الحاج الحسين برادة
أحد مؤسسي المقاومة وجيش التحرير
باسم الله الرحمن الرحيم
«إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ». صدق الله العظيم
مع إطلالة هذا اليوم المجيد، الذي يخلد للذكرى الواحدة والستين لانطلاق ثورة الملك والشعب يوم 20 غشت 1953، يحق لنا أن نستحضر أجواء هذه المناسبة العظيمة، ونرجع بذاكرتنا وبوجداننا، نحن جيل الكفاح وجيل ثورة الملك والشعب، ونشرك معنا جيل ما بعد الاستقلال، لنستحضر جميعا، وبكل عواطفنا وجوارحنا وحماسنا الوطني، أمجاد ودروس وعبر هذا اليوم العظيم.
وأول دروس هذا اليوم المجيد أن ثورة الملك والشعب لم تكن حدثا تاريخيا عابرا، ولا محطة وطنية كباقي المحطات التحريرية في حياة الشعوب، التي ذاقت في تاريخها ويلات الاحتلال والاستغلال. وإنما جسدت ملحمة عظيمة في مسيرة الكفاح الوطني، أقدم فيها ملك البلاد على التضحية بعرشه في سبيل عزة شعبه الوفي، وبادله الشعب حبا ووفاء، وقدم حرياته وحياة أبنائه فداء لملكه الأبي.
ففي ذلك اليوم الأغبر، عشية عيد الأضحى، أقدمت سلطات الحماية على محاصرة القصر الملكي بواسطة القوات الاستعمارية، ودخل الجنرال غيوم القصر على الساعة الثانية بعد الظهر، طالبا من جلالة المغفور له محمد الخامس التنازل عن العرش وتسليم الخاتم الملكي إلى الصدر الأعظم. فأجاب طيب الله ثراه بكل تحدي وطني: «ما من شيء في أعمالي وأقوالي يبرر أن أتخلى عن أمانة أضطلع بأعبائها بصفة مشروعة». فاستعر الجنرال غيوم غاضبا وهو يقول: «إذا لم تتنازلوا برضاكم عن العرش حالا، فإنني مكلف بإبعادكم قسرا». فرد عليه جلالته بكل عزم وإقدام وبكل ما لديه من إيمان بالله وعدالة بالقضية المغربية: «إني ملك المغرب الشرعي، ولن أخون الأمانة التي ائتمنني عليها شعبي الوفي، فلتفعلوا ما تشاؤون».
وأمام هذا الموقف الوطني الشامخ، الذي أعلنه بطل التحرير بكل شجاعة وإباء، أقدمت سلطات الاحتلال على تنفيذ جريمتها النكراء، بنفي جلالته ورفيقه في الكفاح جلالة المغفور له الحسن الثاني، رحمه الله، والأسرة الملكية الشريفة، إلى جزيرة كورسيكا، ومنها إلى مدغشقر.
وما أن شاع الخبر في ربوع المملكة، حتى انتفض الشعب المغربي عن بكرة أبيه، عاقدا العزم على النضال المستميت من أجل عودة الشرعية، التي كانت مقرونة لدى المغاربة بالحرية والاستقلال، فمن عملية الشهيد علال بن عبد الله يوم 11 شتنبر 1953 التي استهدف بها صنيعة الاستعمار ابن عرفة، إلى العمليات البطولية لخلايا المقاومة السرية، وصولا إلى انطلاق عمليات جيش التحرير المغربي في فاتح وثاني أكتوبر 1955 .
لقد توهم الاستعماريون أنهم بإبعاد جلالة المغفور له محمد الخامس عن بلاده، سيتمكنون من إحباط شعبه، وإدخاله في دوامة التيئيس، ليسهل عليهم إخضاع البلاد والعباد للأمر الواقع، وتركيعهما لإرادة المستعمر، فإذا بهم يصطدمون بملاحم الصمود البطولي للعرش والشعب معا، وانطلقت المقاومة المسلحة توجه ضرباتها الموجعة للقوات الاستعمارية، في المدن والمداشر والجبال والسهول والبوادي، واشتعلت المظاهرات الشعبية في مختلف أرجاء الوطن من أقصاه إلى أقصاه، وتأسس جيش التحرير المغربي وأطلق انتفاضته الكبرى، وكانت بحق ثورة ملكية شعبية هدت أركان الوجود الاستعماري وحققت النصر، وفرضت العودة المظفرة لجلالة المغفور له محمد الخامس إلى أحضان شعبه، حاملا معه بشرى الاستقلال من نير الاحتلال، ومعلنا عن الانتقال من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، من أجل بناء المغرب الجديد الحر المستقل…
وبذلك تكون ثورة الملك والشعب، كما قال جلالة الملك محمد السادس، حققت «نهاية عهد الحجر والحماية، وبزوغ فجر الحرية والاستقلال، ودخلت سجل الخلود، ليس كحدث تاريخي عابر، وإنما كمذهب متكامل، لاسترجاع السيادة، وإرساء الملكية الدستورية الديموقراطية، والقضاء على التخلف والجهل والانغلاق، وعلى هدي هذه الثورة المجيدة، أرست الإرادة المشتركة للأمة، ولجدنا ووالدنا المنعمين، جلالة الملكين محمد الخامس والحسن الثاني، قدس الله روحيهما، قواعد دولة حديثة، نقوم اليوم، بتوطيد دعائمها الاقتصادية والاجتماعية».
لقد ظل المغرب والمغاربة متشبثين بثورتهم المباركة، ثورة الملك والشعب، التي ضمت القمة والقاعدة على السواء، واستبشر المغاربة خيرا بما حققته الثورة من انتصار باهر للحق على الباطل، وانتصار للعدل على الظلم، وغلبة التحرر والاستقلال على الاستعباد والاحتلال…
ولذلك، ظل الأمل معقودا على ثورة الملك والشعب، من أجل بلوغ مقاصدها في البناء والنماء، وظلت تقاوم من أجل ذلك وما تزال، تارة يتوهج إشعاعها، وتارة يخبو ضوؤها…
وفي الحالين معا، ظلت أسرة المقاومة وجيش التحرير تدعو إلى استحضار روح ثورة الملك والشعب، وظلت تتصرف بكل وفاء لقيمها ولمبادئها، وكانت إسهاماتها موفقة ومرضية على العديد من الأصعدة، وأمكنها ذلك بفضل إحداث مؤسساتها التمثيلية سنة 1973، بتأسيس مجلس وطني مؤقت للمقاومين وأعضاء جيش التحرير، الذي خول لها القيام والاضطلاع بدورها كقوة اقتراحية في المساهمة الجماعية في المجهود الوطني للتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد…
لكن هذا الدور لم يستمر أكثر من عشر سنوات، أعقبتها فترات الإخفاق والإحباط، حيث ستعيش أسرة المقاومة وجيش التحرير تحولات مخيبة سلبية غير معهودة، تجلت في تقليص أدوارها الطلائعية في الحياة السياسية والعامة، وفي طمس إشعاعها التحريري الوطني محليا وعربيا وإفريقيا ودوليا…
وفي اعتقادي، إن الجزء الأكبر من المسؤولية، هنا، يقع مباشرة على كاهل ممثلي الأمة في البرلمان بغرفتيه، الذين أرى أنهم قصّروا في واجبهم تجاه هذه الفئة من المواطنين، من قدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الذين هم مفخرة البلاد والعباد، وفي وقت جاء فيه دستور يوليوز 2011 ليضمن الاستحقاقات، وينصف مختلف الفئات، ويحدث الآليات الكفيلة بتصحيح الأوضاع وتقويمها، على كل المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية…
وإذا كان هناك إجماع مغربي على أنه دستور متقدم من شأنه أن يسمو ويرتقي بالمغرب وبكل فئاته وشرائحه الاجتماعية إلى مراتب تجعل منه بلدا يحظى بالاحترام والوقار والهيبة، فإن ذلك كان بفضل مبادئه الأساسية، التي أتت بإصلاحات حقيقية كفيلة بضمان حقوق الأفراد والجماعات، وتحقيق التطلعات للنهوض بمختلف القطاعات، من أسرة القضاء إلى منظومة القوانين والحريات، وصولا إلى حقوق النساء والمجتمع المدني…
الا أننا نلاحظ، بكل أسف، غياب قطاع أسرة المقاومة وجيش التحرير، الذي طالما اعتبر الزاد والمزوّد الحقيقي لكل إصلاح وتغيير، ولكل بناء وكل بذل وعطاء، وإنني، بالمناسبة، أسمح لنفسي بأن ألوم وأعاتب تقصير ممثلي الأمة، في هذا الباب، إضافة إلى الكتاب والأمناء العامين ورؤساء الأحزاب والنقابات، الذين ربما تناسوا أسرة المقاومة وجيش التحرير أولا كمرجعية أساسية لهم، وثانيا لفضلها على المكانة، التي يتشرفون اليوم بالاضطلاع بها وبمسؤولياتها تجاه الشعب المغربي عموما، بمختلف فئاته، وفي مقدمة هذه الفئات هناك أسرة المقاومة وجيش التحرير، التي تأمل منهم حفز وتحفيز أحزابهم ونقاباتهم من أجل العمل على إعلاء صورة هذه الأسرة، وإدراج شؤونها في فضاءات مجلسي النواب المستشارين، والدفاع عن أوضاعها والتذكير بها وبعث كياناتها ومؤسساتها حتى لا تؤول إلى زوال، كما نراها اليوم، وحتى نضمن استمرار ثورة الملك والشعب، وروح ثورة الملك والشعب، التي تزاحمت الأحداث حولها، وحتى تستعيد مكانتها، بما عرف على المغرب عبر التاريخ من برور برجالاته وبأبنائه المجاهدين الأوفياء المخلصين…
هذه هي دعوتي وندائي، من أجل تكاثف الجهود للنهوض بأوضاع أسرة المقاومة وجيش التحرير، التي يعاني الكثير من أفرادها الفقر والمرض، ولاستعادة مؤسسة المجلس الوطني لصلاحياته الأساسية، التي تؤهله للقيام بأهدافه السامية…
وإنني، إذ أهنئ أسرة المقاومة وجيش التحرير وعموم الشعب المغربي بمناسبة حلول الذكرى الواحدة والستين لثورة الملك والشعب، أعرب عن الأمل القوي في أن تجد دعوتي وندائي آذانا صاغية، وقلوبا متعاطفة، نحو هذه الأسرة، التي شئنا أم أبينا، هي جزء من تاريخ وطننا، وإرث وتراث من مجدنا وعزتنا وافتخارنا…
«وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ». صدق الله العظيم.
……………….
عن جريدة .ا.ش
11 غشت 2014