لعماري: متى يتعفف الإسلاميون عن التهريج السياسي والفجور الإعلامي؟
انتقد عبد الله لعماري، القيادي الإسلامي وعضو الأمانة العامة لحزب النهضة والفضيلة، سلوكيات عدد من الإسلاميين المغاربة الذين تبوءوا مناصب في السلطة، مبرزا أنهم “تحولوا في زمن الانتفاخ من ضحية إلى جلاد، فانقض بعضهم على خصومه بالجلد والتشويه”.
وقال لعماري، في مقال خص به هسبريس، إن “هؤلاء الدعاة والخطباء السياسيين الجدد، الذين يتخذون من الكلمة على المنابر والمنصات مادة للتهريج السياسي، أو للفجور الإعلامي، في حق مناوئيهم في الرأي والسياسة، يقترفون إساءة بالغة في حق الحركة الإسلامية”.
ونبه لعماري إلى أن ما سماه “التغول السياسي والإعلامي للإسلاميين” صار يبحر بعيدا بأصحابه إلى متاهات الكلام غير الموزون، وغير المسترشد بأدب المنهج الإسلامي في الحوار، أو في الاختصام على الآراء، أو الترافع في بسط الملاحظات ووجهات النظر”.
وفي ما يلي نص مقال عبد الله لعماري كما ورد إلى هسبريس:
…وإلى عهد قريب، لم يكن الرأي العام يسمع حسيسا للإسلاميين، لكون وسائل الإعلام كانت ساحة تكاد توصد منافذها دون صوت الإسلاميين، فقط كان هؤلاء يُسمعون بعضهم ويُسمعون الغير من على منابر المساجد، أو في المجالس الخاصة مجالس الإيمان والذكر والتربية، أو في المجالس العامة، فمجالِسِ الأفراح والأتراح، ولم تكن مادة القول تتجاوز الوعظ والإرشاد والتثقيف العقائدي، والتذكير بأمجاد الإسلام، ويتخلل ذلك بعضٌ من التعاطي مع واقع المسلمين، إن على المستوى المحلي، أو على مستوى قضايا الأمة العربية والإسلامية.
لكنّ زمن الحصار والتضييق على الكلمة الإسلامية والرأي الإسلامي، ولى واندثر، وأصبح الخطباء والمحدثون والسياسيون الإسلاميون يملأون الدنيا ويشغلون الناس، من على صفحات الجرائد، وقنوات وفضائيات الإعلام المرئي، ومنصات المهرجانات والتجمعات العامرة، ويكفي أن ينسب المرء نفسه للإسلام السياسي أو الإسلام الدعوي، فيمرح ويسرح كيف يشاء في عالم الإعلام الفسيح.
فالإسلاميون الذين كانوا بالأمس، دراويش مستضعفين، يفترشون حصائر الوعظ، ويختفون متسللين في عتمات العمل السري، أصبحوا اليوم يقتعدون الأرائك الباذخة للسلطة، ويتحكمون في شرايين المال والرأي، ويُجيشون التجمعات الجماهيرية، ويحصدون الأصوات الانتخابية كما تُحصد الزروع، ويتأبطون صناديق الاقتراع، فوزا واستحواذا، تملكا لها بكل اختيال وزهو.
لكن هذا التغول السياسي والإعلامي للإسلاميين راح يبحر بعيدا بأصحابه، إلى متاهات الكلام غير الموزون، وغير المسترشد بأدب المنهج الإسلامي، في الحوار والتدافع، أو في الاختصام على الآراء، أو الترافع في بسط الملاحظات والتقييمات ووجهات النظر.
فيطيب لأحدهم أن يعتلي منصة الخطابة السياسية أو الدعوية، ويمرّغ خصومه السياسيين أو الإيديولوجيين في وحل القدح والتشهير والسخرية والتعريض، بكل استعلاء وتطاول، بل وبكل عجرفة، وكأنما الإسلام الذي يحمله في صدره، أو يرفعه شعارا، يبيح له ذلك.
والحال، أن للحوار وللجدال آدابا وأخلاقا وقيودا، لا ينبغي لمن ينتسب لحركة الإسلام، حالا أو شعارا، سوى أن يتقيد بها، فلا يُسَوِّغَنَّ أحد لنفسه اجتراح السباب والعدوان والغلظة والسخرية مهما كانت المشاحنات، لأن الحركة بالإسلام، هدفها الأسمى هو تألف قلوب الناس، وإشاعة الود بين الناس، وتجميع الناس على التعاون على أساس البر والتقوى، لا على أساس الإثم والعدوان.
وقد نهى القرآن العظيم عن السباب حتى ولو كان موجها للمشركين “ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عَدْوًا بغير علم” سورة الأنعام 108.
فكيف والأمر يتعلق بالجدل السياسي أو الفكري بين الإسلاميين ومخالفيهم من بني دينهم ووطنهم، أي من داخل دائرة المسلمين، فيما لا يَسُوغ لأحد أن يتعالى على أحد بتدين أكثر أو ادعاء بوطنية أكبر.
فالسلوك الذي يلجأ إليه بعض الإسلاميين المتنفذين في الشأن السياسي أو الشأن الدعوي، ويخالفون به المنهج القرآني النبوي، من شأنه بث التنفير والفرقة، لأنه سيحسب على الفظاظة والغلظة التي نهى الله عز وجل عنها “ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك” سورة آل عمران 159.
ناهيك عن الآثار التي يمكن أن يخلفها هذا التعالي على الآخرين، من استعداء على الخط الإسلامي، واستهجان لأتباعه ورواده والدعاة إليه، وانتكاسة لحركية الدعوة.
إن هؤلاء الدعاة والخطباء السياسيين الجدد، الذين يتخذون من الكلمة على المنابر والمنصات مادة للتهريج السياسي، أو للفجور الإعلامي، في حق مناوئيهم في ساحة الرأي أو في مجال السياسة، ويفعلون ذلك مَزْهُوِّين بما أسبغت عليهم الحركة الإسلامية، من استقواء بالأتباع والنفوذ، هم في واقع الأمر يقترفون إساءة بالغة في حق الحركة الإسلامية، التي بوأتهم مكانة مرموقة، ارتفعوا بها إلى المرتقى الذي أصبحوا من خلاله يترفعون على الجميع، وهم بذلك يقعون في خيانة الأمانة التي طوقت بها الحركة الإسلامية أعناقهم، من جراء ما استغرقتهم فيه الأنانيات الصغيرة، والمصالح الهزيلة الفانية، فأوقعتهم في خوض المعارك الهامشية التافهة، على حساب الأهداف الكبرى للحركة الإسلامية، التي تُغَلّب موازين الوحدة والتكتل والتجمع والتعاون تحت سقف الوطن أو تحت سقف الأمة الإسلامية، وترجحها على تفاهات الفرقة والمناكفات الفارغة المضللة لوعي الجماهير، والمُضيعة لحقوقهم ومصالحهم، والتي تصرف الأنظار بوعي أو بغير وعي عن الجراحات الغائرة والآلام النازفة في جسد الوطن، وفي واقع الشعب.
إن الإرهاب الفكري والإيديولوجي، أنى كانت مرجعيته، سلاح مقيت، في مواجهة تنوير الوعي الذي يفتح العقول والبصائر على مواطن الضعف ومكامن الخلل ومظان الداء، وإن تضافر الجهود في الانتقال نحو الأرقى، لا يتأتى إلا بتكامل الرؤى في تفاعل الرأي والرأي المضاد، وتلاقح الاجتهاد بالاجتهاد.
ولقد عانى الإسلاميون من قبل في زمنهم الجنيني من الإرهاب الفكري ضدهم، فلا ينبغي أن يتحولوا في زمن الانتفاخ، من ضحية إلى جلاد، فينقض بعضهم مستشعرا جنون العظمة، على خصومه بالجلد والتشويه، وعلى الآراء المخالفة بالتبخيس والازدراء، وما أشد الإرهاب الفكري حين يتدثر بالتأويل الديني.
وإن بناء الوطن هو غراس مستمر، يتكامل فيه نضال الأولين مع عطاء الآخِرِين، سيرا على نهج الحكمة القائلة: “غرسوا فأكلنا، ونغرس فيأكلون”، فالمغرب ليس بستانا لأحد، ولا مَشْتَلا لرأي واحد، بقدر ما هو فضاء فسيح يتسع للجميع.