس بإرسال قوات، أو طائرات، أو حتى طائرات بدون طيار، خارج البلاد، لكسب معركة لا يمكن للحكومة العراقية أو الأكراد كسبها بأنفسهم. فقد أمضت الولايات المتحدة أفضل جزء من عقد من الزمان في مطاردة هدف بعيد المنال، وكانت النتيجة كارثية، وصراعا طائفيا تسبب في الأزمة الأخيرة. ويختتم بالقول: “لذا، علينا ألا نتسبب في مزيد من الضرر لغيرنا أو لأنفسنا”.