بقلم /د. محمد غاني ، باحث مشارك بمركز جاك بيرك للعلوم الاجتماعية و الانسانية ، الرباط.
لنشرة المحرر
19 يوليوز 2014
إذا كان الرسول الاكرم صلوات الله و سلامه عليه لخص رسالته العظيمة في أنها إنما جاءت متممة لرسالات سابقيه من الانبياء في بناء القيم معبرا عن حكمته الخالدة بقوله “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق “1 ” ـ بمعنى أن غيره سبق أن بنى و هو إنما أتى لإتمام عملية التشييد ـ ، فإن أول ما يتبادر الى ذهن المتأمل أن الشرائع و القوانين الدينية لم تأت يوما من أجل التشبث بها لذاتها كما يتخيله العديد من المسلمين اليوم و إنما أتت لتحقيق مقصد أوحد يتخفى من ورائها هو غرس شجرة القيم في الأرض على أساس من التوحيد.
إذا كان الأمر كما قلنا، فإنه قد يحق لنا التساؤل عن منهج الاسلام في غرس هاته القيم في قلب أوراق شجرة البشرية و مراعاتها لكي تنمو و تترعرع بين أحضان المجتمعات فتتوسع لتخترق القلوب اختراقا فيصلح أمر الامة كما كان عليه أمر السلف الصالح حتى خلد في الصالحات عهد عمر بن الخطاب كخير عهد طبق فيه التصور الاسلامي لمفهوم العدل على أرض الواقع ، كما سجل التاريخ أيضا عهد خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز وهو أيضا في نفس مستوى هذا التنزيل للمفهوم العدل في الأرض حتى أن التاريخ يروي لنا على أن العامل على الزكاة كان يبحث في الفقراء من المسلمين عمن يقبل منه تناول أموال الزكوات فلا يجد من بينهم أحدا.
إن عملية بناء منظومة القيم في الاسلام تمت في نظرنا على ثلاث مستويات:
ـ مستوى ميكانيزمي
ـ مستوى شرائعي
ـ مستوى الفقه الجمعي
نقصد بالمستوى الأول ذلك النظام الفطري المبثوث في الانسان عموما أينما كان يبين له الخير خيرا و و يظهر له الشر شرا و يخلق فيه الرغبة في البحث عن المقدس و يحيي فيه الضمير، و هو ما عبر عنه الحديث الشريف ” ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء ثم يقول أبو هريرة واقرءوا إن شئتم فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله “1″
و هو المقصود أيضا في نظرنا من الآية الكريمة “وعلم آدم الاسماء كلها”3″، حيث إذا رجعنا الى كتب التفسير ستحيلنا المصادر الى أن المقصود من مصطلح الأسماء في الآية الكريمة أسماء الأشياء كالحمامة و الغراب و السماء و الأرض و الصحفة و القدر إلا أننا نرى أنه إذا رجعنا لسياق الآية الكريمة حتى نفهم المراد سنجد أن السياق كان هو الجواب على إنكار الملائكة على الحق سبحانه خلق آدم الذي سيفسد في الأرض، و هو سياق أخلاقي بالدرجة الأولى مما ساقنا الى استنتاج نجده في غاية الأهمية و هو أن الله سبحانه و تعالى لكي يبرهن على أفضلية آدم على الملائكة علمه أسماء الاشياء كلها و حاشاه عز و جل أن ينسى أسماء الأشياء المعنوية ، فإن كان علمه أسماء الأشياء الحسية كالسماء و الأرض و الحمامة و الغراب و غيرها فقد علمه أيضا نسق القيم الأخلاقية من كرم و عدل و إيثار و حلم و أناة و غيرها.
و من أجل العناية بهذا الغرس الميكانيزمي للقيم في جوف العقل الباطن للإنسان فإن الاسلام جاء بفلسفة شرعية من أجل رعاية هذا الغرس رعاية دائمة و حرص على صيانتها و تتبعها الى أن تثمر النتائج المتوخاة في سائر الأفراد المنضوين اختيارا و اقتناعا داخل هاته المنظومة.
و أول ما لفت انتباهنا خلال البحث داخل النسق الشرائعى عما ينمي هاته المنظومة القيمية بشكل سريع هو فلسفة الجزاء في الاسلام حيث وجدناها تنبني على محفزات على الطاعة و كذا على روادع عن المعاصي، و لا نظن أن هناك نظاما سبق الاسلام في خلق نسق من الروابط و القوانين المنتجة للقيم كما هو عليه الحال في الاسلام.
يمكن أن نسمي هذا النسق بالتسويق الشبكي للقيم و نجد في مقابله التسويق الشبكي للروادع عن الرذائل،
و القاعدة الاساس في هذا السياق نجدها مبثوثة في الحديث النبوي بالغ الحكمة الذي يقول فيه سيد الحكماء محمد صلوات الله و سلامه عليه ” من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها
من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”4″
و هكذا فهذا النظام الشبكي الذي يفتح في الاسلام الباب على مصراعيه من أجل التسابق في الخيرات و التنافس على البدء في الخطو الحثيث في طريق البناء القيمي يجعل من الأمة الاسلامية إن فهمت العمق و المغزى من هذا الحديث الأولى في ركب الأمم و الحضارات ، و ذلك لسبب بسيط هو أن النظام الشبكي يسري بسرعة البرق في نشر المراد ، و للأسف نجد بعض الشركات في الاسواق التي تنعدم فيها القيم الاخلاقية و لا يسود في قانونها سوى قانون الربح قد انتبهت لهذا القانون العظيم و سخرته في النصب و الاحتيال على الفقراء من الناس مستغلة حاجتهم و فاقتهم من أجل كسب المزيد من الأموال.
يحيلنا المستوى الثالث الذي يعتمده الاسلام في بناء منظومته القيمية و رعايتها و تتبعها الدائم و المستمر على ذلك الفقه الجمعي للأمة الذي يمثله علماؤها و صلحاؤها حيث أن هاته الفئة هي التي اصطفاها المجتمع الاسلامي اصطفاء من خلال معاهد العلم المختلفة و مؤسسات التربية الدينية و الروحية المتنوعة و تقديمها لإجازات تثبت أهليتهم و كفاءتهم ، هؤلاء هم من يصبحون نوابا عن الأمة في الذب عنها كل دخيل من الأفكار و زرع كل حميد من الخواطر التي يمكن أن تتحول الى مشاريع بانية مستقبلا.
ختاما يمكن القول أن فلسفة الاسلام في بناء القيم مبنية على حكمة بليغة و بعد نظر و بيداغوجية ممنهجة لا يكفي مقال مختصر في شرح مضامينه لكن الباب مفتوح دوما لكل نبيه من أجل البحث النهم و الاستفادة من خزائنه في جميع مناحي الحياة ، و من خلال بناء القيم يمكن أن نبني الانسان الذي يعد في نظرنا محور البناء الحضاري فلا حضارة بدون إنسانية الانسان.
………………………….