في العقود السابقة، طرحت في المغرب فكرة «الكتلة التاريخية»، استلهاما من نظرية «غرامشي» التي دعت إلى «التوافق التاريخي». كان الهدف هو جمع التيارات الإسلامية وباقي فصائل القوى المجتمعية في حركة واحدة لخوض معركة التغيير. كان وراء هذه الدعوة الفقيه البصري، لتعويض فشل مشروعه الثوري، ووضع أسسها النظرية الدكتور محمد عابد الجابري. قال الدكتور الجابري إن «حركة تغيير المجتمع العربي الراهن لا يمكن أن تضمن لنفسها النجاح إلا إذا انطلقت من الواقع كما هو وأخذت بعين الإعتبار جميع مكوناته «العصرية» و«التقليدية»، النخب منه وعموم الناس، الأقليات والأغلبيات، صفوف العمال وصفوف الطلاب، وقبل ذلك وبعده صفوف المساجد…صفوف المصلين». وأضاف أن «الحاجة تدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى تحالف وطني جديد على شكل كتلة تاريخية تضم جميع القوى الفاعلة في المجتمع والتي لها مصلحة في التغيير». ثم حدد مكونات «القوى المرشحة لهذه الكتلة في بلد مثل المغرب» قائلا إنها: «الفصائل المتحدرة من الحركة الوطنية والمجموعات المرتبطة بها من نقابات عمالية وحرفية وتجارية وجمعيات ثقافية ومهنية ونسوية، والتنظيمات والتيارات التي تعرف اليوم باسم الجماعات الإسلامية، والقوى الإقتصادية الوطنية، وجميع العناصر الأخرى التي لها فاعلية في المجتمع».
فشلت هذه النظرية، بطبيعة الحال. كانت تهدف إلى استبدال الثورة المسلحة بثورة شعبية تضم جميع فئات الشعب، بيد أنها لم تلق أي صدى لا داخل القوى التي كانت تخوض معركة الديمقراطية، ولا وسط الجماعات الإسلامية.
قد يبدو إقحام موضوع «الكتلة التاريخية» في موضوع يتعلق بالحوار بين الإسلام السياسي واليسار والعلمانية، إقحاما متعسفا. لكن الذي فرض هذا الإقحام هو التذكير بأن البحث عن ربط الجسور بين الجماعات الإسلامية وقوى مدنية أخرى، والسعي إلى تحالف بينها ليس جديدا، وأن فشله كان منطقيا وحتميا رغم أن الهدف المراد تحقيقه، آنذاك، كان هدفا مشتركا، يتمثل في إحداث التغيير. ولنا في الأحداث التي هزت عددا من الأقطار العربية أثناء ما سمي بـ«الربيع العربي» ما يكفي من الدروس والعبر التي علينا استحضارها والتمعن فيها لكي لا نخطيء الطريق. وحدها تونس مرشحة لأن تخرج من «ربيعها» بأقل الخسائر، بفضل يقظة ومقاومة قواها الحداثية، واستيعاب حركة النهضة دروس مصر. وقد تنجح في إقامة نظام ديمقراطي حقيقي شريطة وفاء حركة النهضة بالتزاماتها، وتحولها من حركة تسعى إلى إقامة دولة دينية إلى حركة سياسية ديمقراطية، تؤمن بفصل الدين عن السياسة.
خلاصة القول، الظرف مناسب لكي تراجع حركات الإسلام السياسي نظرياتها ومواقفها حول نموذج الدولة التي تريد إقامتها، ولكي تقبل مناقشة استقلال السياسة عن الدين، حتى يكون الحوار بين الإسلام السياسي واليسار والعلمانية، أو بين كل الفصائل الفاعلة في المجتمع، حوارا حقيقيا، ينبع من الإرادة في تحصين البلاد، وتخليصها من كل بذور عدم الاستقرار، وفتح الطريق أمامها لتواصل تطورها نحو دولة ذات مؤسسات قوية، لا تهاب العواصف ولا الإعصارات مهما كان حجمها، ولتنشغل بما يخدم مواطنيها اقتصاديا وعلميا وسياسيا.
وجب التنبيه إلى أن الخطاب الذي ما تزال قوى الإسلام السياسي تبثه وتنجح في جعله الخطاب المهيمن، لا يطمئن قوى الديمقراطية والحداثة، ولا يقنعها بأن انخراط التنظيمات ذات المرجعية الدينية في اللعبة الانتخابية دليل على اعتناقها الديمقراطية اعتناقا لا رجعة فيه. حتى الأصوات التي رحبت بالحوار، لا تريده أن يشمل علاقة الدين بالسياسة، ولا تتردد في التأكيد على معارضتها لتغيير تلك العلاقة. أبو حفص، مثلا، دعا إلى مناظرة تخرج بميثاق «للعيش المشترك»، وكان من شيوخ السلفية الذي راجعوا عددا من مواقفهم المتشددة، لكنه يقول في لقاء نظمه حزبه، (النهضة والفضلة) في فاس: «الإسلام جاء ليسوس الدين والدولة، وإن إقصاء السياسة من الدين هو تشويه للإسلام». إنه موقف قطعي لا يقبل النقاش.
من حسن الطالع، أن أصواتا أخرى من داخل المرجعية الدينية، بدأت تخترق خطاب التحجر والإنغلاق الذي يتمسك بنماذج ماضوية، وغدت تدعو إلى ضرورة فصل الدين عن السياسة، وتعلن اقتناعها بأن هذا الفصل لن يضعف الإسلام. فالمسيحية لم يضعفها تحرر الدولة من الكنيسة، ولا استقلال السياسة عن الدين. بالعكس، ازدادت اتساعا وإشعاعا. والكنيسة اليوم ليست هي كنيسة ما قبل ثورات الأنوار. لقد انخرطت في دينامية استيعاب متطلبات الحياة في العصر الحديث.
قال طالب الرافعي، عالم دين عراقي، وأحد أبرز رموز الإسلام السياسي في العراق سابقا: «الإخوان المسلمون ركبوا موجة الديمقراطية وهم أنفسهم غير ديمقراطيين. كل الأحزاب الإسلامية ليست ديمقراطية، لا حزب التحرير، ولا حزب الدعوة الإسلامية في العراق. نحن كنا في حزب الدعوة، كنا نصف الديمقراطية بـ«الكفر»، فجاء الذين يحكمون باسم الإسلام عن طريق اللعبة الديمقراطية وهم لا يؤمنون بها، وهذا تناقض». أما الدكتور معجب الزهراني، أكاديمي وناقد سعودي، فقد كان أكثر وضوحا في موقفه من علاقة الدين بالدولة، عندما أكد قائلا أمام مهرجان «الجناديرية»: «لا شك لدي في أن الدين حاجة أولوية للبشر، لكن تحويله إلى إديولوجية رسمية للدولة هو لعبة خطيرة لا يحكمها سوى منطق القوى والغلبة الذي يعمل اليوم لصالح فئة، وغدا لصالح فئة أخرى». في حواره مع المفكر السوسيولوجي إدغار موران، أقر طارق رمضان، حفيد حسن البنة، مؤسس جماعة «الإخوان المسلمون»، والمفكر الإسلامي الذي تصفه بعض وسائل الإعلام بأنه من أتباع نفس الجماعة، (أقر) في أكثر من مرحلة من مراحل الحوار، بضرورة فصل سلطة الدولة عن سلطة الدين، واعتبر أن الفصل بين سلطة الدولة وسلطة الدين شكل تقدما أساسيا.
هذا هو الموقف الشجاع الذي تنتظره الديمقراطية من تيارات الإسلام السياسي، والذي بإمكانه أن يدخل الاطمئنان إلى قلوب قوى اليسار، والعلمانيين، وكل القوى المؤمنة بالديمقراطية، ويحررها من الخوف على مستقبل الديمقراطية، ويقنعها بأن الحوار المرغوب فيه ليس مجرد حوار حول قضايا ظرفية، ولكنه حوار استراتيجي من أجل التوافق حول «ميثاق للعيش المشترك»، ومن أجل أن تظل الدولة تدير الفضاء المشترك بين كافة المواطنين، بقواعد وأدوات الديمقراطية.
من حسن حظنا أننا نتوفر على مؤسسة إمارة المؤمنين لكي تسهر على ديننا وأمننا الروحي، مما يشجع (لو خلصت النيات) على تبني تيارات الإسلام السياسي لمبدإ فصل الدين عن السياسة. إن احتكار إمارة المؤمنين للسلطة الدينية يحرر الصراع السياسي من الدين، ويدفع فصائل التنظيمات والنخب السياسية إلى التنافس حول البرامج التي من شأنها خدمة تنمية البلاد وتقدمها، ويجعل التداول على السلطة قاعدة راسخة لا خوف على خرقها من أي طرف من الأطراف.