نحن هذا الجيل الذي يبحث له عن دور يقوم به في مرحلة تاريخية محددة، وما زال يرى دوره إما في الرجوع إلى الماضي وإعادة تأسيس عصرنا الذهبي وإما في استباق المستقبل وتكوين دولة علمية اشتراكية،
أو في القيام بثورات عربية لا تقوم إلا لكي تتعثر، تنفصل شعاراتها عن واقعها، وتكتفي بأن تعيش في الحاضر مقطوعة الصلة بين ماضيها ومستقبلها. نحن هذا الجيل الذي عاصر ثلاث هزائم متوالية فإذا حاول تجاوزها مرة عصفت به ألاعيب السياسة وتم حصاره بين صراعات القيادات وعجز الشعوب، نحن هذا الجيل الذي ما زال به الرمق، ويرضى تحمل مسؤولياته في مقاربة إشكالية التنوير، وهو ما نشعر بأننا قد تركناه بعد أن بدأنا في القرن الماضي، وبعد أن أردنا أن نستبق الأحداث ونعيش أحلامنا وكأنها واقع، فتصورنا أننا جيل الثورة، وأن مراحل الإحياء والتجديد والنهضة قد ولّت وانتهت، وأننا الجيل الذي سيحقق آمال الأمة العربية كلها. ثم اكتشفنا بعد هزائمنا المتوالية أن التخلف ليس في النظم الاقتصادية والاجتماعية وحدها بل قد يكون أيضاً في طريقة تصورنا للعالم وفي قوالبنا الذهنية ومكوناتنا النفسية. وأننا ما زلنا نريد أن نؤسس العالم الجديد بعقلية القديم، في حين أن الثورة لا تحدث إلا في الذهن أولاً. ولما كان التنوير يعني قدرة الإنسان بعقله على التصدي للقديم، وتمسكه بحريته في الفكر وفي السلوك، ومطالبته بنظام ديمقراطي يقوم على الحرية والمساواة، شعر جيلنا بأن تحديد صلته بالتنوير وجعل مهمته منه يكون أقرب إلى وضع السؤال الصحيح: أين نحن من قضية التنوير الآن؟
ولكن أي تنوير نقصد؟ هل هو التنوير المعروف في القرن الثامن عشر في الغرب؟ أم أن التنوير المقصود هو ما بدأه مفكرونا في القرن الماضي وعلى رأسهم الطهطاوي والليبراليون بوجه عام، والأفغاني والمجددون الدينيون، وشبلي شميّل والعلمانيون، فقد وقف كل فريق موقفاً نقدياً من القديم، وإن اختلفت البواعث والأهداف، وحاول تأسيس المجتمع الجديد على أساس من العقل والعلم والحرية والديمقراطية، وبالتالي تكون مهمتنا هي إكمال ما بدأه الجيلان أو الثلاثة أجيال الماضية؟
أم أن التنوير هو ما بدأه المعتزلة القدماء الذين عرفوا باسم «المفكرين الأحرار» في الإسلام، وقد ظهرت على أيديهم أفكار العقل، والحرية، والغائية، والمصلحة، والشورى، والعمل، والاستحقاق، وبالتالي تكون مهمتنا هي إحياء التراث الاعتزالي بعد أن عاش مئتي سنة إلى أن هدم الغزالي العقل تماماً لحساب الذوق، ولم تنفع بارقة ابن رشد في رأب الصدع، وبالتالي نستعيد التراث الاعتزالي من جديد حتى ندخل في معارك التنوير من داخلنا؟ أم أن التنوير الذي نوده ما هو إلا أحد متطلبات عصرنا، يفرضه الواقع العربي باستلهام التنوير الغربي نظراً لتشابه ظروفنا معه، أو باستئناف تنويرنا الذي بدأ في القرن الماضي، أو بالتعبير عن متطلبات واقعنا العربي مستلهمين حاجات شعوبنا ومدافعين عن مصالحها العامة؟
وبصرف النظر عن المصدر التاريخي للتنوير فنحن نحاول رصد المفاهيم الأساسية لأية فلسفة تنوير بغض النظر عن نشأتها في مرحلة تاريخية معينة في حضارة محددة. ويمكن إيجاز هذه المفاهيم في ستة: العقل، والحرية، والإنسان، والطبيعة، والمجتمع، والتاريخ.
وقد حددت فلسفة التنوير في الغرب ثلاث وظائف للعقل. فهو إما العقل الصوري الخالص الذي يضع المقدمات وينتهي منها إلى النتائج، وهو العقل الرياضي الاستدلالي الذي بدأه ديكارت وسار فيه ليبنتز واسبينوزا والذي سماه أيضاً المعتزلة الأوائل البديهيات أو البداءات أو الأوليات أو النظر واعتبروه أول الواجبات على المكلف. وإما عقلي حسي يتعامل مع العالم الخارجي من خلال التجارب الحسية، وهو عقل استقرائي يقوم على التحليل الكمي للظواهر، وهذا هو العقل الذي سارت فيه المدارس الإنجليزية وعلى رأسها جون لوك وتوماس هوبز وديفيد هيوم، وهو أيضاً العقل الذي استعمله علماء أصول الدين القدماء وسمّوه المجربات أو المشاهدات أو الحسيات كما سماه علماء أصول الفقه السبر والتقسيم والبحث عن العلل وتقسيم العلل إلى مؤثرة ومناسبة وفاعلة يناط بها الحكم.
وهو أيضاً إما عقل حدسي يدرك الحقائق إدراكاً مباشراً بلا إعمال نظر أو إقامة برهان وهو العقل الذي بدأه ديكارت حتى أصبح مطلب البداهة والوضوح والتميز أقصى ما يميز التنوير، وهو العقل الذي يدعمه الدين في مطالبته المؤمنين بالنظر والتأمل، العقل الطبيعي أو النور الفطري، وهو العقل الذي استعمله الفلاسفة والفقهاء والذي سماه الصوفية البصيرة أو الرؤية أو الكشف أو الذوق.
فأين نحن من كل هذه الاستعمالات الثلاثة للعقل؟ إن العقل الاستدلالي لدينا في حياتنا العامة لا ينتهي من مقدماته إلى نتائج متسقة معها، ولكننا نذكر المقدمات ولا ننتهي إلى نتائج مستمدة منها. ومن ثم غاب الاستعمال المنطقي للعقل. وقد نستعمله استعمالاً صورياً خالصاً بمعنى الاقتصار على الشعارات كمقدمات والانتهاء منها إلى شعارات أخرى كنتائج من دون أن نمس الواقع العلمي، وبالتالي ظل العقل فينا قائماً لا مستقر له ولا وطن.
أما العقل الحسي فقد غاب أيضاً في وجداننا المعاصر إذ إننا لا نقيم استدلالاتنا على التحليلات الإحصائية الكمية، ونكتفي بمبادئ كيفية عامة تتمنع على السيطرة والإحكام. ومن ثم غاب العقل الحسي من حياتنا وأصبحنا نفكر في جانب والواقع الحسي في جانب آخر. أما العقل الحدسي الذي يدرك الحقائق الواضحة المتميزة فقد تحول لدينا إلى عقل إشراقي. ومن ثم ضاعت في حياتنا المعاصرة وظائف العقل الثلاث التي حددها التنوير.
والحقيقة أننا تركنا ما بدأناه في القرن الماضي من دعوة إلى إعمال العقل والنظر سواء في حركات التجديد حيث ركز محمد عبده خاصة على استقلال العقل وقدرته على إدراك الحقائق. أو في الدعوات العلمانية التي رأت وظيفة العقل الأساسية في نقد الموروث والتوجه إلى كل ما لا يقوم على برهان بالنقد والتفنيد والكشف عما قد يكون في حياتنا العامة من أوهام وخرافات. أو في الدعوات الليبرالية التي كان العقل فيها مناطاً للتحديث ودعوة لمحو الأمية، وتأسيس مناهج التربية الحديثة. كما أننا تركنا مَواطن القوة في تراثنا القديم، حيث أجمع علماء أصول الدين في البدايات العقلية كمصدر للمعرفة وحيث أجمع المعتزلة والفقهاء على أن العقل أساس النقل، وأن من يقدح في العقل يقدح في النقل. وحيث جعل الأصوليون العقل أو دليل الاستصحاب مصدراً من مصادر التشريع. ثم أخذنا مواطن الضعف في تراثنا القديم حيث كان النقل ما زال مصدراً من مصادر المعرفة عند بعض علماء أصول الدين، حيث اعتبر النقل أساساً للعقل عند بعض الفرق، وكان العقل في حاجة إلى وصي، وكان في أسمى وظائفه عقلاً إشراقياً. وقد تراجع العقل في حياتنا المعاصرة، وظل معدوم الأثر، عاجزاً عن الاقتراب من أي موضوع.
وفي ضوء كل هذا فلن نصل إلى عصر التنوير إلا إذا جعلنا للعقل دوره المحوري في بناء الذات والعلم والمعرفة. فإما العقل الذي يملك كل شيء ويطلب البرهان والدليل وإما الخوف والعجز عن الاستدلال والبرهان