(القسم الثاني- قراءة نقدية في الفكر لسلفي (14من 28)
بقلم / د.عدنان عويّد
(تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون” (البقرة 134).
إشكالات جمع القرآن وحفظه وتنقيطه وأسباب نزوله وتفسيره و تأويله:
قبل أن ندخل في تقويمنا لمسألة الحديث وقدسيته والإشكالات التي دارت عليه وحوله, لابد لنا أن نقف قليلاً عند قضية القرآن الكريم, من الناحية المنهجية والمعرفية معاً.
في الحقيقة لا يستطيع أحد أن يتجاهل تلك الإشكالات المنهجية والمعرفية التي رافقت عملية كتابة وجمع وتفسير آيات القرآن الكريم, وما تركته تلك الإشكالات من تأثير واضح وعميق على حياة العرب والمسلمين بشكل عام, منذ نزوله حتى هذا التاريخ, وهي إشكالات أكثر ما تجلت في تعدد تفاسير وتأويل النص القرآني وانعكاسهما على ظهور الكثير من الفرق الكلامية والمذهبية, وذلك لأسباب كثيرة منها ما يتعلق بطبيعة نزول القرآن منجماً (مفرقاً) على مدى ثلاثة وعشرين عاماً, وأن من يعرف أسباب النزول والتفسير لكل آية قد مات كما يقول “احمد بن حنبل”, ثم بسبب الناسخ والمنسوخ وجهل الكثيرين ممن تعاطوا مع النص القرآني لجوهر وطبيعة هاتين المسألتين وتأثيرهما على آلية التشريع وتبريك أو منح الشرعية لمستجدات العصور اللاحقة. يضاف إلى ذلك طبيعة الغموض في الكثير من الآيات القرآنية وبخاصة المتشابهات وهنّ أم الكتاب, حيث جّعلت هذه الآيات من القرآن حمال أوجه كما قال عليّ بن أبي طالب في صفين, من حيث تفسيره أو تأويله. وهناك أيضاً مسألة جمع القرآن بعد وفاة الرسول الكريم, وطريقة تدوينه أو حفظه في عهد الرسول, حيث كان يدون بعضه على سطوح عظام الحيوانات, وعلى الجلود وورق البردي, وفي صدور البعض من الصحابة, وما تركته هذه الطريقة من آثار سلبية على عملية ضبط الآيات زمانياً ومنهجياً, حيث نجد في القرآن أول آية نزلت على الرسول وهي (إقرأ) يأتي موقعها في سورة متأخرة من متن النص القرآني. أما قضية غياب التنقيط عند تدوين القرآن فهي مشكلة عويصة بالنسبة لتحديد معاني ودلالات المفردات والجمل والعبارات, وبالتالي الآيات القرآنية ذاتها, وهذا ما ساهم في خلق قراءات عديدة للقرآن وصلت إلى السبع, بل تجاوزت ذلك, حيث يقول بعضهم عشرة. أما مسألة الصراع السياسي على السلطة ما بين الأمويين والعباسيين والعلويين, فقد كان لها تأثير كبير على فهم النص وتفسيره أو تأويله خدمة لهذا الطرف أو ذاك من الأطراف المتصارعة على السلطة, بدءاً من الفتنة الأولى, مروراً بصفين وظهور الخوارج وصولاً إلى عصر الوهابية وفتاواها .
هل الحديث مصدر مقدس من مصادر التشريع؟ :
بالرغم من إشكالات النص القرآني التي جئنا عليها هنا, وفي مقدمتها تفسير الكثير من الآيات من قبل القوى المتصارعة على السطلة بما يخدم أهدافهم, إلا أن النص القرآني تظل له قدسيته وعملية ضبطه في نهاية المطاف, بحيث لا يستطيع أي كان أن يتلاعب في هذا النص كأن يضيف إليه ما يخدم مصالحه كونه كلام الله. لذلك لجأوا إلى وضع الحديث على لسان الرسول خدمة لمصالح تلك القوى المتصارعة على السلطة, وبخاصة بين البيتين العباسي والأموي, بالرغم من أن الرسول نفسه قد منع تدوين حديثه كما سيمر معنا لاحقاً.
لقد استطاعت في الحقيقة القوى المتصارعة على السلطة أن تتخذ من تفسير الآية الكريمة : (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى), من حيث اعتبار كل ما قاله الرسول الكريم أو حدث به هو كلام مقدس, وبالتالي لا يختلف في مصداقيته عن مصداقية النص القرآني, فقد ساهم هذا التفسير في فسح المجال واسعاً أمام الكثير من السياسيين المتصارعين على السلطة آنذاك يعد وفاة الرسول, لوضع الحديث على لسان الرسول, إذ وجدوا في وضع الحديث ضالتهم في دعم مواقفهم ومصالحهم التي كانت بحاجة للتبريك أو الشرعنة, بغية تمريرها أو جعلها بحكم الواقع, وهذا ما أوصل عدد الأحاديث التي قيلت على لسان الرسول إلى أكثر من (130000) حديث, وهذا أيضاً ما أدخل مسألة الحديث, وحتى الإجماع كمراجع تشريعية في حقل الإشكالات المنهجية والمعرفية أيضاً.
يذكر أحمد أمين في كتابه فجر الإسلام (ص30) عن ” الألوسي” في كتابه (تاريخ الخلفاء في الجزئين 6و7), أن علماء السوء جدّوا في وضع الحديث تأييداً لمسألة لصراع على السلطة بين الأمويين والعباسيين, ففي مسألة إعلاء العباسيين على الأمويين يذكر أن رجلاً قام إلى” الحسن بن عليّ”بعد ما بايع معاوية فقل: سودت وجوه المؤمنين , فقال: لا تؤنبني فإن النبي “محمد” (ص) رأى بني أمية على منبره فساءه ذلك فنزلت : ( إنا أنزلناه في ليلة القدر, وما أدراك ما ليلة القدر, ليلة القدر خير من ألف شهر, يملكها بعدك بنو أمية يا محمد.). كما رويت أحاديث أخرى في ذم الأمويين منها قول الرسول الكريم: ( رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونك فتجدونهم أرباب سوء). وعن عائشة أنها قالت لمروان بن الحكم : (سمعت رسول الله (ص) يقول لأبيك وجدك, إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.) أي حسب ما جاء في الآية: (وما جعلنا الرؤية التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن). الإسراء (60)
كما نجد أيضاً في المصدر ذاته مَنْ وضع الأحاديث في مدح العباسيين , كما جاء في حديث أبي هريرة, قال قال رسول الله (ص) للعباسيين: (فيكم النبوة والمملكة). وعن ثوبان قال قال رسول الله (ص): ( رأيت بني مروان يتمارون على منبري فساءني ذلك. ورأبت بني عباس يتمارون على منبري فسرني ذلك.). وعن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله (ص) يقول: (منا القائم ومنا المنصور ومنا السفاح ومنا المهدي ….).
(( للاستزادة في هذا الموضوع راجع أيضاً كتاب السيوطي, “تاريخ الخلفاء” منشورات دار القلم العربي – حلب (ص40و41 ) وبخاصة تلك الأحاديث التي وضعت لخدمة الأمويين والعباسيين).
هذا وقد وقف الشيعة كما يذكر احمد أمين في المصدر ذاته (ص31) موقفاً آخر مناقضاً لهذين الموقفين من الأمويين والعباسيين, لما أصابهم من أذى على يد هذين الأسرتين تاريخياً, فهاجموا العباسيين والأمويين وكبروا في مساؤئهم كما يذكر اليعقوبي في تاريخه. وروا الأحاديث الكثيرة في فضل آل البيت في الخلافة, كـ (حديث الغدير), ورفعوا من شأن الأئمة إلى مرتبة القداسة, وفسروا بعض الآيات القرآنية على أنها نزلت فيهم تأكيدا لأحقية آل البيت بالخلافة. كالآية الكريمة: (ويطعمون الطعام على حُبّه مسكيناً ويتيماً). سورة الإنسان (8)
نقول في هذا الاتجاه: إن الحديث والإجماع وهما من المصادر المقدسة لدى أهل السنة والجماعة, وكثيراً ما جرى حولهما الاختلاف من حيث صحتها ودرجة قدسيتها وفاعليتها. وإذا أبعدنا هنا مسألة النظر في قضية الإجماع – كونها قضية خلافية من حيث تحديد مفهوم الإجماع ومن هي الجماعة التي ينطبق عليها هذا المفهوم, هل هم أهل المدينة؟, أم الصحابة؟, أم التابعون وتابعوهم حتى القرن الثالث للهجرة؟, وهل هم علماء الدين؟ إلخ.- وركزنا في دراستنا على الحديث لوجدنا أن الأمة الإسلامية لم تهتم بشيء بعد اهتمامها بكتاب الله عز وجل كاهتمامها بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسعيها في ذلك السعي العجيب الفذ. فانطلاقاً من كون السنة النبويّة تشكل الركن الثاني لهذا الدين العظيم، وما لذلك من آثار وخلفيات, فإن علماء المسلمين منذ السنوات الأولى لفجر الإسلام و حتى هذا التاريخ ظلت علوم السنة النبويّة شغلهم الشاغل وعملهم العلمي المتواصل. تارة يحفظون الحديث، وتارة يدونونه، وتارة يحضون الناس على تحمله، وتارة يقسمونه إلى أقسام بحسب مواضيعه أو بحسب مراتبه، وتارة يَذٌبونَ الشبهات عنه، وتارة يكشفون أمر الوضاعين فيه، وتارة يبينون القواعد العامة والأصول التي يُقبل بها الحديث أو يرد… وهكذا تولدت علوم جمة ومعارف كثيرة، حملتها صدور أولئك الرجال العلماء، وسطرتها أقلامهم النشطة، وطوتها كتبهم النفيسة.(54).
ونحن عندما نقول ( علوم الحديث ) نعني بذلك كمّاً كبيراً ضخماً من المؤلفات والمواضيع، ملأت المكتبات الإسلامية الكبيرة بمساحات واسعة. وبالتالي هذا ما يؤكد عندنا القدرة على القول: إن بإمكاننا تفنيد أو إضعاف الكثير من المواقف المقدسة للسلفية تجاه الحديث كنص مقدس لا يمكن مسه أو التشكيك في صحته, وهذا ما سنقوم على توضيحه لاحقاً.
كاتب وباحث سوري
لنشرة المحرر / 1 غشت 2014