من أرض المعارك في الموصل شمالي العراق تنبثق صورٌ شبيهة بمشاهد مألوفة في أفلام الأموات الأحياء. فهنا تتراكم الآليات العسكرية المحروقة في شوارع مقفرة، وعند كل مفترق طرق تتناثر أدلةٌ على معارك طاحنة أبى مقاتلوها الاستسلام. وهناك بزّاتٌ عسكرية مبعثرة خارج مراكز الشرطة المدمرة، ومئات آلاف المدنيين يهربون خوفاً على حياتهم. لقد باتت الموصل مدينة أشباحٍ لا يغامر بالخروج إلى شوارعها سوى اللصوص والكلاب المشردة.
لكن هذا ليس فيلم أموات أحياء. بل هي ثاني أكبر مدينة في العراق والعاصمة السياسية والاقتصادية المزدهرة للمجتمع العربي السني في البلاد. ففي غضون أيام معدودة بين 6 و9 حزيران/يونيو، وقع سكان المدينة البالغ عددهم 1,8 مليون نسمة تحت سيطرة تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» («داعش»)، الذي كان منتسباً لـ تنظيم «القاعدة» وانفصل عنه في نيسان/أبريل 2013، هذا التنظيم الذي يخوض حربه الخاصة والذي أوشك بشكل خطير على تحقيق حلمه بإعادة الخلافة الإسلامية الممتدة من الساحل اللبناني المطل على البحر المتوسط حتى جبال زاغروس في إيران. وها هي مشاهد الموصل تتكرر في عشرات المدن الشمالية الأخرى التي وقعت بأيدي «داعش» وغيرهم من المتمردين.
فكيف نجحت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في تنفيذ هذا الانقلاب؟ لقد انطلقت «داعش» من قاعدة آمنة في محافظة الرقة السورية حيث بدا أنها استعدت بعناية لتنفيذ عملياتها في الموصل وفي عدد من المدن الأخرى، وذلك كمستهلٍّ للغزو المزمع في شهر رمضان من هذا العام – وهو تقليد سنوي ملتوٍ يشيع في العراق منذ العام 2003 ويتوافق توقيته مع حلول شهر رمضان المبارك مع الإشارة إلى أن رمضان يمتد طيلة شهر تموز/يوليو هذا العام. وقد كان استحواذ «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على الفلوجة في كانون الثاني/يناير 2014 وما أحاطه من تغطية إعلامية واسعة، خطوةً انتهازية من قبل التنظيم حيث استغل زلاّت الحكومة العراقية للتحرك. لكن الهجوم على الموصل ينمّ عن تناقضٍ حاد، إذ بدا مدروساً ومتعمداً كمحاولة لتقويض سيطرة الحكومة على شمال العراق وتنصيب «داعش» المنتصر الوحيد على الساحة. وحتى الآن، نجحت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» في تحقيق مآربها.
وتجدر الإشارة إلى أن تنظيم «داعش» الذي كان يعرف سابقاً بـ تنظيم «القاعدة في العراق» هو جماعة قتالية بقيادة عراقية تجنّد انتحارييها بشكل رئيسي من المتطوعين الدوليين، أما جنودها المشاة فتجمعهم من العراق وسوريا، في حين تأتي أموالها بالدرجة الأولى من مجموعة محلية من تنظيمات الجريمة المنظمة. وقد استغلت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» النزاع السوري لتعزز قوتها وتؤكد استقلاليتها عن القيادة العليا لـ تنظيم «القاعدة» في باكستان، التي تنصلت منها في شباط/فبراير 2014. بيد أن التطلعات الحقيقية لهذا التنظيم تكمن في العراق. فغالبية قياداته وعناصره من الجنسية العراقية، بمن فيهم أمير الجماعة أبو بكر البغدادي. ومن شأن السيطرة على غرب الموصل أن تجعل «داعش» مسؤولة عن العاصمة السياسية والاقتصادية للعراق السنّي، وهذه غنيمة ذات قيمة دعائية هائلة.
وقد استعانت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بمقاتلين متمرسين تدربوا في ساحات المعارك السورية والعراقية لتشق طريقها بالدمار – وفي غضون ساعات – نحو الأحياء الغربية في الموصل، منطلقةً من بادية الجزيرة، وهي صحراء سورية-عراقية تقع بين دجلة والفرات. ذلك أن ضُعف سيطرة الحكومة العراقية على البادية أتاح للتنظيم إدخال مئات المقاتلين من العراق وسوريا إلى معركة الموصل. ومع ذلك، لم تبدُ قوات «داعش» الهجومية كبيرة إذ تراوحت أعدادها بين 400 و800 مقاتل بحسب التقديرات المتفاوتة. إلا أن «الدولة الإسلامية في العراق والشام» استفادت من عنصر المفاجأة والعدوانية لتحطيم معنويات الشرطة العراقية شبه العسكرية والقوات المسلحة في الموصل خلال ثلاثة أيام من المعارك الضارية. فقد واجهت «داعش» قوات حكومية تبلغ 15 أضعاف حجم قواتها وهزمتها شرّ هزيمة. فاستوعِبوا ذلك إن أمكن.
في الواقع، بدا أن الكتائب الأمنية العشرين التابعة للحكومة في مدينة الموصل تبددت بالكامل بين 8 و9 حزيران/يونيو، مع ظهور أدلة لا يستهان بها من الأشرطة المصورة عن ظاهرة انسحابٍ كلية حيث ترك الجنود مراكزهم وآلياتهم وخلعوا بزاتهم العسكرية واعتزلوا القتال. ومثالٌ عن ذلك صورة عن بزة مخلوعة للواء في الشرطة. وقد استولت «داعش» على المقرّين الأمنيين الرئيسيين في الموصل ونهبت كليهما، وكان ذلك مصير مكتب المحافظ ككل. وأفادت التقارير أن فرع البنك المركزي العراقي في الموصل تعرّض للسطو أيضاً بينما أُحرقت الكنيسة الأشورية التاريخية في المدينة. وفضلاً عن ذلك، تُرك المستودع اللوجستي للجيش العراقي ليسقط بيد تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، وقيل إن هذا الأخير أحرق ما يزيد عن 200 آلية عسكرية مزودة من الولايات المتحدة وتشمل سيارات هامر وشاحنات وآليات الهندسة العسكرية. هذا وفرضت «داعش» سيطرتها أيضاً على مطار الموصل الدولي ومطارها العسكري، حيث تم التبليغ عن تدمير الطوافات العراقية وهي جاثمة على أرض المطار فيما أُرسلت المدرعات بسرعة إلى سوريا كغنائم حرب.
وإذا بسباقٍ مستميت يبدأ للسيطرة على الموصل. فمن جهة، حققت «الدولة الإسلامية في العراق والشام» غايتها الأساسية بتهشيم كافة المؤسسات السياسية أو العسكرية المنافسة لها وذات الهيمنة العربية في الموصل غربي دجلة. والآن ستحاول أن تعزز سريعاً تحصين المدينة مستخدمةً طريقها المفتوح عبر الصحراء إلى سوريا وغيرها من المقاطعات العراقية المتصلة عبر الصحراء الغربية. ومع تخلخل السيطرة الحكومية على كامل المنطقة الممتدة حتى ضواحي بغداد الشمالية، تتمتع «داعش» بفرصة إحداث زعزعةٍ كبيرة إلى درجة أنه سيستحيل لأشهرٍ على بغداد حشد القوات اللازمة لاستعادة الموصل.
وهنا لا يسع الحكومة العراقية سوى أن تحاول تحرير الموصل بدافع أهميتها الرمزية والجغرافية. في هذا السياق، قام محافظ نينوى أثيل النجيفي – ومقره في الموصل- بالنزول إلى الشارع في 9 حزيران/يونيو بعد أن نجا بالكاد من اجتياح «الدولة الإسلامية في العراق والشام» لمكتبه. فحمل بندقية هجومية وسار بجانب حراسه الأمنيين سعياً إلى تعبئة رجال الموصل من أجل تشكيل ميليشيات دفاعية في الأحياء. لكن هذه المليشيات لم تتشكل على ما يبدو. فالمجتمع السني في كل مناطق العراق الشمالية بحاجة لرؤية حكومته تعود بقوة إلى الساحة قبل أن يخاطر بالموت ضحية تفجيرات سيارات «داعش» المفخخة، مع العلم بأن هذه التفجيرات قد تكون الخطوة الأولى التي يلجأ إليها التنظيم في حال نشوء حركة مقاومة محلية.
ومع احتشاد الوحدات المشتتة من القوات العسكرية العراقية في مناطق بعيدة تصل إلى التاجي، وهي قاعدة تقع في ضواحي بغداد على مسافة 200 ميل تقريباً جنوب الموصل، قد تكون الحكومة بطيئةً في تنظيم هجومها المضاد. فجنود بغداد يضطرون اليوم إلى الكفاح لشق طريقهم عبر سلسلة من المدن والمقاطعات التي سقطت في يد العدو بين العاصمة والموصل، وقد يواجهون في طريقهم هذه الكثير من العراقيل التي ستشتت انتباههم وتستنزف قوة الحكومة في الرد السريع. وتفيد التقارير أن القوات الخاصة والوحدات الجوية تشعر بالإرهاق بوتيرة متسارعة بسبب نقلها من أزمة إلى أزمة. والقوة العسكرية الوحيدة التي لا تنشغل حالياً بالقتال هي قوات “البشمركة” التي تضم مقاتلين أكراد تابعين لـ “حكومة إقليم كردستان”، إلا أن العلاقات بين بغداد والمنطقة الكردية متوترة بشكل خاص.
إن الولايات المتحدة، في سعيها إلى الإطاحة ببشار الأسد، وجدت نفسها مرغمة على توخي الحذر الشديد مع المجموعات الجهادية في سوريا. ولم يتم إدراج «الدولة الإسلامية في العراق والشام» بشكل حاسم على لائحة الولايات المتحدة للمنظمات الإرهابية إلا في شباط/فبراير 2014. ولكن في حين يمكن الاستفادة من المقاتلين الإسلاميين المتشددين في سوريا من الناحية الاستراتيجية، تبقى المسألة في العراق بسيطة: «داعش» تكسب الحرب ويجب وضعها عند حدّها.
لذلك يتحتم على واشنطن أن تتحرك إذا أرادت الولايات المتحدة تفادي أن تصبح «الدولة الإسلامية في العراق والشام» القوة العسكرية والسياسية المتماسكة الوحيدة في المناطق السنية من العراق. فقد طالب رئيس مجلس النواب وأعلى سياسي سنّي أسامة النجيفي في 10 حزيران/يونيو بدعمٍ عسكري إضافي للموصل بموجب “اتفاقية الإطار الاستراتيجي” التي تحكم العلاقات بين العراق والولايات المتحدة منذ إبرامها في العام 2011. وقد كشف لي العديد من المسؤولين الحكوميين العراقيين من وراء الأبواب المغلقة أن الحكومة العراقية طالبت بإلحاح بتوجيه ضربات جوية أمريكية على «داعش» على طول الحدود السورية وعند أطراف المدن العراقية كونها المنصات التي تنطلق منها غزوات «الدولة الإسلامية في العراق والشام». لكن الإدارة الأمريكية رأت في ذلك تدبيراً مفرطاً. فآثرت الانخراط في دبلوماسية ضروس حيث استعانت بمساعيها الحميدة لحث الفصائل العراقية على السعي نحو تحقيق مصالحة وطنية من شأنها إحياء إيمان العرب السنّة بالحل السلمي لشكاويهم من التمييز الذي تمارسه الحكومة الشيعية بحقهم. فهذه المصالحة قد تمهّد الطريق أمام تعاون العرب السنة في إرساء الاستقرار في الموصل وغيرها من المناطق التي فُقدت السيطرة عليها على غرار الفلوجة. وهذه مساعٍ حيوية – لكن مع احتلال «داعش» لمدينةٍ تلو الأخرى، يجب على واشنطن أن تبذل المزيد من الجهود (وبسرعة) من أجل تفادي خسارة الحكومة في العراق. وقد تدعو الحاجة كذلك إلى تكثيف التوجيه الأمريكي للمقرات العسكرية العراقية على الأرض وربما تنفيذ ضربات جوية أمريكية أيضاً من أجل وقف الانهيار العسكري في العراق وردّه في الاتجاه المعاكس.
إن إدارة أوباما مصممة على الوفاء بوعد إنهاء الحروب الذي قطعته في حملتها. ولهذه الغاية سحب البيت الأبيض القوات الأمريكية المقاتلة عام 2011. لكن هناك أدلة قوية على نحو متزايد بأن العراق بحاجة إلى مساعدة أمنية جديدة ومعززة، بما في ذلك ضربات جوية ومبادرة تعاون أمني معززة بشكل كبير من أجل إعادة بناء الجيش المشتت وتوجيهه في القتال. فالشرق الأوسط قد يصبح شاهداً على انهيار الاستقرار في بلدٍ متعدد الطوائف والإثنيات يضم 35 مليون نسمة ويقع على حدود العديد من أهم دول المنطقة ويعتبر الدولة المصدرة للنفط الأسرع نمواً في العالم. إنّ أي بلد آخر يتمتع بالأهمية نفسها ويواجه التحديات المفجعة نفسها كان سيحصل على المزيد من الدعم الأمريكي، لكن تعهد الانسحاب وضع العراق في فئة خاصة به وحده. غير أن واشنطن لم تعد تنعم بحرية التعامل مع العراق على أنه حالة خاصة. فـ تنظيم «الدولة الإسلامية في العراق والشام» قد تطور منذ أيام الاحتلال الأمريكي وبات اليوم يضع خطة نصب عينيه. ولا بد لواشنطن أن تحذو حذوه.
مايكل نايتس هو زميل ليفر في معهد واشنطن ومقره في بوسطن.