منظومة الفساد
بقلم الطراف عبد الوهاب
هناك عدة معان لظاهرة الفساد، فتارة تأخذ معنى الرشوة وتارة أخرى تأخذ معنى الاختلاس وأحيانا توصف بالمحاباة أو التدليس أو الحياد عن الحق. وهي في حقيقة الأمر كلها مفاهيم ومصطلحات تعكس ظاهرة الفساد، وتختلف نسبة تفشيها من دولة لأخرى، حسب درجة تقدمها أو تخلفها السياسي والاجتماعي والاقتصادي والقانوني، إضافة إلى طبيعة الثقافة السائدة، تبعا لطبيعة التنشئة الاجتماعية والسياسية التي يتلقاها الأفراد، دون إغفال مسببات أخرى لهته الظاهرة.
وهكذا ترى سوزان روز أكرمان ( وهي بالمناسبة باحثة مهتمة بظاهرة الفساد ) أن الفساد هو ” أحد الأعراض التي ترمز إلى وقوع خطأ في إدارة الدولة” بمعنى أن المؤسسات التي وجدت خصيصا لإدارة العلاقات المتداخلة بين المواطن والدولة، أضحت تستعمل عوض ذلك كوسيلة للإثراء الشخصي وإهداء المنافع إلى المفسدين.
إنه ” سلوك يخالف الواجبات الرسمية للمنصب العام، تطلعا إلى مكاسب خاصة مادية أو معنوية، أو هو سلوك مناطه انتهاك القواعد القانونية بممارسة أنواع معينة من التأثير تستهدف تحقيق منفعة خاصة ” . فالفاسد يستغل منصبه ونفوذه، لتحقيق مكاسب شخصية مخالفا بذلك المبادئ القانونية التي قد تحرم مثل هذا السلوك المشين.
ومما لا شك فيه أن ارتفاع مستوى الفساد في أي مجتمع، هو انعكاس لغياب ” الحكامة الجيدة ” أي غياب الحكم الصالح، فوجود الحكامة الجيدة، بما تفرضه من إجراءات وضوابط، كفيلة بالتقليص من ممارسات الفساد إلى أضعف مستوى، إذ تتجلى الحكامة الجيدة في العديد من المبادئ التي من شأن توافرها تضييق الخناق على الفساد والمفسدين. ومن هذه المبادئ مثلا:
-العقلانية في اتخاذ القرارات وتسيير المؤسسات، بدل الارتجال والعشوائية والمزاجية.
-الالتزام بقواعد القانون والخضوع لأحكامه التي ينبغي أن تكون عادلة وواضحة ومعروفة عند الجميع.
-الحد من احتكار السلطات وتركيزها في أيدي زمرة محدودة من الأفراد، أو بعض المؤسسات فقط دون غيرها.
-توافر المساءلة والشفافية، وهذا هو الأهم، فبدون الشفافية لا يمكن الحديث عن الديمقراطية والتنمية، بل يمكن القول بأن الشفافية والمحاسبة هي جوهر الديمقراطية ولبها، ففي غياب الشفافية يستشري الفساد ويتعاظم. غير أنه حتى وإن وجدت بعض أجهزة الرقابة، فإن تواطؤ المفسدين – نظرا لتقارب مصالحهم وتداخلها – يجعل هذه الأجهزة مشلولة وشبه منعدمة. (ما حصل مثلا مع القرض العقاري والسياحي، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي).
إن فعالية الإطار المؤسسي، تزداد بوجود حكم القانون والمساءلة والشفافية، مما يساهم في مقاومة الفساد، بحيث يضمن توزيعا عادلا وقانونيا للسلطة، ويمنع احتكار القوة والنفوذ بيد زمرة من المسؤولين الفاسدين الذين يعملون على تأبيد الفساد وإعادة إنتاجه.
غير أن تجذر ظاهرة الفساد وانتشارها بشكل واسع، يجعلها مكونا مقبولا داخل المجتمع، بحيث لا ينظر إليها بصفتها تجاوزا وخرقا للقوانين والحقوق المشروعة، بل تصير بمثابة ثمن مناسب، ينبغي دفعه كمقابل لنيل الحقوق والخدمات المضمونة قانونا ( مثلا حالة الرشوة التي تدفع من طرف المرضى أو ذويهم للاستفادة من الخدمات الطبية رغم تواضعها).
لعل أخطر ما يتولد عن ظاهرة الفساد، هو ذلك الخلل الذي يصيب أخلاقيات البشر وقيم المجتمع، مما يؤدي إلى ذيوع حالة ذهنية لدى الأفراد تبرر الفساد وتجد له من الذرائع ما يبرر استمراره، بحيث يصبح مقبولا لديهم، بل ومرغوبا فيه.
غير أن الأخطر من ذلك هو أن تكون هناك بيئة ملائمة تحضن الفساد وتحمي الفاسدين، بمعنى أن تلك البيئة غالبا ما تطلق العنان للفساد كي يستشري، دون متابعة الفاسدين وكبح جماحهم، مهيأة بذلك للفساد كل فرص النمو والتوسع.
ولا شك أن مسألة الحصانات والامتيازات ومواقع النفوذ، قد تقف حجر عثرة أمام عملية مكافحة الفساد، خاصة إذا علمنا أن الفساد ينشط أكثر في القطاعات العامة المشمولة بهذه الامتيازات. ذلك لأن منحها لبعض الموظفين يحد من ملاحقتهم أو مساءلتهم عن المخالفات أو الجرائم التي قد يقترفونها بسبب أو بمناسبة ممارستهم لوظائفهم.ومن ثم يفقد القانون قوته وهيبته بين أفراد المجتمع، خاصة حينما يتأكد للمواطن العادي أن القانون لا يطبق ولا يحترم في معظم الحالات، وهو ما يفسر الارتفاع المهول لمعدل الجريمة بمختلف أنواعها، ما دام هناك تساهل كبير في زجر مرتكبيها.
ويبقى مجال الصفقات العمومية مرتعا خصبا للفساد والمحسوبية والواسطة والرشوة بجميع أصنافها. لهذا السبب صرح الوزير الأول ادريس جطو بأن الدخول السياسي المقبل سيعرف اتخاذ عدة إجراءات منها: ( التسريع بإحداث الهيئة المستقلة للوقاية من الرشوة، وتوسيع مجال القانون المتعلق بالتصريح بالممتلكات إلى فئات جديدة من أعوان الدولة الممارسين لمهام حساسة، وعرض مشروع القانون المتعلق بتبييض الأموال، وتعزيز الإطار القانوني المنظم للصفقات العمومية).
وترى روز أكرمان أن الفساد يمكن أن يخلق وضعا احتكاريا، بسبب احتكار المسؤولين وسيطرتهم على المعلومات الأكثر قيمة، ومن ثم تتشكل شبكات في الظل تقوم بتوزيع الغنائم المحصلة بين أعضائها، وتعمل على ضبط آليات اشتغال الفساد، بحيث يكتسب الفساد نوعا من المؤسسية في إطار هته الشبكات. وتتحكم هذه الشبكات في إمكانية وصول باقي الأفراد بتساو إلى الموارد، بل تصبح إمكانية الاستفادة مرتبطة ومرهونة بدفع الرشاوي، أو تقديم المقربين من بؤرة الفساد على ذويهم.( مثلا التعيينات في مناصب حساسة أو ذات قيمة أو تعويضات عالية داخل الإدارة المغربية )
فعندما ينتظم المفسدون في شبكات قوية وضاغطة، تصعب عملية مكافحة الفساد بطرق قانونية، لأنه يتحرك ضمن الدولة وليس خارج أجهزتها. وفي هذا الإطار يرى أنطوان مسرة أن الفاسدين الكبار يتوغلون في قلب النظام، بحيث يصبحون قييمين على الدولة، إلى درجة أنهم يتحكمون في التشريع والملاحقة والمساءلة، متحصنين بذلك من خلال السلطة والقوانين.
إن منطق التعددية الحزبية – كما تعرفه منظومة الحكم الديمقراطي – والتناوب على الحكم قد يحول دون احتكار طرف سياسي معين للقوة والنفوذ لمدة أطول، بحيث يجعل الأقلية المعارضة في حالة تتبع مستمر ورصد دائم لأخطاء الحكومة وزلاتها. وهكذا يمكن القول بأن مبدأ التداول على الحكم يجعل سلوك وممارسات متخذي القرار مكشوفة أمام المعارضة، مما يجعل إمكانية استعمال أساليب التستر وراء سلطة النفوذ، عملية صعبة وجد معقدة.
والتداول هنا لا يقصد به فقط التداول على السلطة الحكومية، بل أيضا التداول على المناصب والوظائف العامة. وفي هذا الإطار يقول طارق البشري ” إن التداول هو العنصر الأساسي الذي تستقل به الوظيفة العامة عن شاغلها وينفصل به المنصب العام عن شخص من يعمل به مستخدما سلطانه “
فبدون تغيير الأفراد وتبديلهم من مناصبهم، يندمج المنصب العام مع الشخص الذي يشغله، فيصبح شأنا خاصا به، ومن ثم يصبح هذا المنصب ملحقا بشؤونه الخاصة، مما يفقده عموميته وموضوعيته، وهذا ما يصطلح عليه بشخصنة السلطة أو المنصب العام. ويزداد الأمر خطورة، حينما يستمر هذا الشخص في تقلده للمنصب لمدة أطول. لهذا يبقى مبدأ التداول أو التناوب من بين الضمانات الأساسية للسهر على تسيير الشأن العام.
إن مكافحة الفساد في الأنظمة الديمقراطية، هي عملية مستمرة ودائمة، لأن النظام الديمقراطي يفترض من ما يفترض انتخابات حرة ونزيهة، فالانتخابات قد تكون فرصة لإزاحة المفسدين، كما تفترض فصلا بين السلطات، وذلك للحد من استغلال النفوذ، وتتطلب أيضا قضاء مستقلا ونزيها ، يعمل على تطبيق القانون لا على خرقه ، ويحمي الأفراد والجماعات من التسلط ونهب الأموال العمومية.
وللقضاء على هته الظاهرة يقترح محمود عبد الفضيل مجموعة من الحلول يجملها في النقط التالية:
1-توسيع رقعة الديمقراطية والمساءلة: وهذا يتطلب توسيع دوائر الرقابة والمحاسبة، سواء من طرف المجالس التشريعية ومختلف الأجهزة الرقابية، أو من طرف هيآت المجتمع المدني وكذا وسائل الإعلام، وذلك لتحقيق أكبر قدر من الشفافية والنزاهة. غير أن الضمان الحقيقي للحد من معضلة الفساد يكمن أساسا في مبدإ التداول على السلطة، حتى لا يدوم الفساد ويعشش لمدة طويلة، بحيث يتم توارثه والتستر عليه. فالمكوث في السلطة لمدة طويلة من شأنه أن يشجع على الفساد ويحرض عليه ( حالة بعض المسؤولين الإداريين الذين يقضون مدة طويلة على رأس بعض المصالح أو الأقسام، رغم أن المبدأ الإداري يقضي بتغييرهم كل أربع سنوات ) فالمكوث في المنصب العام يجعل المسؤول الإداري لا يهاب القانون، مما يدفعه ويشجعه على الفساد، ما دام ليس هناك من يحركه من منصبه.
2-الإصلاح الإداري والمالي: فلا بد من وضع الضوابط والقواعد اللازمة لمنع التداخل بين المال العام والمصالح الخاصة، مع القضاء التدريجي على مفهوم ( الدولة – المزرعة ) ، إذ لا زال البعض يعتبر الوظائف العامة ” بقرة حلوب ” .
3-إصلاح منظومة الأجور: بحيث ينبغي تحسين أوضاع صغار الموظفين الذين يساورهم الفقر، فيجدون في الرشوة الصغيرة أو سرقة المال العام ملاذا لسد العجز الحاصل في ” ميزانية ” ذويهم، حتى وإن كان مشكل الفقر ليس مبررا كافيا للفساد، بدليل أن كبار المسؤولين الذين يتقاضون أجورا عالية، هم أحيانا من أكبر ناهبي المال العام.
4-خلق أجهزة لرصد الفساد: إنه لمن المفيد جدا، خلق أجهزة وآليات ترصد ممارسات الفساد وتكشف عن خيوطه وملابساته بشكل دوري ومستمر، على غرار مراصد حقوق الإنسان.
بالإضافة إلى الإجراءات المشار إليها أعلاه، في رأيي ينبغي أيضا محاربة الفساد عبر المنظومة التربوية،وذلك بإشاعة القيم والمثل التي تعلي من شأن الصالح العام، مع تلقين الناشئة وتوعيتها بالضوابط والمبادئ التي قد تحمي مسيرة المجتمع من الفساد.
….
عن موقع منبر الدكتور محمد عابد الجابري