بقلم محمد بوبكري
نظرا لفشل السلطة في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا منذ استقلالها إلى اليوم في تحقيق طموحات مجتمعاتها ومواكبة ركب التحديث والبناء الديمقراطي المتسارع في عالم اليوم، فقد أصبحت مشكلة الشرعية السياسية تطرح نفسها في هذه المنطقة، ما يفسر طبيعة التقلبات السياسية التي تعرفها بسبب سيادة الاستبداد فيها… ومن المؤكد أن سلطوية الحاكمين قد أدت إلى ضعف فاعلية السلطة وإنتاجيتها في كل المجالات، فاستفحل الفساد ومُسّت الحريات… لدرجة تثير القلق والمخاوف بشأن استقرار هذه البلدان ومصيرها…
ويفسر بعض المتتبعين ذلك بضعف شرعية الحاكمين والبنيات السياسية والأيديولوجية التقليدية القائمة، حيث تسود غلبة السلطة على كل المؤسسات الأخرى، فتم تغييب دور الشعب لصالح السلطة التي تعمل دواما على تأثيث الفضاء السياسي بمؤسسات شكلية هي عبارة عن خشب مسندة لا روح فيها. وهذا ما يفسر اختلال موازين القوى لصالح السلطة، وتمكنها من الاستئثار بكل شيء…
إضافة إلى ذلك، يكاد يجمع الباحثون على أن البنيات السياسية في هذه المنطقة تقوم على كيانات مصطنعة تشكلت في صيغة جسم اجتماعي هو الأمة العربية التي تتألف من دول حديثة النشأة تتسم باللاعقلانية، وترتكز على عصبيات وعلاقات قَبَلية وعشائرية وطائفية…
كما تتميز بتعدد الولاءات بداخلها، وبتصارعها وتنافسها في ما بينها، لفشل الدولة في أن تجعل من نفسها قطب الولاء الوحيد لمواطني بلدان هذه المنطقة، بفعل السياسات المتبعة… فثمة من ولاؤه للدولة العربية، وهناك من ولاؤه للأمة الإسلامية وخلافتها، وهناك من ولاؤه لمجموعات محلية قبلية وطائفية… ورغم هذه الوضعية، فقد تمكنت السلطة من أن تبدو مستقرة ظاهريا، حيث استطاعت أن تحقق وضعا مناسبا لاستمرارها. ويعود ذلك إلى هيمنتها على النخب السياسية التي ساهم نمو الرأسمال الجديد بدوره في تقلص نفوذها… أضف إلى ذلك أن السلطة عندنا ضد وجود أي مؤسسة مستقلة عنها أو حتى قابلة للاستقلال عنها. وإذا كانت السلطة تعتقد أن قوتها تكمن في تغييبها للمؤسسات الحزبية والنقابية والمجتمعية الأخرى، فإنها تغفل أن في ذلك إضعافا لذاتها التي تصير محرومة من أي قاعدة مجتمعية تتفاعل معها، بتبادل الأخذ والعطاء، ما يمكنهما معا من خدمة مصلحة الوطن والمجتمع والنظام في آن…
لكن هذا الاستقرار الظاهري الذي تتمتع به السلطة لا يقوم على حكامة ولا على إنتاج ولا على ديمقراطية فعلية… وبذلك فهو لا يعني أنه استقرار قائم على الشرعية. وفي ظل مثل هذه الظروف لابد أن يحتد الصراع داخل المجتمع، وبينه وبين السلطة، وقد ينتصر الحاكمون على إدارة الأزمة، فينتهي الأمر إلى وضع مماثل لوضعنا الحالي، حيثُ يبدو أنَّهم قد كسبوا الرهان وضمنوا الاستمرار…
فعلى هذا النهج، تمكّنت السلطة في بلادنا من تفادي الانفجار، ساعدها في ذلك ربط علاقات مع جهات غربية والتحكم في وسائل الإعلام وتطوير مؤسسات الرصد والتتبع والمراقبة والتدخل… كما مكنها من بلوغ ذلك تركيز كل السلطات بيد الحاكمين وتضخم جهازهم الإداري في مجالات الاقتصاد والاجتماع والتعليم والإعلام… فضلا عن الحصول على مساندة الغرب الذي لا يتردد، متى تعلق الأمر بمصالحه، في دعم أنظمة ليس لها من النظام إلا الاسم، حتى إذا انتفضت شعوبها وثارت في وجهها عاد الغرب وانقلب عليها هو الآخر، بل إنه هو المخطط للانقلاب عليها وداعمه…
هكذا استطاعت السلطة في بلادنا ضبط المواقع الإستراتيجية الحساسة سياسيا وأمنيا وماليا وإفشال كل مبادرة سياسية تروم تطوير أي مشروع يتعارض مع مشروعها، مما حال دون أي تناوب ديمقراطي، بل ويكاد هذا التناوب أن يصبح مستحيلا في ظل سيطرة الحاكمين على السلطة والثقافة والإعلام وكل موارد البلاد…
وهذا ما يفسر القطيعة بين الدولة والمجتمع التي اتضحت ملامحها اليوم، وانعدام الثقة بين الحكام والمحكومين، وتفشي العنف لدرجة كاد أن يصبح هو لغة التعامل السائدة بين الأفراد والجماعات، وبين هؤلاء ومختلف المؤسسات… الأمر الذي قد يهدد الشرعية التاريخية للسلطة عبر الحيلولة دون نهوضها على شرعيتي الديمقراطية والإنجاز، حيث سيرى المجتمع أن السلطة لا تركز فقط إلا على ذاتها ومصالحها ومصالح محيطها…
بناء على ذلك، استنتج بعض الدارسين أن السلطة في بلادنا تقوم على أساس القوة، إذ تمارس الإقصاء في السياسة والاجتماع، حيث تظن أن ما من رأي مختلف، من أي موقع أو خلفية جاء، إلا وقد يمس بهيبتها ويهدد شرعيتها، لأنها في الواقع لا تهتم إلا بمصالحها واستمرارها، وبالتالي فهي لا تكترث بشرعية الديمقراطية والإنجاز… قد تستمر السلطة على حالها نتيجة تحكمها في كل المؤسسات، السياسية والأمنية وغيرها، التي تمكنها من السيطرة على سائر القرارات والإدارات والمؤسسات، وتساعدها على تدجين التنظيمات المعارضة عبر استقطاب زعاماتها عن طريق الريع وتحويلها إلى أداة طيعة بين يديها. ولكن هذا يؤدي إلى حرمان بلدنا من وجود مُعارضة سياسية حقيقية، فيغيب التوازن، ويصير التقدم والاستقرار عرضة للتهديد…
وإذا استمرت الأمور على حالها، فمن المحتمل أن تضعف هذه السلطة نتيجة تآكل شرعيتها، ما قد يفضي إلى اضطرابات في نمط الحكم والإدارة القائمة، ويسقط مجتمعنا في مستنقع الصراعات الطائفية والقبلية والعرقية، لن تجد السلطة أمامه بدا من استعمال الأساليب البيروقراطية والأمنية من أجل ضمان استتباب الاستقرار، مما قد يفرض وضعا لن يستفيد منه أحد: لا الوطن ولا السلطة ولا المجتمع…
يحدث هذا في وقت يمكن فيه إحداث تغييرات جوهرية تفضي إلى تطور النظام السياسي ليصبح أكثر شرعية، فتختفي الهوة بين السلطة والمجتمع ويحدث تصالح بينهما… ويكمن أساس الشرعية في النظر إلى المستقبل، والمبادرة بإحداث تغيير عميق في ثقافتنا السياسية… علما بأنَّ الشرعية لا تشمل فقط النظام السياسي، وإنما أيضاً المجموعات السياسية… ويشكل هذا التغيير الثقافي طريقا تدريجيا للمشاركة في السياسة وفي تدبير الشأن العام. ويجب أن تنهض هذه الثقافة على منظومة فكرية تساعد على التخلص من الثقافة السلطوية التي حولت السياسة فعلا إلى مجرد إقصاء وتهميش للمجتمع وتكلسه المفضي إلى اختفاء مؤسساته…
لا يمكن بناء الديمقراطية بالعنف لأنه نقيضها، إذ يؤدي إلى المزيد من الغرق في أوحال الاستبداد والتخلف بكل ألوانه وأشكاله، ومن ثمة يجب اجتناب اعتماده طريقا لتغيير الوضع القائم، حيث تؤكد دروس التاريخ أن كلفة اعتماده طريقا للتغيير تكون باهظة وغير مضمونة النتائج، بل قد يعصف بالوطن والموارد والبشر والتاريخ والمستقبل…
في المقابل، باعتماد الأسلوب الديمقراطي السلمي والحضاري وسيلة للتغيير، عبر العمل المستمر الرامي إلى إحداث إصلاح سياسي فعلي، يتحقق الاستقرار عبر تأطير المجتمع الذي سيتحفز للمشاركة الواعية في عملية بناء الدولة والمستقبل، لأنه سيحس بأنه يشارك فعلا في تدبير شؤون حياته وصياغة مستقبله…
لقد عجزت السلطة عن مواكبة العصر وتطورات العالم، وأغلقت الأبواب في وجه الإصلاح الفعلي، وأنكرت على المجتمع حقه في المشاركة الفعلية في تدبير شؤونه بنفسه، ولم يصل الإصلاح الذي كان يمكن إنجازه إلى مستوى تشكيل سلطات ومؤسسات ديمقراطية فعلا، على نحو يفضي إلى وجود تعددية فعلية تُمكِّن الأحزاب من التنافس السليم وتداول السلطة بشكل سلمي. لكن، لسوء الحظ، فإن طبيعة العملية السياسية والأحزاب عندنا لا تمكن هذه الأخيرة من مناقشة جوهر السلطة لأن زعاماتها تستمد شرعيتها من السلطة لا من المجتمع…
يبدو لي أن الحل السياسي الديمقراطي هو مفتاح رسوخ الشرعية السياسية في بلدنا، ما يقتضي الاعتراف بحق كل القوى السياسية والاجتماعية المختلفة في المشاركة في السلطة، وإطلاق الحريات العامة…
كما أنه لا يمكن حدوث تحول ديمقراطي في بلادنا إلا إذا تمكن مجتمعنا من تجاوز العوائق التي تحول دون ممارسة قطيعة مع القيم التقليدية المغلقة واعتماد قيم الحداثة دولة ومجتمعا. أضف إلى ذلك أنه لا يمكن أن تكون هناك حداثة سياسية ولا ديمقراطية بدون تحكيم العقل في كل أمورنا، كما يمكن أن تهتز شرعية السلطة لأسباب مؤسسية، أو لتحول في المجتمع، أو لعجزها عن إدارة شؤون الدولة والمجتمع، أو لانحسار هيبتها نتيجة تراكم أخطائها، أو لعدم تمثيلها لقيم المجتمع ومصالحه… فقد علمنا التاريخ أن ليس هناك شرعية تخترق الأزمنة.
…..
عن صفحة بليليض بالفيسبوك
25 يوليوز 2014