مرة اخرى، تدك اسرائيل غزة بمباركة غربية صريحة وبتواطئ عربي مكشوف. مرة اخرى، تغرق اسرائيل اهل غزة المحاصرين منذ سنوات، بالدم والدمار الماحق مرتكبة جرائم حرب لا تحتاج الى دليل، ضدا على كل قيم العالم المعاصر واستخفافا بكل حقوق الإنسان وأعلاها قيمة: الحق في الحياة والوجود.
بهذه الحرب الظالمة الهمجية يكشف الكيان الصهيوني عن عنصريته المتأصلة في الفكر الصهيوني كما اسس له دهاقنة الحركة الصهيونية العالمية بدء بهرتزل وبنغريون وكولدا ماير، منذ ولادتها.في ذات الوقت،وعطفا على ذلك، انكشفت عورات كل الانظمة العربية التي اضحت مجتمعة او فرادى،عاجزة عن اية مبادرة ولو رمزية تجاه قضية طالما قيل عنها انها قضية العرب الاولى.
لم يقدر العرب اليوم حتى على صياغة بيان مشترك يدين همجية اسرائيل ويعبر ولو نفاقا على الحد الادنى.سقط التضامن العربي وانمسخت العزة العربية ولم يبق حد ادنى ولا حد اقصى.
نعم ما عاد احد يراهن على تضامن غدا سرابا وخطابا اجوفا. فلتعلن الجامعة العربية عن افلاسها وليصدر القادة العرب بيان هزيمتهم التاريخية. لو فعلوا لحررونا من اوهام اضحت مصدر صداع يعصف بالدماغ، ومن شعارات كاذبة ومنافقة من قبيل نصرة فلسطين والتضامن الإسلامي والصف العربي وما الى ذلك من عبارات لا معنى لها.ما يجري على ارض غزة وما يعانيه الفلسطنيون على ارضها الضيقة من حصار وتجويع وتقتيل ودفن تحت الحطام حصيلة طبيعية لتاريخ طويل من الهزائم على كل الاصعدة، على الصعيد التنموي والتحرر الاقتصادي، على الصعيد السياسي والتقدم نحو وحدة عربية بخطى ثابتة وموزونة، وعلى الصعيد الثقافي والبحث العلمي والانخراط في قيم العصر وزمن الديموقراطية وحقوق الانسان، تاريخ عريق من الاستبداد واغتيال الديموقراطية ووأد العقل وطمس معالم الحداثة وتكريس التبعية، تاريخ “مجيد” من الحروب الداخلية والخطابات العصماء والهروب الى الماضي التليد.
ما يجري بغزة والعراق وسوريا وليبيا، وقد يحدث غذا في أي مكان من العالم العربي امر طبيعي، رغم مأساويته، لوضع راهن لم يزده الربيع العربي إلا انقساما وحروبا أهلية وأزمات سياسية وإنقلابا على إنقلاب وارتهانا بقوى اقليمية هي رغم تعارضاتها تسعى لامتطاء القضية الفلسطينية خدمة لرهانات قومية خالصة لا تتناقض استراتيجيا مع الوجود الاسرائيلي ضمن لعبة شطرنج معقدة يراد فيها للقضية الفلسطينية أن تكون بيدقا يضحى به بدل أن تكون قلعة يدود عن حماها الجميع، وذلك في منطقة شرقاوسطية لا تخفى اهميتها الاستراتيجية بالنسبة لإيران وتركيا وأمريكا وروسيا.
الوضع العربي الراهن صعب ودراماتيكي: حروب أهلية في العراق وسوريا وليبيا واليمن حيث اصبح الكيان الإجتماعي ومؤسسات الدولة مهددة بالتفكك والانهيار التام فاسحة المجال للفوضى غير الخلاقة وللعنف والارهاب.اوضاع سياسية مأزومة في مصر والسودان وتونس والجزائر ولبنان، وتطور ديموقراطي معاق في المغرب والأردن واستبداد مدعوم بالبترودولار بدول الخليج جمعاء وخطر الإرهاب يهدد شمال إفريقيا والشرق الاوسط. انه وضع يجسد فشل كل المشاريع النهضوية التي عرفها التاريخ الحديث للمنطقة من قومية واشتراكية وليبرالية، وما المشروع الاسلاماوي نفسه بقادر على كسب الرهانات التاريخية للأمة والشعوب ، رهانات التنمية والديموقراطية والتحديث الكفيلة وحدها بتوفير مستلزمات التحرر الحقيقي والتقدم الاقتصادي والإجتماعي والعلمي.
وتلكم رسالة القوى الديموقراطية العربية المطالبة اليوم بأخذ زمام المبادرة وصياغة استراتيجية نضالية تنصهر في بوتقتها من جديد قضايا الديموقراطية والتنمية والعمل العربي المشترك وفق منظور حداثي عقلاني يأخذ بعين الاعتبار موازين القوى جهويا ودوليا.وعلى الفلسطينيين ان يعيدوا صياغة وحدتهم الوطنية خارج منطق الصراع على السلطة والنفوذ الذي يؤدي حتما الى الارتهان بقوى خارجية وبالتالي الى ضياع القرار الفلسطيني المستقل. على الفلسطنيين في هذه اللحظة التاريخية ان يعتبروا انفسهم من جديد حركة تحرر وطني وليسوا دولة ولا سلطة ذات حكم ذاتي منقوص اصلا ،وغير ممكن فعلا، تحت سلطة الاحتلال. أما الجامعة العربية فلم يعد لنا فيها من أمل سوى أن تصدر بيانها الأخير، بيان الهزيمة.