أزمة التعليم بالمغرب بين الإشكال المنهجي وسوء التدبير والتسيير؟
ـ بقلم / فاطمة واياو
أثير منذ أشهر موضوع تعويض اللغة العربية بالدارجة كلغة للتدريس، على إثر الضجة التي أعقبت المذكرة التي رفعها نور الدين عيوش في شهر أكتوبر من السنة الماضية إلى ملك البلاد وإلى الحكومة والتي تضمنت التوصيات التي تمخضت عن الندوة المنظمة من طرف مؤسسة زاكورة .
فرغم اهتمامي بالموضوع منذ الوهلة الأولى كانت لي تحفظات حول الخوض في غمار هذا النقاش الذي يمكن اعتباره على العموم هاما بغض النظر عن اختلاف وجهات النظر و خلفيات المتدخلين.
ما حفزني وما دفعني للكتابة هو الشعور بالخوف وبالذنب إن حدث وتخلفت عن الإدلاء بدلوي في موضوع اشعر بأنه يهمني ويهم مستقبل الوطن ومصير الأجيال القادمة.
من هنا فإن الإشكالية المطروحة تعتبر هامة بكل المقاييس ولا يمكن بأي حال اعتبارها ظرفية أو اعتباطية لأن الخوض في وضعية المنظومة التعليمية بالمغرب يطرح أسئلة عديدة وشائكة. لعل من أهمها:
– كيف تخطط الحكومة وبواسطة الوزارة الوصية لتسيير قطاع يعتبر من أهم القطاعات المجتمعية والذي يحدد مستوى مؤشر التنمية العالمي؟
– من هم المتدخلون في قطاع التعليم، من قمة الهرم بالوزارة إلى المربين والمربيات بالكتاتيب ورياض الأطفال؟
– هل يتابع المسؤولون عن قطاع التعليم سير العملية التعلمية بكل ربوع المملكة وخلال العمل اليومي داخل المؤسسات التعليمية العمومية والخاصة؟
– كيف تتم صياغة المناهج وتأليف الكتب المدرسية، من هم المتدخلون وهل تسير الوزارة الوصية هذه العملية بشكل شفاف ونزيه مع مراعاتها للحاجيات ؟
– لماذا أصبح التعليم الأولي مرحلة إجبارية كباقي مراحل التمدرس، دون أن تفكر الحكومة في هيكلته، مما نتج عنه عشوائية التسيير التي تتجلى بالخصوص في عدم تكوين المتدخلين في المدرسة الأولية وعدم إخضاعه للمراقبة المستمرة من طرف الوزارة الوصية ؟
انطلاقا من هذه الأسئلة وغيرها كثير يمكن صياغة سؤال جوهري وضروري: أية مدرسة نريد ؟ والأهم أي مجتمع ننشد بناءه عبر التربية؟
إن عدم تحديد الهدف العام وهو أي مجتمع ننشد بناءه للأجيال القادمة سيضعنا بالضرورة أمام إشكال عويص وهو استحالة الإجابة على السؤال الإشكالي: أية مدرسة نريد؟
من هنا نستشف أن مشكلة منظومتنا التعليمية تتجلى بالإضافة إلى غياب الحكامة الجيدة في التسيير على طول هرم الوزارة الوصية والمؤسسات التابعة لها والمتدخلة في شأن التعليم بالمغرب، تتمحور على الخصوص في غياب رؤية مجتمعية واضحة، هذه الرؤية التي ستطبق من خلال إرادة سياسية قوية نزيهة وشجاعة. هذه الحقيقة اثبت الواقع صحتها، خاصة مع تعثر كل محاولات الإصلاح المتعاقبة منذ فجر الاستقلال إلى اليوم,
لقد أصبح حقل التعليم مختبر تجارب، مرة بضغط من مؤسسة البنك الدولي من خلال سياسات التقويم الهيكلي خلال عقد الثمانينات من القرن الماضي، ومرة بسبب غياب الإرادة الحقيقية للحكومات المتعاقبة من اجل تطبيق التوصيات والمواثيق المنبثقة عن المناظرات.
المعطى الثاني الذي يعرقل كل المحاولات الإصلاحية حتى مع افتراض النوايا الحسنة هو أن المنظومة التعليمية هي جزء من المنظومة الاجتماعية، السياسية، الثقافية والاقتصادية للمجتمع وهو ما يعني أن أي إصلاح لا ينطلق من مبدأ الشمولية ويجعل كل القطاعات متداخلة ومترابطة بهدف تفادي أي ثغرة من شانها إفشال محاولات إصلاح قطاع التعليم، سيؤول لا محالة للفشل. فلو افترضنا أن أي إصلاح يستهدف التلميذ والرفع من مردوديته خلال مساره التعليمي بدءا من التعليم الأولي إلى نهاية تعليمه الجامعي، وأن التلميذ المستهدف هو التلميذ المغربي دون اي تمييز بسبب الطبقة او الجنس او الموقع الجغرافي ( شمال، جنوب شرق، غرب وأيضا في البادية كما المدينة)، فإن عملية الإصلاح تفرض بالضرورة تنمية اجتماعية ، اقتصاية وفكرية شاملة.
المعطى الثالت يتعلق باستلهام التجارب الناجحة في المنظومات التعليمية عبر العالم، ليس من الضروري نسخها وإنما الاستفادة منها خاصة في مسألة التشخيص والتكوين.
المعطى الرابع: الاقتناع بأن أي إصلاح يستبعد تطبيق الديمقراطية الحقيقية في كل مراحل العملية التعليمية وعلى مدار المعيش اليومي داخل المؤسسات التعليمية سيؤول للفشل. فالديمقراطية تعني إقرار مواطنة حقيقية والتي تعني بدورها منح الحقوق الأساسية لكل المواطنين دون تمييز، والحق في تعليم جيد هو احد هذه الحقوق الأساسية والتي تعتبر شاملة وغير مجزءة. والحال أن واقع تعليمنا ما زال بعيدا عن تحقيق المساواة والعدالة في جميع أسلاك التعليم، سواء تعلق الأمر بالبنيات التحتية او بالبرامج التعليمية بل وحتى بلغة التدريس.
هذا المعطى يحيلنا على أن خلل اللامساواة واللاديمقراطية لم يصب فقط المنظومة التعليمية بل إن هذا الخلل أحدث شرخا واضحا في المجتمع المغربي.
ما نلاحظه من تراجع في المستوى التعليمي، ومستوى التواصل اللغوي بين أفراد المجتمع يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الانحطاط الثقافي والفكري والأخلاقي والاجتماعي والاقتصادي سببه الرغبة في تدمير المجتمع ونخره واستبعاد إي قدرة ممكنة على النهوض والتنمية.
إن هوية أي شعب تتحدد في ثقافته التي لا وجود لها بمعزل عن لغته التي توحده، اللغة المعيارية التي توحد ربوع بلاده. المغرب لا يشذ عن هذه القاعدة، فهو بلد مستقل بحدوده وبولائه مثله مثل باقي الدول،وككل الدول فالمغرب له لغته المعيارية وكما جاء على لسان الأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري:” هناك اللهجة المراكشية، والتطوانية، والبيضاوية، والفاسية، الخ. ليس هناك شيء يوحد هذه اللهجات، ولا ينبغي ذلك. وإذن إذا أردنا ان ندخلها في المنظومة التعليمية، ينبغي ان نصنع لغة جديدة توحد هذه اللهجات، ونُعَيّرها، أي نحولها الى لغة معيارية مقعدة standard. والحال أن غنى هذه اللهجة هو أنها ليست لغة معيارية non-standard ، بل هي تنوعية، صالحة للتعبيرات الثقافية الإبداعية التنوعية”
من هنا نستشف أن أية مبادرة لإصلاح التعليم تتخذ بوابة التدريس بالدارجة مدخلا لها لا تعني سوى ضرب ما تبقى للمجتمع المغربي من غناه وتنوعه وهويته. فتعدد اللهجات كان ولا يزال سمة للتنوع الحضاري والعراقة التاريخية للمجتمع المغربي وهو ما لم ولن يمنع التواصل بين أفراد المجتمع شمالا وجنوبا / شرقا وغربا كما لم يمنع الإجماع على لغة معيارية واحدة وموحدة، اللغة العربية لغة للتدريس ولتسيير شؤون البلاد. حذو المغرب في ذلك حذو باقي الأمم والدول في كل أرجاء العالم.
لا يمكن إذن أن يتحول التنوع اللغوي والتواصلي من نقمة إلى نعمة كما يريد البعض أن يوهمنا. كما لا يمكن التغاضي عن المكتسبات التي تحققت من خلال التأكيد على رسمية اللغة العربية في الدستور، وتفعيل ما جاء فيه حول حماية اللغة العربية والعمل على تطويرها، وأيضا تفعيل دور المؤسسات المنبثقة عن مقتضيات الدستور، مثل أكاديمية اللغة العربية، والمجلس الوطني للغات والثقافات.
غير أن الإشكال المطروح أمام هذه الحقائق هي أن ما انبثق عن الدستور لم يوازه تفعيل ودعم مجتمعي وإعلامي وفني، الحادث أن الإعلام بكل تفرعاته : المسموع والمرئي والمكتوب، كان بشكل أو بآخر يناقض ما جاء به الدستور، حيث انه في الوقت الذي نجد برامج تبث باللهجات بكل أنواعها، أصبحت المسافات الزمنية المخصصة للغة الفصحى مقلصة إن لم نقل منعدمة، والأدهى أن صحفا وافتتاحيات وأعمدة قارة تلوي عنق الحروف العربية لصياغة مقالات بالدارجة ، ليختلط الحابل بالنابل فلا الأمي يستطيع قراءتها ولا المتعلم يستصيغ مثل هذه التعبيرات التي تبعده أكثر عن ما تعلمه في صفوف المدرسة ناهيك عن إحساس المتقدم في التعليم بالاشمئزاز من مقالة لا يستطيع تصنيفها.
فلمصلحة من تدبلج المسلسلات بالدارجة؟ أليس من حق العربية على القائمين على قسم البرامج بالقنوات التلفزية أخذ حقها من هذا الكم الهائل من الدبلجات. ألا يمكن اعتبار دبلجة بعض هذه الأعمال للغة الفصحى تشجيعا ونهوضا بها وتنفيذا لما جاء في الدستور، ألا يمكن بهذا العمل إعانة الأجيال الصاعدة على التأقلم مع اللغة العربية تحدثا خاصة وان التعبير الشفوي باللغة العربية (كباقي اللغات) في المدارس يكاد يكون منعدما.
إن الإيهام بان عملية إصلاح التعليم تمر عبر بوابة التدريس بالدارجة، هو أشد أنواع الأعمال والتفكير خبثا، ذلك أن مثل هذا الإيهام يحدث غوغاء وفوضى النقاش وهو أمر سيزيد من تعقيد إشكالية التعليم بالمغرب والتي لا يختلف اثنان حول استفحالها وتعقدها.
إن الانطلاق من معطى أن التدريس باللغة العربية الفصحى هو أحد أسباب تخلف التلميذ بالمدرسة المغربية ضرب من الوهم، لأن السؤال الذي يجب طرحه هو: هل تدهور مستوى التعليم بالمغرب يتجلى فقط في دروس اللغات أم في باقي المواد؟ لماذا لم يكن مستوى التلميذ في الأجيال السابقة على العموم متدهورا رغم انه كان يبدأ أولى خطوات التعلم من الابتدائي ؟
الحقيقة التي لا يمكن إغفالها هي أن اللغة الام بالنسبة للكثير من المغاربة هي لغتين على الأقل وليست لغة واحدة، فالطفل القادم من البيت للمدرسة يأتي حاملا للسان او لسانين حسب المناطق وحسب أصول الأسرة المنتسب لها الطفل. هذه الحقيقة مستمرة في الزمان والمكان منذ عقود كثيرة دون ان تثير أي خلل لدى الطفل أو تأثر سلبا على مداركه المعرفية ، بل إن الطفل القادم من وسط متعدد اللغات الأم، يحقق نجاحا مبهرا خصوصا في تعلم اللغات الأخرى وعلى رأسها اللغة العربية خلال مساره التعليمي.
يقودني هذا الكلام إلى الإحالة على ما كان حاصلا في المشرق العربي آنذاك حول ازدهار اللغة العربية والتي كانت لغة أدب وعلم واختراعات، ففي ذلك الزمان كان اغلب من دونوا كتبهم باللغة العربية هو من غير العرب. وكان ايضا انفتاح اللغة العربية على باقي الثقافات والشعوب حيث ازدهرت الترجمة وهو ما أثر إيجابا فى الثقافة واللغة العربيين.
كيف يمكن لدول أن تحقق أشواطا في منظومتها التعليمية رغم أن لغة التدريس هي لغة يمكن اعتبارها لحد ما مختلفة عن لغة الحياة اليومية، مثل ما هو حاصل في ألمانيا، فرنسا، وغيرها كثير. لكل أمة لغة معيارية ولغة غير معيارية للتداول اليومي بين جميع شرائح المجتمع متعلمين وغير متعلمين.
من هنا نطرح السؤال الإشكالي التالي:
لماذا لا تطبق وتفعل التوصيات التي صدرت من اجل إصلاح التعليم ببلادنا ولعل أبرزها ميثاق التعليم والتربية خاصة وان النقاشات السابقة كانت ملمة بجوانب الإشكالات والصعوبات التي تعترض العملية التربوية والتعليمية بالمغرب؟ ولماذا يصر البعض على الاعتقاد أن إصلاح التعليم بالمغرب يمر بالضرورة عبر بوابة اللغة؟
يجدر التذكير هنا بأن مثل هذه الدعوات ليست فريدة في الوطن العربي وليست الأولى فقد شهد المشرق العربي مثل هذه النقاشات ولعل من أبرزها النقاش حول استعمال الدارجة في لبنان في ثلاثنيات القرن الماضي، والذي كان يروم كتابة العامية اللبنانية بالحروف اللاتينية، وهو المشروع الذي لم يتعد حدود إنتاج ديوان شعري بالعامية من طرف متزعم المشروع وهو الشاعر الكبير سعيد عقل والذي كان مبدعا في اللغة الفصحى.
علينا أخيرا الاستفادة من التراكمات السابقة والمتعلقة بالنقاشات المثمرة وليس الانسياق في كل مرة وراء دعوات ليس لها من هدف سوى ضرب ما تبقى من هوية المجتمع وخدمة أجندات خارجية. هذه الأجندات التي لم تعمل سوى على هدم منظومتنا التعليمية وتخلف المدرسة المغربية وتراجع الجامعات.
ونخلص إلى أن للموضوع صلة بإشكالات أخرى لا تقل أهمية والتي يمكن إجمالها في الأسئلة التالية والتي تحتاج إلى مقام آخر لتفكيكها:
هل يمكن إصلاح مظاهر العنف المنتشرة بالمدرسة بالدارجة؟
هل من المنطقي تجاهل تراكم معيقات وأزمات التعليم بالمغرب منذ عقود ؟
هل يمكن الحديث عن أزمة التعليم بمعزل عن أزمة المجتمع ككل؟
#عن موقع مجلة انفاس
الثلاثاء, 22 أبريل 2014#