التزامن بين الأحداث والمتغيرات السياسية في المنطقة العربية يشتت التعاطي الإعلامي معها ويغيب الكثير من الحقائق والأزمات على حساب أخرى.
عن صحيفة العرب [نُشر في 04/08/2014، العدد: 9638،
واشنطن -… عوامل التزامن والتأثّر والتأثير التي تتسم بها الصراعات العديدة التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط ومناطق أخرى من العالم العربي، خلقت نوعا من التشتت الإعلامي في التعامل مع الأحداث الجارية بنفس القدر من الأهميّة، رغم فداحة الأوضاع التي تمرّ بها جلّ البلدان التي تشهد نزاعا وتماهيها أحيانا من حيث الخسائر والأخطار والتهديدات، حسب ما أبانت عنه دراسة صادرة عن مجلس سياسات الشرق الأوسط.
بينما يتركز اهتمام الإعلام العالمي على الهجوم الإسرائيلي على غزة تتواصل الصراعات الأخرى في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي ككل وتشتدّ يوما بعد يوم. هذا التزامن في الأحداث والصراعات يرى محلّلون أنّه أسهم في تجاهل أزمات على حساب أخرى، خاصة من قبل الإعلام الغربي.
غياب الاهتمام هذا، لا يمكنه أن يؤدي إلاّ إلى استدامة حالة العنف، نظرا إلى تزايد أعداد المناطق الساخنة في كافة أنحاء العالم في ما يبدو كموجة غير مسبوقة من العنف. فقد يكون من السهولة بمكان المرور إلى آخر التطورات الدامية في غزة وتجاهل ما يحدث في سوريا والعراق ولبنان واليمن وليبيا والمغرب وأفغانستان، غير أنّه لا يجب التغاضي عن حقيقة مفادها أنّ كل صراع من هذه الصراعات يتسبب في تأجيج الصراع الذي يليه، ممّا يفرض ضرورة أن يستجمع الزعماء وصناع القرار العزيمة من أجل إيجاد حلول ليست مؤقتة شأن النوع الذي تحبذه نشرات الأخبار على مدار السّاعة.
محدودية التعاطي الإعلامي
وفي هذا السياق، تشير الدراسة، الصادرة عن مجلس سياسات الشرق الأوسط، إلى أنّ وسائل الإعلام عند تقديمها لآخر المعلومات عن معاناة أهالي غزة بقولها : “بسقوط أكثر من 1400 قتيل إلى حد الآن، حجبت المجزرة المتواصلة في غزة على مدى أسابيع الانتفاضات الأخرى القائمة في العراق وسوريا عن الأنظار، وزيادة على ذلك فقد أدت السياسة الإسرائيلية المتأصلة لإسالة دماء الفلسطينيين وافتكاك أراضيهم إلى وضع عقبات أمام حل الخلافات في الشرق الأوسط إلى يومنا هذا، ولم تنجح أي وساطة نزيهة في إذابة الجليد”، فهي إنّما ترسّخ شعورا مفاده أنّ الإعلام لا يستطيع التركيز على أكثر من صراع واحد في الوقت نفسه.
«تطور الأحداث في الشرق الأوسط يجد له صدى في كل من ليبيا واليمن بسبب هشاشتهما الأمنية والمؤسساتية»هذه المحدوديّة الإعلامية، تحدّثت عنها افتتاحية صدرت حديثا في صحيفة “ذي بنانسولا” (شبه الجزيرة) تناولت تردد القوى الأجنبية في التعامل مع الأزمة السورية، حيث قالت: “يبدو أن الإعلام العالمي عاجز عن تناول أكثر من صراع واحد، ففي الوقت الذي يحتدم فيه الصراع في غزة، وتواصل إسرائيل إسقاط وابل من القنابل على النساء والأطفال الفلسطينيين، يتم التغاضي عن صراع آخر في المنطقة لا يقل كارثية في ما يتعلق بالخسائر البشرية التي يتسبب فيها، ألا وهو الصراع الدائر في سوريا.
لقد أعطى ظهور داعش بعدا جديدا وخطيرا للصراع في سوريا. ورغم أنّ أغلب الناس في العالم لا يريدون رؤية الرئيس بشار الأسد في الحكم، إلاّ أنّهم أيضا متوجسون بدرجة مماثلة من المكاسب الّتي حققتها داعش، ممّا يجبرهم على الاختيار بين الاثنين”. ثمّ أضافت الافتتاحيّة: “ينبغي على إدارة أوباما وحكّام أوروبا أن يفعلوا المزيد من أجل حل النزاع الجاري في سوريا، فمن المؤسف فعلا ألاّ يتحدّث الرئيس الذي خصّص جزءا كبيرا من جدول أعماله في الأسابيع القليلة الماضية لجمع الرصيد السياسي، عن سوريا”.
اليمن ليس بمعزل عن الأحداث
الثابت أنّ الوضع الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط، ومناطق عديدة أخرى من العالم العربي، يتّسم بميزة نابعة أصلا من خصوصيّة المنطقة التي تتأثّر فيها الصراعات ببعضها البعض، حيث أنّ الصراع الدائر في سوريا ليس بمعزل عمّا تشهده العراق.
كما أنّه لا يخفي تداعياته على الداخل اللبناني والوضع الأمني بالمنطقة إجمالا، فهو بالتالي فاعل ومتفاعل مع ما تشهده غزّة، رغم وضوح طرفي الصراع أكثر في الحالة الأخيرة.
هذا الارتباط الوثيق القائم على جدلية التأثّر والتأثير، يوجب تناولا إعلاميا أشمل يغطى جلّ الأحداث الحاصلة بالمنطقة من منطلق البحث عن الخيط الرابط بينها دون التقليل من أهمية إحداها أو التغاضي عن واحدة والتركيز على الأخرى، كما أنّه يطرح تساؤلا حارقا حول الغاية من هذا التجاهل، الذي يبدو متعمّدا، لقضايا على حساب أخرى، خاصّة وأنّ جلّ الصراعات التي تعاني منها مناطق عديدة من العالم العربي إنّما هي متشابهة إلى حدّ كبير.
«الصراع الدائر في سوريا ليس بمعزل عما يشهده العراق، كما أنه لا يخفي تداعياته على الداخل اللبناني والوضع الأمني بالمنطقة»ففي مكان ليس ببعيد عن المعترك الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط هناك صراع دائر آخر لا يجب إهماله أيضا، حيث يُواصل اليمن الكفاح في جنوب شبه الجزيرة العربية ضد قوى سياسية متطرفة، فضلا عن أعمال تمرد مستلهمة من القاعدة تحاول نسخ نجاح داعش في شبه الجزيرة. كما تعمل جماعة الحوثي الّتي خرجت عن السيطرة على استغلال الوضع المنهار في اليمن لبناء دولة داخل الدولة. وقد وجد الحوثيون، الذين يشير خبراء ومراقبون إلى أنهم يلقون دعما سخيّا من إيران، مؤخرا، أنّ الفرصة للاستيلاء على المزيد من الأراضي نتيجة للظروف السياسية الداخلية والخارجية مغرية إلى درجة لا تقاوم، فاحتلوا مدينة عمران الموجودة على بعد أقل من ثلاثين ميلا شمال العاصمة صنعاء وتوغلوا في البلاد في خطوة خطيرة تهدّد بتقسيم اليمن وتشتيت وحدته.
هو الصراع الذي يشهده اليمن وهو من ثمّة متأثر لا محالة بما يحصل في الشرق الأوسط، حيث أنّ ما حققه تنظيم داعش في سوريا والعراق أضحى قادحا للجماعات المتطرفة في اليمن كي تحقق هي الأخرى توسعا في البلاد.
ليبيا النزيف الأخطر
في ذات السياق، وبالتحديد في ليبيا، تفيد الدراسة الصادرة عن مجلس سياسات الشرق الأوسط، بأنّ الصراع الدائر فيها بين الميليشيات المتحاربة مازال يهدّد بزيادة زعزعة استقرار البلاد، حيث تمر ليبيا اليوم بإحدى أسوأ موجات العنف منذ سقوط نظام معمر القذافي في 2011، إذ صعّد أفراد المليشيات هجومهم على المطار الرئيس في البلاد مخلفين عددا من القتلى والجرحى في مدينتي طرابلس وبنغازي يقارب الـ 179 قتيلا و741 جريحا، حسب ما صرّح به مدير مكتب الإعلام بوزارة الصحة اللّيبية عمار الصرماني. ويشكّل تواصل القتال الذي تشهده ليبيا، وتأثُّره بالأحداث الدائرة في الشرق الأوسط، تهديدا كبيرا لعملية المصالحة السياسية في البلاد، حيث تصاعد استهداف المسؤولين الحكوميين والنشطاء الليبيين في غمرة العنف، وتمّ اختطاف برلمانيّين اثنين من قبل بعض المسلحين المجهولين في الضواحي الغربية من العاصمة طرابلس.
كما تمّ مؤخرا، اغتيال فريحة البرقاوي، عضوة في البرلمان تنتمي إلى كتلة سياسية ذات توجه ليبرالي عندما كانت متواجدة في مدينة درنة شرقي البلاد، وهي ثاني امرأة بارزة يتم اغتيالها في ليبيا في الآونة الأخيرة.
«الارتباط الوثيق بين الصراعات قائم على جدلية التأثر والتأثير، مما يوجب تناولا إعلاميا يغطي جل الأحداث الحاصلة بالمنطقة»ومن جهتهم، حمّل مراقبون النخبة السياسية الليبية مسؤولية عدم الاستعداد لتجاوز خلافاتها، الأمر الذي عمق الفوضى والاضطراب في البلاد، حيث تعاني ليبيا اليوم من بعض العلل التي يعاني منها العراق وسوريا، أضف إلى ذلك المشاكل الخاصة بهذا البلد الشمال أفريقي، التي أظهرت التطورات الأخيرة مدى جديتها وخطورتها، التي بلغت ذروتها مع القتال الدائر بين مليشيات قوية تتصارع من أجل السيطرة على مطار طرابلس، الأمر الذي لا يؤدي إلاّ إلى تفاقم المشاكل الأمنية الليبية، حيث يغذي كلّ من الاضطراب السياسي وعنف المليشيات أحدهما الآخر.
وعلى الرغم من أنّ كل بلد يمر بثورة أو انتفاضة سياسية كبرى هو معرّض لاندلاع صراعات محمومة على السلطة، إلاّ أنّ الحالة الليبية تعدّ الأسوأ على الإطلاق خاصّة بعد أن أضافت أموال النفط بُعدا مشؤوما على هذا الصراع.
المثال الأخير الذي تناولته الدراسة الصادرة عن مجلس سياسات الشرق الأوسط ، هو أفغانستان الّتي يبدو أن عاصمتها كابول هذه الأيام أصبحت بديلا أفضل من دمشق وبغداد وغزة، غير أنّ النزاع الجاري حول نتيجة الانتخابات الرئاسية فيها ينذر بجعل البلد أكثر اضطرابا، حيث أفادت الدراسة بأنّ “أكثر من ثمانية مليون أفغاني (وهو ما يمثل 65 بالمئة من الناخبين المسجلين) تحدوا تهديدات طالبان لممارسة حقّهم في الانتخاب. بيد أنّ المعركة الضارية بين المتنافسين البارزين كادت تمحو هذه الإيجابية، وما عودة الإرهاب إلى كابول وفرض طالبان نفسها على الساحة مرة أخرى إلاّ دليل على أنّ السياسيين لم يتمكنوا من سدّ الفراغ”.