عن الموقع الالكتروني لوزارة الثقافة
تاريخ المغرب سلسلة من الملاحم الحربية والمعارك الضارية خاضها أهله ليحافظوا على وحدة بلادهم، وليقفوا سدا منيعا أمام التسربات الأجنبية عبر شواطئه، وليحملوا الرسالة الإسلامية التي حمل لواءها إدريس الفاتح ولينشروا ذيول هذه الرسالة في الأندلس شمالا وفي الأقاليم الصحراوية إلى السنغال جنوبا.
ولم تكن حركة النضال والجهاد هذه تقودها الدولة فحسب وتخوض غمارها القوات النظامية، بل كثيرا ما اخذ المجاهدون على عاتقهم هذه المهمة الشاقة والعسيرة والنبيلة في نفس الوقت، واذكوا في نفوس المغاربة الشعور الديني والوطني ليجاهدوا في سبيل الله وليدافعوا عن عزة الإسلام وكرامة بلادهم حتى تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ذلك أن المغاربة –كما عرفوا عبر تاريخهم المجيد- لا يركنون للاستسلام واليأس، وإنما دأبهم أن يصبروا ويصابروا ويستلهموا من ذخيرة إيمانهم القوي روافد من القوة والبأس الشديد لمجابهة التحديات ومطاردة الانكسارات.
ففكرة الجهاد والنضال والمقاومة هي فكرة سادت تاريخ المغاربة وسايرت عصورهم ودولهم، فلم تنقطع أبدا حركة الجهاد والمقاومة داخل المغرب وخارجه: في الأندلس وفي إفريقية وفي السودان نضال مستمر من أجل الاستقلال والدفاع عن الإسلام وإغاثة المستجيرين من الجيران الذين عجزوا عن رد العدوان وحماية الأهل والبلد.
فجذبت فكرة الجهاد المجاهدين المغاربة بألقها ودفعتهم إلى استرخاص أرواحهم في سبيلها غير جزعين من بأس أعدائهم مومنين بأن كل شيء قدر تقديرا.
وكان هدفهم من جهادهم ليس لدوافع عدوانية وإنما هو إحساس غريزي لإعلاء كلمة الله- وكلمة الله نصرة الحق وإقرار العدالة وإحلال السلام- ولنشر دينه القويم وحماية دعوته ولقتال أعداء الإسلام جهادا في سبيل الله، وحبا في الاستشهاد حتى يلقوا ربهم شهداء وينعموا بما وعدوا به من جنان تحت ظلال السيوف وآخرة هي خير وأبقى.
ولما كان الجهاد في سبيل الله يحقق بوسيلة النفس أو المال أو السلاح أو حتى باللسان فقد جاهد أدباء المغرب بلسانهم وقلمهم دفاعا عن المغرب وحريته وعزته ودينه وإسقاطا لأعدائه والمعتدين عليه.
وكانت”حركتهم” الأدبية قوة دافعة يغذيها الإيمان العميق والإحساس بضرورة الانطلاق برسالة النضال والجهاد إلى المغاربة كافة.
فواكب الأدب المغربي وخاصة الشعر المغربي “مسيرة المغرب الجهادية” وعبر على أن المغرب كان مسرحا لسلسلة من النضالات المتواصلة التاريخية، وخلد في طي دواوينه ملاحم رائعة لبطولات الجيوش المغربية وبلائها في ميادين الجهاد والاستشهاد داخل البلاد وخارجها، وارتبط شعر الجهاد والمقاومة ارتباطا وثيقا بحياة المجاهدين في الدفاع عن حوزة البلاد والذود عن حماها ومحاربة أعداء المسلمين وحماية راية الإسلام في العدوتين: المغرب والأندلس.
فكان شعر الجهاد والمقاومة جزءا صميما من حياة المغاربة ونضالهم وصوتا مدويا لجهادهم، ولسانا معبرا عن إرادتهم وسلاحا منافحا عن شرفهم. وكانت كل قصيدة من قصائده مربوطة بحادث يمت إلى تاريخه النضالي من قريب أو من بعيد.
وبذلك كان شعر الجهاد والمقاومة غزيرا ووفيرا، قويا ورفيعا، واقعيا وحيا- خياليا ولا صوريا- ملأ بطون دواوين الشعراء وأراجيز الناظمين ومصنفات الكتاب ورسائلهم وكتب المؤرخين وأسفار الأدباء منهم، وأصبح وثيقة تاريخية تؤرخ لمراحل حية من تاريخ المغرب الجهادي والنضالي وتخلد ما لم يستطع النثر أن يخلده أناشيد للبطولة والعزة والمجد.
وإذا قطعنا مراحل الجهاد والمقاومة من الفتح الإسلامي على نهاية الوجود المغربي بالأندلس نجد أن العدوان الخارجي على المغرب-لا سيما الاسباني منه والبرتغالي، جاء كرد فعل انتقامي للوجود المغربي السابق في الأندلس بصفة عامة. وكان العدوان موجها مباشرة بالدرجة الأولى للمغرب لأنه كان أكبر مدافع عن الأندلس راسخا على أرضها وبين أهليها.
وهكذا استغل البرتغاليون ضعف الدولة المغربية وفوضى الحكم التي ضربت أطنابها في خضم الصراع الحد بين الوطاسيين ووزراء بني مرين فقاموا بالهجوم على السواحل المغربية الأطلسية. وفي هذه الظروف الحرجة تأسس رباط للجهاد في شفشاون واستطاع أهل الرباط من المجاهدين أن يصدوا منه بقيادة بني راشد، التوسع البرتغالي الذي كان يهدف إلى الوصول إلى فاس مقر دار الملك وكعبة العلم والفكر. وقد تعززت هذه الحركة الجهادية بفلول الأندلسيين النازحين إلى العدوة المغربية (1018 ه – 1609 م). وقام الاسبان بنفس الهجوم على السواحل “الأبيض المتوسط” حسب الاتفاق المبرم بين البرتغال والاسبان، لتحديد مناطق الغزو المسيحي بإفريقيا سنة 894 ه – 1494م. وكان لغزو السواحل المغربية من لدن البرتغال والاسبان، وعجز الدولة الوطاسية عن تحريرها ومقاومة الغزاة المعتدين عليها- لضعف أمرها وتناحر أمرائها- رد فعل قوي في نفوس المغاربة الذين انتفضوا للجهاد في معارك عنيفة. وقد قاد فورته علماء وصلحاء ومتصوفة وشرفاء متطوعون في سبيل الله- كأشراف بني راشد في جبل العلم بالشمال المغربي والإشراف الجزوليين بجنوبه في سوس- ولما كان الشرفاء السعديون يحتلون في نفوس هؤلاء المجاهدين مكانة مرموقة –لشرف نسبهم- لجأوا إلى إقناعهم بقبول تولي الملك عليهم لتنظيم مقاومة حربية جديدة ضد النصارى الذين احتلوا معظم الموانئ المغربية، ولتأسيس دولة سعدية محكمة وقوية تتبنى شؤون الدولة المغربية المدنية منها والحربية.
وقد قال الإمام عبد الله الهبطي الذي عاصر العهد السعدي منذ أوله في هذا المعنى:
فرحم الله أميرا قد سلك ***نهج الهدى وما سواه ترك
فإن رأى أمرا يضر بالمسلمين****سدده ولم يكن في الغافلين
وما أحوج الورى لدى شر الزمان****إلى إمام قائم بالقرآن
وفي هذا “الخضم العارم” انبرى الأشراف السعديون- من قلب الجنوب المغربي لوصل حاضرة مراكش بحاضرة فاس- ولقيادة ثورة مسلحة وحركة جهادية منظمة ضد البرتغاليين.
وقد اعتمد السعديون على الجنوب المغربي وعلى رجاله وشعرائه وأدبائه، ولم يبق أي اتصال بالأندلس ورجالها، واقتصر المغرب السعدي على الدفاع عن الوطن وحمايته ومحاربة المتحالفين مع أعدائه ومقاومة المغيرين على سواحله. وأصيب الأدب السعدي بشيء من الخمول والركود لاضطرار أهله من علماء وفقهاء وكتاب وخطباء وشعراء إلى المشاركة في حركات الجهاد ورفع بنودها.
ولما تولى الملك أبو عبد الله محمد المتوكل ملك المغرب دخل إلى طنجة وتقرب من البرتغاليين، وفر عند “الطاغية” سبستيان البرتغالي واستنجد به ضد عمه أبي مروان عبد الملك المعتصم. فاشترط عليه الملك البرتغالي أن يكون للبرتغاليين سائر السواحل المغربية وللملك السعدي ما وراءها. فلما علم المغاربة بهذا الاتفاق بايعوا عمه عبد الملك المعتصم بفاس، ونقض العلماء بيعتهم له، فوجه رسالة إلى علماء المغرب وشرفائه يعيبهم على ذلك فأجابه كافة أهل المغرب من شرفاء وعلماء وصلحاء وأجناد ورؤساء برسالة مطولة “دافعة لجيش أباطيله وفاضحة لركيك تأويه”. فأمر الملك الجديد أخاه أحمد أن يخرج من فاس بالجيوش، ولما نزل “سبستيان البرتغالي بوادي المخازن قرب قصركتامة وقطع الوادي امر عبد الملك بتهديم القنطرة ونادي :” أن اقصدوا وادي المخازن للجهاد في سبيل الله”. وزحف إليه في جنود وخيل الله المسومة يوم 30 جمادى الأولى سنة 986 هـ غشت 1578م. “ولم يكن عندهم أحلى من الاستشهاد”، فالتقت الفئتان، وتوفي عبد الملك المعتصم في الصدمة الأولى. وكتم أخوه أحمد وفاته، واستمر القتال على أشده حتى ولى المشركون الأدبار، وهب ريح النصر، ودارت على البرتغاليين وحلفائهم من الجنود الاسبان والطليان دائرة البوار وتقهقروا إلى الوادي وغرقوا فيه وكان من بين الغرقى محمد المتوكل “المسلوخ” (لأن المنصور أمر بسلخ جلده وحشوه بعد موته).
فتوفي في هذه المعركة ملوك ثلاثة: الشهيد عبد الملك وابن أخيه “المسلوخ” والملك سبستيان البرتغالي. ومما جاء في “درة السلوك فيمن حوى الملك من الملوك” لأحمد بن القاضي التي تشتمل على وصف وقعة وادي المخازن شعرا:
وابن أخيه بالنصارى اعتصما***وصار يستنجدهم لمن سما
أجابه اللعين بستيا ***بجيشه ومعه الأوثان
فقيض الله له المنصورا****ملكا شجاعا أسدا هصورا
فخلص الإسلام من يد اللعين*** بصبره على لقاء المشركين
ما منهم إلا قتيل وأسير ****في ساعة من الزمان ذا شهير
كات بها سبستيان اللعين***** فماله على الردى معين
ثم محمد الذي أتى به*****مات غريقا يومه فانتبه
وبعد أن أذن الله بالنصر على الغزاة بويع أبو العباس أحمد الناصر ملكا على المغرب وبعث إلى سائر ممالك الاسلام المجاورين للمغرب وإلى الخليفة العثماني- يخبرهم بأن “الله أنعم عليه بإظهار الدين وإهلاك عبدة الصليب. فكانت هذه المعركة بمثابة وقعة حاسمة في تاريخ الصراع بين الاسلام والمسيحية- حتى شبهت بغزوة بدر الكبرى- وأنزلت ضربة قاضية بالقوة البرتغالية، ووضعت حدا لوجودها بالمغرب، وجعلت دول الأتراك والاسبان والبرتغال أنفسهم تعدل عن سياستها التوسعية بالمغرب.
فكانت بذلك معركة غرة في جبين تاريخ الجهاد والمقاومة بالمغرب، وخلفت للمغرب ذكرا خالدا في العالمين.
وقد سجل أصداء هذه المعركة الخالدة كثير من الشعراء، إلا أننا لم نطلع إلا على نزر قليل منها، وعلى “صبابة لا تروى غليلا”. وربما توجد آثار شعرية أخرى مدفونة في “بطون الدفاتر وخبايا الخزائن” كما قال المرحوم الأستاذ الجليل العلامة عبد الله كنون.
ومن الشعراء الذين عاصروا الوقعة وآثرت شاعريتهم وكانت مصدر وحي لهم: الشيخ داوود بن عبد المنعم الدغدوغي الذي عاش في أواخر القرن العاشر، وقد وصف المعركة وصفا دقيقا-لا يكتبه إلا شاهد عيان- وصور شهامة الجندي المغربي وبسالته في جحيم المعركة تصويرا رائعا، وهو يستشهد بقلب ثابت الانتصار، وكيف أظهر الله المغاربة على أعدائهم حتى خلص لهم وجه المغرب وأعادوا الأمور إلى نصابها في بأس وشجاعة وحزم. مطلعها:
جنى النصر ما بين الظبا والكنائن****على سابقاتها المذكيات الصوافن
ومن لم يخض بحر الحروب فلا يرى ***لحوزته دون العدا خير صائن
وقد وقف الأستاذ عبد الله كنون رحمه الله على هذه القصيدة مخطوطة عن المرحوم محمد مختار السوسي، فبعدما وصف شاعرنا هجوم الجيش البرتغالي على المغرب وسواحله تعرض إلى مقاومة الجيش المغربي ووقوفه في وجه هذا الزحف المسيحي بجنود من جند الله مفتخرا بكتائبه التي “تضرب الهامات ويهوى فيها الفرسان بأسلحتهم على الخصوم كالبزاة الكواسر”:
تجمع جند الله من كل وجهة ****وقد غض من مدينة كل دائن
وتلوهم الأجناد والناس كلهم ****تضل بهم أبصار كل معاين
ثم عاد الشاعر يصف المعركة وانهزام سبستيان فيها وصفا دقيقا وعميقا “تضمن صورا وملامح تدخل في صلب الحقائق التاريخية”- كما قال الأستاذ الدكتور عباس الجراري- قد تكون مدونات التاريخ أغفلت ذكرها والإشارة إليها.
فشبت لظى الهيجاء ليس وقودها*** سوى أنفس الشجعان وسطر الميادن
إذا أردعت تلك المدافع أبرقت****صقيلات بيض الهند فوق اليمائن
فلولا البروق الخاطفات من الظبا***لما أبصرت عين خلال المداخن
قد انقضت الفرسان منا عليهم انقضا ***ض صقور الجو فوق الوراشن
وسبستيان كفتنة مياهه**** هزيما وماء النهر أفظع كافن
وحين قضى البتار في الكفر ما قضى ****وأشلاؤه نتن بغير مدافن
رأيت ألوفا من رؤوس تجمعت*** وياليتها أيضا جدار المأذن
بغوا فجنوا جني البغاة فأصبحوا*** سماد الفيافي لأسماء الفدادن
إلى أن حقق الله النصر للمومنين على ذوي الكفر:
هنالك نصر المومنين مؤزرا ****على ذي كفر تهجم ضاغن
وكان يوم مثل يوم بدر وحنين:
فذلك يوم مثل بدر وصنوه ****حنين بأيدي المومنين الميامين
لقد ذاق فيه “البردقيز” من الردى****جزاء مناحيس خزايا ملاعن
وقيل : الحمد لله :
فنحمد رب العرش إذا كان ديننا***لأهل الوغى والبأس خير المعادن
“وتمتاز هذه القصيدة –كما شاهدنا بحسن السبك وجزالة التعبير وقوة النفس البطولي” وقد اختار لها شاعرنا البحر الطويل لتكون الإيقاعات منسجمة مع ركض الخيل ومع دقات حوافز المذكيات الصوافن.
وقد نسج على منوال هذه القصيدة بعد أن اطلع عليها الشيخ محمد الإمام بن ماء العينين قصيدة في نفس البحر يقول منها.
خليلي عوجا بوادي المخازن ****نجدد شكرا بين تلك المواطن
مواطن كانت للجهاد مشاهدا ****يهن مياه العز غير أواسن
مقارنا فيها بين أولائك المغاربة الذين صنعوا النصر في وادي المخازن والذين يقاومون الاحتلال الاسباني في صحرائهم.
ولما جلس المنصور على عرش المغرب في يوم النصر قام شاعرنا أبو فارس عبد العزيز الفشتالي – الذي بارى لسان الدين بن الخطيب في قصيدته التي مدح بها أبا سالم المريني:
أطاع لساني في مديحك أحساني****ولقد لهجت نفسي بفتح تلمسان
فأنشد نونيته العصماء –ليلة عيد المولد النبوي الشريف في تهنئة المنصور بهذا النصر واصفا بلاءه وبلاء جنوده في هذه المعركة التاريخية التي لو يواكبها الشاعر في وقتها، ومطلعها:
هم سلبوني الصبر والصبر من شأني وهم حرموا من لذة الغمض أجفاني
وبعد أن يشيذ يحنكة كتائبه العسكرية في المعركة وبالانتصار الوطني الضخم:
وإن أطلعت غيم القتام جيوشه****وأرزم في مركومه رعد نيران
صببن على أرض العداة صواعقا ****أسلن عليهم بحر خسف ورجفان
كتائب لو يعلون رضْوى لصدّعت ****صفاه الجياد الجرد تعدو بعقبان
عديد الحصى من كل أروع معلم****وكل كمي بالرديني طعان
من اللائي جرعن العدا غصص الردى****وعفّرن في وجه الثرا وجه بستيان
وفتّحن أقطار البلاد فأصبحت***تؤدي الخراج الجزل أملاك السودان
ويخاطب ممدوحه المنصور مباركا له الفتح المبين ويمينه بفتح ما بين السودان وبغداد.
أيا ناظر الاسلام شم بارق المنا ****وبارك لروض في ذرا المجد فينان
قضى الله في علياك أن تملك الدنا **** وتفتحها ما بين سوس وسودان
وأنك تطوي الأرض غير مدافع****فمن أرض سودان إلى أرض بغدان
فكم هنأت أرض العراق بك العلا*****ووافت بك البشرى لأطراف عمان
فلو شارفت شرق البلاد سيوفكم*****أتاك استلابا تاج كسرى وخاقان
فلازلت للدنيا تحوط جهاتها ***** وللدين تحميه بملك سليمان
فما المجد إلا ما رفعت سماكه******على عمد السمر الطوال ومران
ويقول أبو عبد الله محمد بن علي الهوزالي من قصيدة في مدح “السلطان المشهور والأسد الهصور” أبي العباس أحمد المنصور، مسجلا فيها هول وشدة معركة وادي المخازن التي قضى فيها على الشرك والكفر:
حروب طوت ذكر البغاة وملهم****ومات لها ذكر البسوس وداحس
لعمرك لا أنساه يوما شهدته ****وقد سفرت بين الكماة المداعس
وحسبك في وادي المخازن وقعة****بها الشرك حتى آخر الدهر تاعس
بيمن أبي العباس صالت سيوفنا*****على الشرك حتى ليس للشرك حارس
فدانوا له حتى توقع بطشه ***** برمتهم صلبانها والكنائس
وضاقت بيستيان كل عويصة****وذلت لنا منه الأنوف الغطارس
فجهز ما تحوي ذخائر ملكه ****يذود بها عن نفسه ويداعس
فلا زال سيف الحد في كف أحمد*** يذود بها عن دينه ويداعس
وظل صدى هذه المعركة يرن في العصر السعدي وخصوصا في عهد المنصور الذي كان مزدحما بالفتوحات. فكلما هنأ الشعراء المنصور بالفتوح أو بحلول عيد المولد النبوي كانوا يشيرون إلى معركة وادي المخازن التي غدت “معلمة ومنارا”. وكانت تلك الإشارة من الشعراء السعديين ضرورية في هذا الظرف بالذات، وذلك لتعويد المغاربة على الاستمرارية في الجهاد وتحريضهم على تحدي الوجود البرتغالي في الثغور المغربية، وإذكاء روح المقاومة في نفوسهم الأبية.
فلأبي عبد الله محمد بن علي الفشتالي مولدية في هذا الصدد ذكر فيها بجهاد المنصور بوقعة وادي المخازن ودفاعه عن الإسلام ضد أعدائه من حملة الصليب وعباده.
يقول منها:
وجردت في ذات الإله صوار ما****تصول بها والعاجزون نيام
ضربت بها التثليت للحتف ضربة****فلم يبق بعد للصليب قيام
وأمطرت وابلا “بالمخازن” قطره **** بموت الأعادي بندق وسهام
فكم لك من سيول مراكب ****طلعت بها كالبدر فيه تمام
وحولك عقبان الكماة تساقطت***** لبطشها يوم الأعادي وهام
ولاح وميض المرهفات كأنه ****وميض نجوم والدياجي قتام
فأبرزت فتحا دوخ الأرض صيته****وزين أشتات المعالي نظام
ويقول من قصيدة أخرى وقد شبه المنصور بالصقر وهو ينقض ظافرا في وقعة وادي المخازن:
وحسبك من وادي المخازن إذ طمته ****بحار الردى والخيل فيها جماح
فكان بها كالصقر ينقض ظافرا*****تساعد منه مخلب وجناح
له حالتا سيف وسيب كأنما ****تجمع في يمناه سم وراح
هذا وكلما حلت ذكرى هذه المعركة إلا وأثارت مشاعر شعرائنا المحدثين فأنشدوا وأشادوا مما يدل على أن معركة وادي المخازن لم تكن حدثا عابرا بل بقيت حافزا على إثارة الشعور الوطني سياسيا وأدبيا:
فللمرحوم الأستاذ علال الفاسي قصيدة بعنوان “ذكرى موقعة وادي المخازن أو غزوة الملوك الثلاثة”.
يقول في مطلعها:
بفضلكم أبطال “وادي المخازن”**** يردد فينا اليوم صوت المآذن
ولولا جهاد منكم بعزيمة ***** وتضحية كبرى بيوم “السواكن”
وما جئتموه من ثبات وحكمة ****وما بان فيكم من عظيم التضامن
لأضحت بلادي طعمة لعدوها***** كأندلس أخت الأسى والتغابن
إلى أن يقول في وصف هذه المعركة الخالدة:
من “القرويين” انتضى كل ذائد**** عن الدين قوام على الحق صائن
فما وهنوا لما رأوه ولا نثنوا ***** عن الصدع بالرأي السديد للاحن
وهب سبستيان في نشوة الرضا*****يرى النصر مضمونا بأقدس ضامن
وهاجم من ثغر العرائس زاحفا**** إلى القصر مجتازا بوادي المخازن
وقد بث في كل الجهات عيونه****ونظم في الأحياء شتى المكامن
ففزت جموع المسلمين كأنها ****غثاء تردى في مسالك عاين
ولكن شهما من بني الجد لم ****يثبتهم حتى ارعووا للمساكن
وجاء “أمير المؤمنين” بجيشه ****كأنهم أسد شداد البرائن
وهبت جموع الشعب حول إمامها****يقودها في البذل شيخ المحاسن
وكان كفاح بين حق مدافع ****وما بين الاستعمار مذكى الضغائن
وكان ضراب لم يسجل مثيله ****بما اشتد فيه من ثجيج المطاعن
وأبلى بها المنصور خير بلائه****ودبرها بالحزم تدبير فاطن
فلله منه حين ضاع منوه ****أدار الرحى في حكمة وتوازن
وهبت رياح النصر في جانب الهدى****وأردت سبستيان بين المطاحن
فلله من يوم الثلاثة انه ****بداية عهد للبنا والتصاون
فلله من وادي المخازن أنه ****قد امتلأت منه جميع الخزائن
ويعد ذلك يخاطب الشاعر أعداء من ملة واحدة:
فلسنا نمل الحرب حتى تعافنا***ولسنا نخاف البأس من أي كائن
لئن كنتم أرقى وأعظم عدة ****فإيماننا أقوى وخير مداين
فلا تحسبوا الصحراء تبقى إليكم ***ولو سنتموها بالسلاح المطاعن
فإن الصحاري أرضنا وديارنا****وأبناؤها إخواننا المواطن
ورغبتهم من رغبة الشعب كله*****فلا تنكروا حقا بدا للمعاين
وقد أخلصوا للعرش في كل حالة*****ولم يخرجوا عن واجبات المواطن
ويقول الشاعر عبد الواحد أخريف من قصيدته “الملحمة الخالدة”:
الحق جل دلالا زور ولا هدر*****وادي المخازن ذكرى حفها الظفر
وادي المخازن يا أنشودة عبقت******بعطرها صحف التاريخ والسير
فخر الملاحم في دنيا الجهاد فلا*****تدنو إلى شأوها ملاحم أخر
تبقى مدى الدهر شمسا لا تغيب ولا*****يخفى نصاعتها غيم ولا مطر
لولاك ما كانت الأمجاد كاملة******وإن تعددت الأشكال والصور
وينشد الشاعر مصطفى الطريبق متغنيا ببطولة وشجاعة أبناء المغرب الأباة في معركتهم الكبرى ضد الغزاة اللئام بكل شهم وإباء:
فما يوم توانوا عن نداء****ينادي للفدى ضد اللئام
مغاربة أباة ليس فيهم**** سوى ليث ومقتدر همام
ما خاضوا المعارك أو تصدوا**** لها إلا وكانوا خير حامي
معاركهم لنا ذكرى انتصار ****وفيها للعدا ذكرى انهزام
ومعركة المخازن خير ذكرى****وفي إحيائها كل التسامي
إلى أن يقول في ختامها:
فلا نرضى بذل أو هوان ***ورد الذل في رفع الحسام
فهذى أرضنا الصحراء وعادت**** بفضل مسيرة الشعب الهمام
ويقول المرحوم قدور الورطاسي في قريضه مع ذكرى وادي المخازن يعاتب البرتغاليين على هجومهم السافل على حرمة المغرب وعزته وأمجاده:
أليس غريبا أن يشط جوارنا ****من البرتغال إذ تنادوا ليغضبوا
يسقون للحمام جيشا عرمرما ****غررا “بمسلوخ” به الملك يلعب
ألم يذكروا بالله سالف مجدنا ****ومالنا من قوى إذا الخصم “أشعب”
ألم يعلموا أنا نرى العيش عزة*****وإلا فإن الموت أولى وأعذب
ويقول الشاعر محمد الغربي هائما في وادي المخازن وذكرى جهاده واستبساله وبطولة رجاله:
أهيم فيك وأجني منك أشعاري****كأمس يا سيد الوديان يا جاري
يظن أنك من عهد الزواحف لم**** تهدر ماؤك لا يجري بتيار
وأنت أنت كعهد الناس مندفع ****إلى الأمام بسر فيك مدرار
ان الأولى هزموا فيه العدو بما*****أتوا من الصبر في شهره الحار
فأتختوهم جراحا لا بأسلحة****فتاكة بل بحصباء وأحجار
ثم يخاطب شباب الحمى من المغاربة شارحا لهم مغزى ذكرى المخازن:
ذكرى جهاد وتحدير وتوعية *****وقصة تبتدي من يوم ذي قار
حتى يكون لنا مجد تحس به *****أسفار تاريخ لا تاريخ أسفار
ويلقب الشاعر عبد الواحد السلمى وادي المخازن بالوادي المقدس الوادي المتحدي بكل شمم وإباء لكل معتد وظالم للمطمئنين الآمنين على ضفافه:
فاض من منبع الجبل****يتمشى على مهل
وجرى سلسا وسال رفيقا بلا عجل
ثابت الخطو راسخا****يتحدى كل الدول
تتلاشى غزاته****وهو في الصدر لم يزل
إلى أن يقول يعد وصف مدقق لغزوة المخازن محذرا من سوء المصير كل غازي أثيم:
قل لمن رام غزونا ***هاهنا الموت فارتحل
أن ترم قهر جيشنا ****تجد الرمس والأجل
فاعتزل أن أرضنا ****حرم من يرمه ذل
البطولات دأبنا****خبرتنا كل الدول
أن توهمت قهرنا ****أو تشككت فلتسل
ويناجي الشاعر احمد السفياني شهداء وادي المخازن من قصيدة منشدا:
قوم اذا رفعت في الحرب رايتهم***استشهدوا في سبيل المجد راضينا
هذى قبورهم إن زرتها نطقت****بل تلك أرواحهم منها تنادينا
أرواحهم من سما عليائها نزلت***قد رفرفت وهوت شوقا تهنينا
ثم يستعطف وادي المخازن ليذكرنا بصور الشهامة والبطولة والأمجاد الذي عاشها الوادي في وقعته الكبرى:
وادي المخازن ذكرنا بموقعة ****وادي المخازن قم واخطب بها فينا
وادي المخزن رتلها لنا صور****فوق الرؤوس وذكرنا بماضينا
وادي المخازن حدثنا بما بلغت****من المجد رايتنا نلقاك صاغينا
ان الحقيقة في التاريخ يعلمها ****كل الورى فاقترب وناجينا
ويعتبر الشاعر محمد الخمار ان معركة وادي المخازن هي أنشودة النصر والظفر على لسان الدهر وأبطالها الصناديد هم معجزة العصور والزمان: قائلا
وصرت على شفة الدهر أنشو****دة المجد والنصر والظفر
فما كان يومك إلا كبدر*****وإلا كحطين أو خيبر
وما كان أبطالا يومك إلا****صناديد مفجرة إلا عصر
أعادوا لنا المجد صرحا أقاموه بالسيف والدم العتير
ويتساءل متعجبا الشاعر حسن الطريبق عن وادي المخازن:أي واد أي واد المجد وإباء الصيم ودماء الفداء؟؟
أي واد يسري ندى الحواشي ****بين جنبيه في ثرى آبائي
أي مجد على التعاقب يزجيه ويلقيه مثل ضوء السماء
خفقت كل راية ولواء**** فوقها إثر راية واواء
لم تفض تلكم المخازن إلا****بدماء موصولة بدماء
إلى أن يقول في ختام قصيدته بعد أن وصف هذه الملحمة الخالدة:
هكذا هكذا الرجال من المغرب في كل وقعة ولقاء إلى غير ذلك من القصائد التي أشار إليها أستاذنا الدكتور عباس الجراري في كتابه “معركة وادي المخازن في الأدب المغربي” وغيرها من القصائد المنشورة في بعض الدواوين الشعرية كقصيدة عبد الكريم الطبال في ديوانه ” الأشياء المتكسرة”. والملاحم الشعرية مثل “وادي المخازن” للشاعر محمد طريبق و”المعركة الكبرى” للشاعر علي الصقلي. ولا يعزب عن البال أن الأستاذ المرحوم عبد المجيد بنجلون كتب قصيدة نثرية عن هذه المعركة الخالدة بلغة شعرية رائعة تحت عنوان “معركة الوادي”.
لقد ظهر من خلال هذه الصفحات أن الأمة المغربية أمة محاربة مجاهدة، لا تستكين على ضيم، أسال أعداؤها ودماءهم وأسالت دماءهم على جنبات الوادي دفاعا عن الحمى. وكانت هذه الحرب انتصارا للحق على الباطل وللهدى على الضلال، ومن أجل تحرير الإنسان المغربي والأرض المغربية بمعركة وادي المخازن رغم ضراوتها ومرارتها لم يكن للأمة المغربية خيار آخر غيرها فكانت هي الوسيلة الوحيدة لوضع الحق، في نصابه. وإذا قدر لجنود المغرب أن يخوضوا غمارها، ويقتحموا دروبها، فلأنهم أجبروا على ركوبها، بعد أن وجدوا أنفسهم يتعرضون للتحديات، وهذا ما دفعهم ليظلوا متوثبين يقظين متحفزين، متحفظين بسلاحهم كي يدافعوا به عن أرضهم وملتهم ضد نوازع الشر ويحموا بيوتهم ودولتهم من الأخطار التي تتهددها من الداخل والخارج.
فهذه الصور الرائعة من البطولة والشهامة والنجدة والإباء التي ظهرت من خلال معركة وادي المخازن، ألهمت شعراءنا القدماء والمحدثين فخاضوا معارك الجهاد والنزال من خلال أشعارهم، يرسمون صورا خالدة للشهامة المغربية، ولأساليب التصدي والهجوم في حومات معركة وادي المخازن، ويسجلون الخوالد والخوارق، ويشيدون بالفتوح والانتصار ويهيبون بالمجاهدين للدفاع دوما عن الأرض والذود عن الحمى، وإعلاء كلمة الله، ويثبتون في نفوسهم الإحساس بقوة العدالة والحق، والاستهانة بالباطل –أينما حلوا وارتحلوا- والتصديق العميق لما وعد الله به المجاهدين الأبرار والجنود الأفذاذ من الجزاء الأوفى وحسن المآب.
……………………
مجلة المناهل ، العدد 53، دجنبر 1996، ص-ص 5/19.