الانتخابات المقبلة: هل تخلينا عن الجهوية المتقدمة؟… 
بقلم // كريم غلاب
 

حديث الساعة هو التحضير للانتخابات المقبلة. استمعنا كلنا إلى رئيس الحكومة قبل أسبوعين لما جاء إلى البرلمان في جوابه على سؤال الفريق الاشتراكي، حيث قدم التواريخ التي تتوقعها الحكومة لمسلسل الانتخابات بدءا بانتخابات ممثلي المأجورين في ماي 2015 والانتخابات المحلية في يونيو الموالي، إلى الانتخابات التشريعية مع نهاية الولاية في 2016، مرورا بتجديد الغرف المهنية ومجالس العمالات والأقاليم ومجلس المستشارين ما بين يوليوز وشتنبر 2015.

وهنا نفتح قوس: رغم أهمية الموضوع التي يدركها الجميع، لم يستغرق رد رئيس الحكومة سوى 4 دقائق، واكتفى بذكر التواريخ، كأن الأمر يقتصر على ذلك، ورجع إلى مقعده. ألم يكن من الأجدر أن يستعمل رئيس الحكومة الآليات التي يخولها له الدستور ليطلب من البرلمان أن يعقد جلسة خاصة وفق الفصل 68، يخصص لها الوقت الكافي ليأتي، وبمبادرة منه وليس من المعارضة، وبالنفس الاستباقي الذي يجب أن يتوفّر في كل الحكومات التي تحترم دورها  في قيادة الأحداث، و ليس الاكتفاء باستدراك التأخيرات، ليقدم تصريحا شاملا يشرح فيه كل التصورات و مرامي هذا المسلسل المهم وكل ما سيحتاج من تحضير ومن تشاور، سواء لإصدار القوانين الجديدة أومراجعة أخرى، وبلورة الإجراءات العملية الضرورية لإنجاحه ولجعله محطة جديدة في بناء الصرح الديمقراطي الوطني خصوصا وأنه يأتي بعد الدستور الجديد و بعد مدة كافية لتحضّر له الحكومة برزانة و تبات لإنهاء فترة انتقالية دامت ربما أكثر من اللازم. ضيع رئيس الحكومة فرصة ثمينة لتدشين جوانب جديدة من دستور 2011 وإبراز معناه العملي في تفعيل دور المؤسسات وتحسين الممارسة الديمقراطية في حكامة الشأن العام؛ ونغلق القوس فليس هذا هو الأهم.

الأهم هو أنه يبدو لي أننا نحضر هذه الانتخابات بالضبط كما سبق وأن حضرنا للانتخابات السابقة دون ان نستوعب عمق بعض الاصلاحات الجوهرية التي جاء بها الدستور الجديد وهنا أخص بالذكر الجهوية المتقدمة.

فمن خلال تصريحات وزير الداخلية أمام البرلمان وما تبعها من نقاشات لتحضير الانتخابات المقبلة، نستنتج أن المقاربة المعتمدة لا تختلف عن سابقتها في إعداد كل مسلسل انتخابي وأن القفزة النوعية المتوخاة والتي من المفروض أن نحققها في حكامة التراب الوطني من خلال الجهوية المتقدمة ظلت غائبة كليا عن النقاش، رغم ارتباطها العضوي مع ما نحن مقبلين عليه، خصوصا فيما يتعلق بإصلاح القانون التنظيمي للجماعات الترابية.

وإذا لم يأخذ هذا الموضوع الأساسي حقه من النقاشات و المشاورات، وإذا لم يتم التطرق إليه بالطريقة اللازمة بمناسبة التعديلات العميقة التي يجب أن يتضمنها هذا القانون والنصوص التنظيمية المتعلقة به وكذا في الاجراءات التحضيرية الاستباقية والمواكبة لإعمال وبلورة هذه الاصلاحات على الميدان ، سنفوت محطة بارزة لإدخال بلادنا في التجربة الفعلية لمسلسل الجهوية الموسعة التي أعلن عنها  جلالة الملك في3 يناير 2010 ، مدشّنا بذلك عقده الثاني على عرش المملكة وبكل ما يحمله هذا التوجه من دلالات ترجمتها اللجنة الاستشارية من خلال تصور شمولي واعد و توصيات جريئة  تم تضمين الجزء المتعلق به في دستور 2011.

ها نحن الآن بدل الشروع في التفعيل، نحضر باستغراب شديد التغييب التام للموضوع عن النقاش والساحة السياسية.

نتحدث عن اللوائح الانتخابية وهل سنعمل على إعادتها من الصفر أو سنكتفي بتحيينها، نناقش نمط الاقتراع، اللائحة في المدن التي يتعدى عدد سكانها عتبة معينة من المحتمل أن تُراجع والفردي في باقي الجماعات، نتطرق إلى التقطيع الانتخابي وتداعياته على الخريطة السياسية وعلى نظام المقاطعات في المدن الكبرى، نناقش تعويضات المنتخبين والتنظيم الاداري للجماعات، وإلخ…

أين الجهوية المتقدمة من كل ذلك؟ حسب المعطيات المتوفرة والنقاش الحاصل، نتداول في الموضوع وكأن الانتخابات الجهوية لن تُجرى في يونيو المقبل. وحتى عندما يُذكر موضوع إصلاح الجهوية، يقف النقاش عند إشكالية التقطيع: هل سنبقى على 16 جهة أم سنكتفى ب 12 جهة كما أوصت اللجنة وهل سنعتمد تقطيعا أخر؟  موضوع التقطيع رغم أهمته يبقى مسألة حسم وقرار ما بين السناريوهات من خلال أخد بعين الاعتبار وبالطريقة الأنسب والأنجع للمعطيات الجغرافية والتاريخية والثقافية من جهة، والمؤهلات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية من جهة أخرى، لإفراز عدد من الاقطاب الجهوية الواعدة القادرة على إخراج الحكامة الترابية من جمود التمركز المفرط، وإحداث حركية ودينامية تنموية تعود بالخير على السكان وتساعد على نشر روح المنافسة الشريفة و البناءة بين الجهات لتثمين مؤهلاتها دون إخلال بواجب التضامن الذي يعد من أسس وحدة التراب والوطن.

كل هذا رغم حساسيته ليس الأهم، ففي نهاية المطاف كل تقطيع له إيجابياته وسلبياته، وكل تقطيع سيرضي البعض ويزعج البعض الأخر. فالأهم والذي نستغرب أننا لم نسمع عليه أي شيئ، هو موضوع تحديد الاختصاصات الجديدة للجهات، إذ لا جهوية متقدمة أو موسعة دون مراجعة هذه الاختصاصات وتحديد سلطاتها والوسائل المادية والبشرية والإجراءات التنظيمية التي ستمكنها من الاضطلاع بدورها وتحقيق الغايات التنموية والاجتماعية المنشودة منها. ومن المفروض أن يُنظر إلى هذا الأمر من خلال جوانبه المختلفة:

• تحديد اختصاصات الجهات: يجب الرجوع إلى المراجع المتعلقة بها، فسواء تقرير اللجنة الاستشارية للجهوية وكذا الدستور في فصوله من 135 إلى 146 وخصوصا الفصل 140 يذكران أن للجهات ولباقي الجماعات الترابية ثلاثة أنواع من الاختصاصات: الاختصاصات الذاتية للجهة والاختصاصات المشتركة مع الدولة والاختصاصات التي تنقلها إليها هذه الأخيرة.
وإذا أردنا أن تكون هذه الجهات الجديدة رافعات حقيقية للتنمية المندمجة، وهو الأمل الذي نعقده في الجهوية المتقدمة، يجب أن نخصص لها جزأ أو كلا من قطاعات أساسية كالبيئة والماء والطاقة والبنيات التحتية والتربية والتكوين والصحة والثقافة وإنعاش الاستثمار والتشغيل والسكن الاجتماعي وتنمية الوسط القروي مثلا وكما أوصى بذلك تقرير اللجنة الاستشارية المذكورة. ففي كل هذه القطاعات الحساسة، ما هي الهندسة التي سنعتمدها في توزيع المهام بين الادارة المركزية والجهة والجماعة دون ذكر المجالس الاقليمية والعمالات؟ ما هي تلك التي ستصبح اختصاصات ذاتية للجهات، وتلك التي ستكون مشتركة مع الدولة؟ وما هي طبيعة هذه الشراكة لضمان عقلنتها وعدم الانزلاق نحو ازدواجية وتضارب الاختصاصات التي خبرنا جيدا تداعياتها ووقعها بالخصوص على المواطن من حيث تعقيد المساطر وتأخير الخدمات والتملص من المسؤولية؟  وأخيرا ما هي تلك التي ستنقلها الدولة إلى الجهات وعلى أي شكل سيتم هذا الانتقال وبأي حكامة؟

كثير من الاسئلة لم ننطلق في دراستها: في قطاع الماء، هل ستبقى السدود الكبرى من اختصاصات الدولة وهل ستسند السدود المتوسطة إلى مستوى من مستويات الجماعات الترابية؟ في قطاع الطاقة، هل سيكون للجهات دور في تطوير وإسراع برامج الطاقات المتجددة؟ في قطاع الطرق، هل ستكتفي الدولة بالاختصاصات المتعلقة بالطرق السيارة والوطنية وهل ستنقل تدبير باقي الشبكات الجهوية والاقليمية والقروية إلى الجهات أو الجماعات المحلية؟ بالنسبة للتعليم، كيف سيوزع التعليم الابتدائي والاعدادي والثانوي على المستويات الثلاثة: مركزي جهوي أو محلي؟ وهل سيهم هذا التوزيع البنايات والتجهيزات المدرسية فقط أو سيشمل مستوى من مقررات وبرامج التعليم واللغات؟ نفس السؤال في موضوع الصحة من المستوصفات في العالم القروي إلى المراكز الاستشفائية الجامعية، كذلك ما مآل التنمية القروية والسكن الاجتماعي؟

• ر صد الإمكانيات المالية للجهات: يؤكد الدستور في فصله 141 على أن على الدولة أن تحول الموارد المالية المطابقة للاختصاصات المسندة للجهات و ينص في الفصل 142 على إحداث صندوقين، صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن ما بين الجهات. أين نحن من كل هذا؟ هل للحكومة تصور في هذا الشأن؟ هل تمت دراسة سناريوهات حسب توزيع الاختصاصات وانعكاساتها على حسابات الدولة؟ كيف ستصبح نسبة عجز الميزانية وكذا نسبة المديونية للدولة؟ هل نتوفر على الموارد المالية الكافية لنواكب نقل الاختصاصات إلى الجهات بطريقة ذات مصداقية؟

ما هو مستوى اللامركزية الذي سنعتمده في توزيع وتدبير الموارد المالية الوطنية ما بين مستوى الدولة المركزية والجهات المتقدمة علما بأن كلما نزيد من لامركزية الموارد المالية كلما نرفع من فعالية نظام الجهات ونوفر له ظروف النجاح المعهود لكن في نفس الوقت نخل ولو نسبيا بمبدأ التضامن ما بين المغاربة الذي يجب أن تحرص عليه الدولة المركزية كأحد أعمدة وحدة الأمة والمساواة ما بين المواطنين.

• الموارد البشرية والكفاءات: إن نجاح نظام الجهوية المتقدمة رهين بتوفير الكفاءات والأطر والموارد البشرية والتنظيم الإداري الكفيل بالسماح للجهات أن تضطلع بمهامها بالطريقة اللائقة. لا شك أن هذا من أصعب الإشكالات التي يجب أن يوجد لها الحل. فيمكن بقوة القانون أن تُحدَّد اختصاصات الجهات ويمكن بقوة القانون أن تُخصَّص للجهات الموارد المالية ولا يمكن أن تُوفَّر بقوة القانون الموارد البشرية الضرورية. فجاذبية الجهات تجاه الأطر والتقنيين والكفاءات بصفة عامة، تختلف بشكل قد يشكل عائقا أمام مشروع الجهوية المتقدمة ولا يمكن التطرق إلى هذا الأمر إلا بآليات تحفيزية وتشجيعية مرنة. فأين نحن من تحضير هذا الإشكال؟

قضايا أخرى لها علاقة وطيدة بهذا الموضوع وعلى رأسها القضية الوطنية الأولى، حيث تشكل الجهوية المتقدمة الإطار العام الذي يندرج فيه الحكم الذاتي الذي اقترحه المغرب لإيجاد حل سياسي للنزاع المفتعل حول أقاليمنا الصحراوية. فعندما سنوسع من اختصاصات الجهات هل سنتعامل مع جهاتنا الجنوبية بنفس الطريقة؟ هل سنسند لها نفس الاختصاصات المسندة لباقي جهات المملكة؟ أستبعد ذلك. هل سنرفع من مستوى اللامركزية للأقاليم الجنوبية مقارنة مع باقي الجهات بنقل اختصاصات إضافية أخرى تمهيدا لنظام الحكم الذاتي المقترح في إطار المفاوضات مع الأطراف الأخرى التي تشرف عليها منظمة الأمم المتحدة؟ وماذا ستكون هذه الاختصاصات والسلط؟ أوهل سنعتمد وسننفذ مند الآن وبالموازاة مع الجهوية المتقدمة نظام الحكم الذاتي، وفي هذه الحالة ما هي الانعكاسات على مسلسل المفاوضات؟

هناك أيضا أسئلة يجب الإجابة عنها تهم مدى تقدم ورش اللاتمركز وإعادة توزيع الاختصاصات ما بين المستوى المركزي والجهوي والإقليمي، ليس فيما يخص الدولة والجماعات الترابية، بل ما بين المستوى المركزي للوزارات والمصالح الجهوية والإقليمية التابعة لها، بما فيها اختصاصات الولاة والعمال.

نذكر بأن هذا الورش الذي يتأرجح ما بين وزارة الداخلية ووزارة تحديث القطاعات العامة، ووزارة المالية منذ ما يقرب من عشرات سنوات، دعى إليه جلالة الملك علانية عدة مرات أخِرها في خطاب افتتاح السنة التشريعية الحالية أمام البرلمان في 11 أكتوبر 2013. فضرورته لا تخفى على أحد حيث يهدف اللاتمركز الإداري إلى إرساء التوازن المناسب على المستوى الجهوي ما بين ممثلي السلطة المركزية والمنتخبين.

فعندما يقول كل من رئيس الحكومة ووزير الداخلية أنه ستجرى الانتخابات الجماعية والجهوية في يونيو 2015، يعني أنه في كل هذه المواضيع ولكل هذه الأسئلة أجوبة، من خلال تصورات ودراسات واقتراحات. طبعا لا ننتظر أن نفعل في هذه الانتخابات المحلية المقبلة النظام النهائي الكامل والمتكامل للجهوية المتقدمة، لكن أربع سنوات ما بعد تقرير اللجنة الاستشارية الجهوية وبعد ما يقرب من ثلاثة سنوات من الاستفتاء حول الدستور الجديد الذي خصص بابا كاملا للجهات والجماعات الترابية من الضروري ومن المشروع أن نطمح على الأقل إلى إرساء منظومة استشرافية ضمن تنزيل القوانين التنظيمية ومراجعتها في إطار التحضير للانتخابات المقبلة، كمرحلة أولى تحدث قطيعة مع ما هو معمول به اليوم على مستوى الجهات، مرحلة جديرة بالآمال المعقودة على الجهوية الموسعة، مرحلة تزرع نفسا جديدا في الروح الاصلاحية للمملكة المغربية للقرن 21، مرحلة تضفي المصداقية على النية الجماعية في تفعيل هذا الورش العظيم و تجدد الأمل في المراحل المقبلة.

فالفصل 146 من الدستور ينص، ضمن مقتضيات أخرى التي يجب أن يحددها قانون تنظيمي، على ما يلي:

• “الاختصاصات الذاتية لفائدة الجهات والجماعات الترابية الأخرى والاختصاصات المشتركة بينها وبين الدولة والاختصاصات المنقولة إليها من هذه الأخيرة طبقا للفصل 140؛
• مصدر الموارد المالية للجهات والجماعات الترابية الأخرى، المنصوص عليها في الفصل 141؛
• موارد وكيفيات تسيير كل من صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات المنصوص عليهما في الفصل 142.”
هل للحكومة تصورات واقتراحات دقيقة في هذه المواضيع؟ هل درست جوانبها السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية؟ هل حضرت برامج عملية لتنزيل هذه الأفكار على أرض الواقع هل ستكفي الفترة الزمنية المعلن عنها -أقل من 12 شهر- لتقديم كل هذه التصورات ومناقشتها مع الأحزاب السياسية وفي البرلمان بغرفتيه. ألا يستحق هذا الأمر نقاشا وطنيا حقيقيا ومنهجية تشاركية تتلاقح فيها أفكار الأغلبية والمعارضة؟ ماذا لنا أن نستنتج من تغييب هذا النقاش عن الساحة السياسية ؟
من المؤكد أن الحكومة تأخرت في هذا الاصلاح المصيري بالنسبة لبلادنا، وهو ربما تأخر غير قابل للتدارك كيف ما كانت الوعود والتصريحات مما يدفع إلى عدة تخمينات غير سارة. فإما أننا سندخل في تطبيق الجهوية المتقدمة بالارتجالية والتعامل السطحي دون التطرق إلى عمق الأشياء، بما تحمله هذه المنهجية من استخفاف باللحظة التأسيسية التي يجتازها المغرب في إطار هذه الولاية التشريعية، وهي المقاربة التي طبعت للأسف تعامل هذه الحكومة التي أقل ما يمكن أن نقول في حقها أنها ليست في مستوى هذه اللحظة، وإما أننا تخلينا في سكوت رهيب عن الجهوية المتقدمة.

فالقريب العاجل سينورنا وسيجيب على هذه التساءلات.

كريم غلاب
نائب برلماني
الفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية

…………………………………………

عن جريدة العلم ..19 يونيو 2014

‫شاهد أيضًا‬

ماجد الغرباوي: إشكالية النهضة ورهان تقوية الشعور الهوياتي العقلاني لدى العربي المسلم * الحسين بوخرطة

الدكتور ماجد الغرباوي، مدير مجلة المثقف الإلكترونية، غني عن التعريف. كتاباته الرصينة شكلت …