العولمة تحقق فوائد جمة لكنها تجلب الكثير من المخاطر على العديد من المستويات، والتقدم التنموي في تباطؤ بمختلف مناطق العالم.
عن صحيفة العرب [نُشر في 26/07/2014، العدد: 9631،
هيلين كلارك:
طوكيو – جاء في تقرير التنمية البشرية 2014، التنمية البشرية في المنطقة العربية في تحسّن، لكن الفوارق كبيرة بين البلدان، فبعضها يحلّ في مجموعة التنمية البشرية المرتفعة، بينما تواجه المنطقة بمجملها تحديات ضخمة تعوق التنمية.
مخاطر دائمة تهدّد التنمية البشرية، وما لم تُواجَه هذه المخاطر بسياسات منهجية ومعايير اجتماعية فاعلة، لن يكون التقدّم منصفا ولا مستداما. هذا هو جوهر الرسالة التي يحملها تقرير التنمية البشرية لعام 2014، الذي أطلقه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، تحت عنوان “المضي في التقدّم: بناء المنعة لدرء المخاطر”.
أظهرت تقارير التنمية المتتالية، في الأعوام الماضية، أن حياة معظم السكّان في أغلب دول العالم في تقدّم مستمر على مسار التنمية البشرية. لكن هذه الصورة الإيجابية لا تنفي أن مؤشر الأخطار التي تتهدّد العالم لا يزال مرتفعا خصوصا على مستوى سبل العيش والأمن الشخصي وسلامة البيئة والسياسة العالمية.
والواقع أن التقدّم يتباطأ منذ عام 2008، في المكوّنات الثلاثة لمؤشر التنمية البشرية. ويرصد التقرير مخاطر عديدة تعوق هذا التقدّم، من أزمات مالية، وتقلّبات في أسعار المواد الغذائية، وكوارث طبيعية، ونزاعات مسلّحة.
مؤشر التنمية البشرية هو أحد المؤشرات، التي ابتكرتها هيئة الأمم المتحدة، ويعتمد في إحصائياته على العناصر الثلاثة المعتمدة دوليا لقيس مدى تطور الشعوب ورفاه المجتمعات وهذه العناصر هي:
– الخدمات الصحية
– قطاع التعليم
– دخل الفرد
كما يهتمّ أيضا بقياس مستوى تطوّر البنية التحتية.
ويعرض التقرير (قيم وترتيبات) مؤشر التنمية البشرية للعام 2014 (HDI) لـ 187 دولة ومنطقة معترفا بها من قبل الأمم المتحـــدة، إضافة إلى مؤشر التنمية البشرية المراعي للتفــاوتات بين الــجنسين المعــدل لـ 145 دولـــة.
ويؤكد أن “الحد من الفقر ومنع تعرّض الأفراد له يجب أن يكون هدفًا مركزيًا من أهداف خطة التنمية لما بعد عام 2015″. والقضاء على الفقر، حسبما يراه التقرير، لا يعني الخروج من دوامة الفقر فحسب، بل البقاء خارجها.
ومن الأهمية بمكان التصدّي لعوامل الخطر وتحصين المكاسب وتجنّب حصول تعثّر في مسيرة التنمية البشرية. فالعالم يتغيّر بسرعة مما يضاعف من آثار عدم الاستقرار المتداخلة وينشر خطر العدوى والإصابة بتداعيات الكوارث الطبيعية وأعمال العنف ويضيّق الحيز المتاح للسياسات الوطنية لتعزيز القدرة على التصدّي في ظلّ عولمة باتت عميقة الجذور وفي عالم مترابط، ما كان فيه بالأمس محليّا أصبح اليوم عالميّا. فالعولمة تحقّق فوائد جمّة لكنها أيضا تجلب الكثير من المخاطر.
يأتي “تقرير التنمية البشرية 2014 في مرحلة مصيرية يمر بها العالم على مسار التنمية، إذ تتركز الجهود على وضع مجموعة أهداف جديدة للتنمية المستدامة لما بعد عام 2015، عام انتهاء المهلة المحددة لتحقيق الأهداف الإنمائية للألفية”.
وفي ظل ما يشهده العالم من أزمات متسارعة عابرة للحدود، بات من الضروري، حسب التقرير، الوقوف على طبيعة المخاطر، للتمكن من تحصين الإنجازات والمضي في التقدّم.
و”درء المخاطر هو عنصر رئيسي في أي خطة للتقدّم على مسار التنمية البشرية”، هذا ما أشار إليه جوزيف ستيغليتس، حائز جائزة نوبل، في مساهمة خاصة لهذا التقرير، مؤكدا ضرورة اعتماد أسلوب منهجي مختلف. وتقرير عام 2014 يعتمد أسلوبا منهجيا مختلفًا، إذ ينظر إلى المخاطر بفكر جديد من منظور التنمية البشرية، فيعتبرها مجموعة من الظروف المترابطة والمتداخلة التي تحدق بمسار التنمية.
المخاطر الهيكلية
يبحث التقرير في المخاطر الهيكلية، أي المخاطر التي تدوم وتتفاقم عبر الوقت، نتيجة للتمييز أو القصور في المؤسسات، لتلحق أضرارا ببعض المجموعات، كالفقراء والنساء والمهاجرين وذوي الإعاقة والسكان الأصليين الذين يشكّلون 5 بالمئة من مجموع سكّان العالم.
تتجذّر المخاطر الهيكلية في موقع الفرد في المجتمع وفي جنسه وانتمائه العرقي وأصله الإثني. ويعدّ السكّان الأصليون، إلى جانب الفقراء، من أكثر فئات المجتمع تعرّضا للمخاطر الهيكلية، فالتمييز السياسي والاقتصادي ينتشر في بلدان من مختلف مستويات دليل التنمية البشرية. إذ تواجه الأقليات والفئات المهمّشة اجتماعيّا حالات صعبة من عدم المساواة.
ووفقا لمشروع “الأقليات في خطر” هناك أكثر من 283 أقليّة تنتشر في أكثر من 90 بلدا وتواجه مستويات متفاوتة من الإقصاء.
ويمثل الفقر متعدد الأبعاد تحديًا تواجهه بعض البلدان، حيث من أسباب استمراره العجز في الصحة والتعليم.
وحسب دليل الفقر المتعدد الأبعاد، يصنّف 82 في المئة من سكان الصومال ضمن هذه الفئة من الفقراء. أما حسب الأرقام المطلقة، فيسجل اليمن أكبر عدد من الفقراء الذين يعيشون أوجها متعددة ومتداخلة من الحرمان، إذ بلغ عددهم 7.7 مليون شخص في عام 2006، آخر عام تتوفر عنه البيانات.
حسب مقاييس فقر الدخل، يعيش 1.2 مليار شخص على 1.25 دولار في اليوم أو أقل. غير أن آخر تقديرات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لدليل الفقر المتعدد الأبعاد تبيّن أن حوالي 1.5 مليار شخص في 91 بلداً ناميا يعيشون في حالة فقر، إذ يعانون من أوجه حرمان متداخلة في الصحة والتعليم ومستوى المعيشة. ومع أن الفقر ينحسر عموما، لا يزال خطر العودة مجددا إليه يهدّد حوالي 800 مليون شخص.
التنمية العربية
في الجزء المخصص للدول العربية، يتوقّف تقرير التنمية البشرية لعام 2014 عند ما تتعرض له المنطقة العربية من مخاطر متشعّبة، جرّاء ما تواجهه من نزاع وبطالة في صفوف الشباب وعدم المساواة.
وهي مخاطر، إذا ما بقيت دون معالجة، يمكن أن تعطّل مسيرة التنمية البشرية اليوم وفي المستقبل. فالصراع في سوريا، إضافة إلى الصراعات الأخرى التي تشهدها المنطقة، أصاب الأسر بأضرار جسيمة، وخلف أكبر الأعداد من النازحين واللاجئين في العالم، الذين باتوا اليوم يعيشون في ظروف اقتصادية واجتماعية قاسية، حسبما يفيد به التقرير.
وتحلّ الدول العربية في المرتبة الثانية من حيث نسبة الأطفال من مجموع السكان، وتتوقف الكثير من إمكانات المستقبل على الاستثمار في الطفولة المبكرة في الرعاية والتغذية والصحة والتعليم.
ويعيش الأطفال والنساء، الذين يشكلون أعلى نسبة من أعداد النازحين، الحرمان بأوجه متعدّدة. وكثيرا ما يعيشون في فقر، محرومين من الخدمات العامة الأساسية كالرعاية الصحية والتعليم. وهذا الحرمان يمكن أن يؤدي إلى مشاكل صحية تعيش مع الفرد مدى الحياة، فتؤثر على نموّه العقلي، وتفقده سبل معيشته، وتقوّض إمكاناته على المدى الطويل.
وبمقياس قيمة دليل التنمية البشرية، تحلّ دول الخليج العربي في طليعة بلدان المنطقة العربية، بينما يحلّ السودان في آخر القائمة. وتحلّ المنطقة في موقع متقدّم من حيث نصيب الفرد من الدخل، إذ يبلغ 15.817 دولارا، ويتجاوز المتوسط العالمي بنسبة 15 في المئة. وتحل المنطقة العربية دون المتوسطات العالمية في العمر المتوقع عند الولادة وسنوات الدراسة.
وتصدّرت قطر الدول العربية، بينما جاءت في المرتبة 31 عالميا مقابل 36 في تقرير 2013.
وجاءت السعودية في المرتبة الثانية عربيا و34 عالميا بينما جاءت في المرتبة الـ 60 في تقرير 2013، وحلت الإمارات في المرتبة الثالثة عربيا والـ 40 عالميا بينما جاءت في المرتبة الـ 42 عالميا في تقرير العام الماضي.
وجاءت البحرين في المرتبة الـ 44 والكويت في المرتبة الـ 46 ضمن فئة التنمية البشرية المرتفعة جدا، بينما جاءت ليبيا في المرتبة الـ 55 وسلطنة عمان في المرتبة 56 ولبنان في المرتبة 65 والأردن في المرتبة الـ 77 وتونس في المرتبة الـ 90 والجزائر في المرتبة الـ 93 ضمن فئة التنمية البشرية المرتفعة.
وجاءت دولة فلسطين في المرتبة الـ 107 ومصر في المرتبة 110 وسوريا في المرتبة الـ 118 والعراق في المرتبة الـ 120 ضمن التنمية البشرية المتوسطة. بينما جاء اليمن في المرتبة الـ 154 والسودان في المرتبة الـ 166 ضمن فئة التنمية البشرية المنخفضة.
ويشير التقرير إلى تأخر في الدول العربية نسبة إلى المتوسطات العالمية بمقياس دليل التنمية البشرية معدّلاً بعامل عدم المساواة. وتبلغ عدم المساواة في التعليم مستويات مرتفعة، يصل متوسطها إلى 38 في المئة، وكذلك في الصحة والدخل، حيث يصل متوسط عدم المساواة إلى أكثر من 17 في المئة.
“لكن المساواة في الفرص في بعض الحالات تتطلب معاملة غير متساوية”، على حد قول خالد مالك، مدير مكتب تقرير التنمية البشرية. “ولا بدّ من تخصيص المزيد من الموارد والخدمات للفقراء والمستبعدين والمهمشين، لبناء إمكانات كل فرد وتوسيع خياراته في الحياة”.
ويؤكد التقرير أن الأعداد الكبيرة من الشباب في المنطقة تتطلب اهتماما خاصا على مستوى السياسة العامة، ليحظوا بفرص العمل اللائق ولتستفيد المنطقة من العائد الديمغرافي. ويدعو إلى الالتزام بالتشغيل الكامل هدفا في السياسة العامة، وتعميم الخدمات الاجتماعية الأساسية والحماية الاجتماعية، وتحسين التنسيق العالمي في بناء المنعة لدرء المخاطر.
وتجتمع عوامل كثيرة، منها ضعف تمثيل المرأة في البرلمانات، والفوارق بين الجنسين في المشاركة في القوى العاملة، لتضع المنطقة العربية في موقع متأخر حسب دليل الفوارق بين الجنسين.
لكن من الممكن تجاوز هذه العوائق ودرء المخاطر التي تهدد التنمية البشرية العربية. و”بدرء المخاطر يصبح للجميع حصة من التقدم في التنمية، وتصبح التنمية البشرية أكثر إنصافا واستدامة”، وفق ما أكّدته هيلين كلارك، مديرة برنامج الأمم المتحدة الإنمائي.
يشير تقرير التنمية البشرية إلى أن أكثر من 200 مليون شخص يعاون كل عام من الكوارث الطبيعية، التي بلغ عددها في الفترة من 2003 إلى 2012 4000 كارثة.
وفي أواخر 2012 بلغ عدد المشرّدين بسبب النزاعات والاضطهاد 45 مليون نسمة، وقد سجل هذا الرقم ارتفاعا في ظل الصراع الدائر في سوريا وعمليات التهجير التي تشهدها بعض الدول الأفريقية غير المستقرّة.
يدعو التقرير إلى تأمين الخدمات الاجتماعية الأساسية للجميع بهدف بناء المنعة، في تحليل معمّق يدحض الفكرة القائلة بأن البلدان الثرية، فقط، هي التي تملك القدرة على ذلك. ويتضمن تحليلات مقارنة لبلدان مختلفة من حيث مستوى الدخل ونظام الحكم، هي إما في طور تنفيذ سياسات لتأمين الخدمات الاجتماعية أو قد أنجزت تنفيذها.
وهذه البلدان لا تقتصر على المجموعة التي اعتادت أن تكون في الطليعة في تأمين هذه الخدمات، كالدانمرك والسويد والنرويج، بل تشمل أيضًا بلدانًا سريعة النمو مثل جمهورية كوريا وبلدانا نامية مثل كوستاريكا.
الحماية الاجتماعية
يفتقر معظم سكان العالم إلى الحماية الاجتماعية الشاملة كمعاشات التقاعد وتعويضات البطالة. ويؤكد التقرير أن تدابير الحماية هي في متناول جميع البلدان في مختلف مراحل التنمية. “فكلفة تأمين مستحقات الضمان الاجتماعي لفقراء العالم لا تتجاوز 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي”، حسب التقرير.
ويورد تقديرات لكلفة تأمين حد أدنى من الحماية الاجتماعية، يشمل معاشات التقاعد للمسنين وذوي الإعاقة، ومستحقات رعاية الأطفال، وتعميم خدمات الرعاية الصحية الأساسية وتقديم المساعدة الاجتماعية، وتأمين 100 يوم عمل، لمجموعة من 12 بلدا من بلدان الدخل المنخفض من أفريقيا وآسيا، تتراوح بين حوالي 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في بوركينا فاسو وأقل من 4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الهند.ويؤكد التقرير أن “تأمين الحد الأدنى من الحماية الاجتماعية ميسّر الكلفة، إذا عمدت البلدان المنخفضة الدخل إلى إعادة تخصيص الموارد وتأمين الموارد المحلية، بدعم من الجهات المانحة الدولية”.وتحقيق الأهداف التنموية المرجوة يتم عبر تقوية وسائل التحرّك الجماعي، وتوطيد التنسيق على المستوى العالمي، والالتزام بتحصين المنعة لمواجهة المخاطر التي تتخذ بعدًا عالميًا، سواء أكان من حيث المنشأ أم من حيث الأثر. فالأزمات المالية، وتغيّر المناخ، والنزاعات، هي مخاطر لا تتقيّد بحدود بل يواجهها العالم بأسره، لكنّ آثارها تقع على البلدان وداخلها، وكثيرًا ما تتداخل وتتشعب. فأزمة الغذاء والتغذية في حالة النيجر كانت نتيجة لموجات الجفاف المتتالية التي ضربت البلد. وفي الوقت نفسه، كان على النيجر أن تتعامل مع تحديات إضافية طارئة، إذ وفد إليها آلاف النازحين من مالي، وهو البلد المجاور هربًا من النزاعات. ولا تستطيع الدول أن تواجه بمفردها المخاطر العابرة للحدود. ولا بدّ، حسبما يؤكد التقرير، من اتجاه جديد يتخذه المجتمع الدولي، إلى ما هو أكثر من إجراءات المعالجة القصيرة الأجل كالمساعدة الإنسانية التي تقدّم عادة.ولزيادة الدعم للبرامج الوطنية وإفساح المجال للدول لتطبيق مبدأ الالتزام بالجميع وفقًا لظروفها المحلية، يدعو التقرير إلى “إجماع عالمي على مبدأ تعميم الحماية الاجتماعية”، يكون جزءا من خطة التنمية لما بعد عام 2015. |