هناك تفكير في المغرب عمره بضع سنوات يقوم على احتساب الثروة غير المادية، ذلك أن قياس هذه الثروة ‘يعتبر آلية تساعد في اتخاذ القرار’.

  عن صحيفة العرب..[نُشر في 13/08/2014، العدد: 9647

 بقلم خيرالله خيرالله

من يتمعّن في ما يدور في منطقة شمال أفريقيا يكتشف أنّ هناك بلدا طبيعيا وحيدا فيها اسمه المغرب يعيش في محيط غير طبيعي. هناك في المنطقة بلد آخر في وضع نصف طبيعي اسمه تونس. تمرّ تونس بمرحلة مخاض ليس معروفا بعد كيف ستخرج منها، على الرغم من أن المجتمع فيها أظهر قدرته على مقاومة التخلّف بكلّ أشكاله.
البلد الطبيعي، أي المغرب، سعى إلى قيام الاتحاد المغاربي بما يخدم الأعضاء الخمسة فيه ولكن من دون نتائج تذكر. فالاتحاد المغاربي تأسّس في العام 1989 في وقت كانت الجزائر في نفق مظلم دخلت فيه نتيجة العقم السياسي الذي تعاني منه الطبقة الحاكمة فيها. ولمّا عاد النظام الجزائري واشتد عوده، انقلب على الاتحاد المغاربي وصيغته، معتبرا أنّه يمتلك الأداة التخريبية التي تلبي طموحاته الإقليمية والمسماة جبهة “بوليساريو”. انقلب أيضا على الطموحات التي كان يسعى الجزائريون إلى تحقيقها، وعمد إلى إخمادها بكلّ الوسائل التي وفّرتها أموال النفط والغاز.

تذكّر النظام الجزائري، في ضوء ارتفاع أسعار النفط والغاز، أنّ الجزائر دولة غنيّة، وأنّ في استطاعتها لعب دور القوّة المهيمنة في المنطقة وتصدير أزماتها إلى الخارج، بدل الانصراف إلى معالجة المشاكل الحقيقية للبلد وهي مشاكل مستعصية، خصوصا في غياب من يفكّر في المستقبل.

لعلّ أخطر ظاهرة في الجزائر أنّ هناك من يعتقد أنّ الثروة المتمثّلة في الغاز والنفط هي ثروة أبدية. يتناسى الذين يفكّرون بهذه الطريق، وهم كثر، أنّ هذه الثروة يمكن أن تساهم في تغطية المشاكل التي يغرق فيها البلد ولكن إلى فترة قصيرة، وأنّ لا شيء يمكن أن يعوّض تطوير الثروة التي اسمها الإنسان الجزائري.

عاجلا أم آجلا، ستعود الجزائر إلى دوامة الأزمات الداخلية التي كان المغرب أوّل من ساعدها على الخروج منها في خريف العام 1988. من يتذكّر أن طليعة المساعدات التي ذهبت إلى الشعب الجزائري جاءت، وقتذاك، من المغرب حيث أدرك الملك الحسن الثاني، رحمه الله، أن لا مصلحة للمغرب في انهيار الوضع الجزائري.

المؤسف أنّه بعد ربع قرن على الانتفاضة الشعبية التي شهدتها الجزائر، خريف العام 1988، ليس هناك من يريد أن يتعلّم من التجارب الناجحة في المنطقة. على العكس من ذلك، هناك إصرار على تكرار أخطاء الماضي. هناك في الجزائر من يصرّ على بقاء الحدود مغلقة مع المغرب كي لا يرى الجزائريون ما تحقّق في المملكة التي لا تملك لا النفط ولا الغاز.

لا تزال الحدود مغلقة منذ عشرين عاما بسبب خوف النظام الجزائري من ردود الفعل المحتملة للمواطن العادي في حال زار المغرب واطلع على التطورات التي يشهدها، خصوصا منذ اعتلاء الملك محمّد السادس العرش في مثل هذه الأيّام قبل خمسة عشر عاما.

هذا لا يعني أن لا سلبيات في المغرب. الملك نفسه تحدّث في خطابه الأخير عن إيجابيات وسلبيات وطرح كلّ الأسئلة التي يمكن طرحها. من بين الأسئلة: «هل اختياراتنا صائبة؟ ما هي الأمور التي يجب الإسراع بها، وتلك التي يجب تصحيحها؟».

من أجل مستقبل أفضل لكلّ دول شمال أفريقيا، من ليبيا إلى موريتانيا، مرورا بتونس والجزائر والمغرب، من الضروري التخلّص من عقد الماضي. من الضروري تخلّص الجزائر أوّلا من عقدة المغرب، كي يصبح في الإمكان الانصراف إلى التعاون والتنسيق من أجل إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ليبيا التي تحوّلت إلى برميل بارود يهدّد المنطقة كلّها، بما في ذلك مصر التي تستعيد عافيتها شيئا فشيئا.

يفترض في جميع أهل المنطقة عدم تجاهل أنّهم يعيشون في القرن الواحد والعشرين. ولأن العالم في القرن الواحد والعشرين، ولأن التعاون بين الدول هو الذي يخدم كلّ دولة على حدة، ليس عيبا التعمّق في قراءة الخطاب الأخير لمحمّد السادس الذي تطرّق فيه إلى أنّ «رأس المال البشري غير المادي من أحدث المعايير المعتمدة دوليا لقياس القيمة الإجمالية للدول». أوضح لكلّ مواطن مغربي، ولكلّ من يعنيه الأمر خارج المغرب أنّ «الأمر يتعلّق هنا بقياس الرصيد التاريخي والثقافي لأيّ بلد، إضافة إلى ما يتميّز به من رأسمال بشري واجتماعي والثقة والاستقرار وجودة المؤسسات والابتكار والبحث العلمي والإبداع الثقافي والفني وجودة الحياة والبيئة وغيرها».

هناك تفكير في المغرب عمره بضع سنوات يقوم على احتساب الثروة غير المادية، ذلك أن قياس هذه الثروة «يعتبر آلية تساعد في اتخاذ القرار».

لم يتجاهل ملك المغرب الواقع، فهو عندما أشار إلى وجود أكبر ميناء في حوض المتوسط في المغرب، كذلك أكبر محطّة للطاقة الشمسية في العالم، قال: «إذا كان المغرب عرف تطوّرا ملموسا، فإنّ الواقع يؤكّد أنّ هذه الثروة لا يستفيد منها جميع المواطنين. إنّي ألاحظ خلال جولاتي التفقدية بعض مظاهر الفقر والهشاشة وحدّة الفوارق الاجتماعية بين المغاربة».

كلّ ما في الأمر أن في المغرب من لا يخجل من السلبيات، بل يعترف بها ويدعو إلى معالجتها. هذا هو الفارق بين المغرب وغيره. هذا هو الفارق الذي يُفترض ردمه بين المغرب وجيرانه في حال كان مطلوبا، بالفعل، تفادي الغرق في وحول الماضي القريب والاستفادة من التجارب، والعمل جدّيا على مكافحة الإرهاب بكلّ أشكاله.

في غياب الرغبة في التجاوب مع الطرح المغربي، الذي يقوم على تطوير الإنسان بصفة كونه الثروة الحقيقية في أي مجتمع، ليس أمام المملكة هذه الأيام سوى التركيز على كلّ ما من شأنه تحقيق تقدّم حقيقي يشمل «تحصين ظروف عيش المواطنين» الذي «لا يعادله إلّا حرصنا على ضمان أمنهم الروحي وتوطيد النموذج المغربي في تدبير الشأن الديني»، على حدّ تعبير محمّد السادس.

في منطقة المغرب العربي، هناك من يطرح أسئلة مرتبطة بالمستقبل وهناك من لا يزال أسير الماضي. الدليل على ذلك، أن لا سؤال في الجزائر الآن غير أين عبد العزيز بوتفليقة؟ ومن المريض الحقيقي؟ أو من مريض أكثر مِن مَن؟ هل الجزائر مريضة مثل بوتفليقة أم أن مرضها هو الأخطر؟

إعلامي لبناني

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…