الجائعون الرائعون

بقلم رشيد نيني

عن موقع  فلاش بريس

 

 فيكل مرة يطلب الشعب من رئيس الحكومة الوفاء بتعهداته وتطبيق الإصلاحات التي وعد بها وإلقاء القبض على المفسدين وإيداعهم السجن يشهر في وجهه ورقة

الإصلاح في ظل الاستقرار، مذكرا بأن حزبه أنقذ المغرب من الفوضى.

واليوم لم يعد رئيس الحكومة وحده من يمن على المغاربة بأنه أنقذهم من الحرب الأهلية والفوضى، بل انضم إليه مزوار وزير الخارجية والأمين العام لحزب التجمع الوطني للأحرار، والذي قال في اجتماع المجلس الوطني لحزبه بطنجة إن التجمع أنقذ البلاد عندما قبل بدخول النسخة الثانية من حكومة بنكيران.
هكذا فمع كل يوم جديد سيخرج زعيم حزب لكي يمن على المغاربة ويذكرهم بأنه لولاه لكانوا اليوم يتقاتلون في ما بينهم كما يحدث في سوريا وكما حدث في مصر وليبيا وغيرها من دول الربيع العربي. مع أن الجميع يعرف أن بنكيران لم ينقذ أحدا آخر غير نفسه من البطالة السياسية وإخوانه من البطالة المهنية، بحيث أصبح أغلبهم يسكن الفلل بعدما كانوا يقطنون في شقق السكن الاقتصادي.

أما مزوار فيعرف أكثر من غيره أنه لم ينقذ البلاد بدخوله إلى الحكومة وإنما أنقذ نفسه من المتابعة القضائية بسبب قضية العلاوات الشهيرة، وعوض أن يدخل مقر الفرقة الوطنية دخل مقر الحكومة.

فهؤلاء السياسيون الذين صوتت لهم حفنة من الناخبين لا تكاد تمثل شيئا ضمن الكتلة الناخبة، يعتقدون أنه بدون طلعتهم البهية ستقوم القيامة في المغرب وسيأكل المغاربة بعضهم البعض.

كم هم واهمون هؤلاء السياسيون المنافقون والمداهنون والأغبياء.    

فهم يطلبون من المغاربة أن يكونوا مواطنين صالحين، وهم عندما يطلبون منهم ذلك فإنما يقصدون أن يكونوا مواطنين صالحين لمصالحهم. يطلبون منهم أن يكونوا معدمين وصالحين.

أن يدخلوا أيديهم في جيوبهم فلا يعثروا سوى على فواتير الماء والكهرباء ولائحة بأسماء الدائنين الذين يطلبونهم أحياء أو أمواتا.

يطلبون منهم أن يكونوا مظلومين وعقلاء في الوقت نفسه، حتى لا يضيفوا إلى لائحة اتهاماتهم جنحة الرجولة. يطلبون منهم أن يتوجعوا لكن بصمت.

يطلبون منهم أن يكونوا حزينين بملامح مسرورة للغاية، وأن يكونوا مفجوعين بشكل حضاري، حتى إذا صرخوا من شدة الألم أشعلوا الأمل والحبور في نفوس المفجوعين من أمثالهم.
يطلبون منهم أن يذهبوا إلى النوم ببال مرتاح وأفكار مرتبة كملفات السكرتيرات، حتى ولو كانوا مبعثرين عن آخرهم ولا تهتدي يدهم إلى جيوبهم إلا بمشقة بالغة.
يطلبون منهم أن يكونوا أمناء وألا يخلطوا جيوب الناس بجيوبهم، وأن يوقظوا ضمائرهم إذا اختلطت عليهم الجيوب، وأن ينوموها كلما دس أحدهم يده في جيوبهم.
إنهم يطلبون منهم أن يكونوا تعساء وودودين، أن يبحثوا في أعماقهم فلا يجدوا سوى الغضب وأن يعرفوا كيف يصرفوا هذا الغضب بلا حمرة في العينين ولا حدة في الأنفاس ولا عض على الأسنان.
يطلبون منهم أن يمضغوا طعامهم بفم مغلق حتى لا تتعود أنيابهم على الظهور أكثر من اللازم، فهم يخافون أنياب الجياع البارزة ويخشون ألا تجد ما تطحن يوما فيشهرونها في وجوههم السمينة مثل سكاكين اللصوص في المنعطفات الحادة.
إنهم يطلبون منهم أن يناموا بلا أحلام، وإذا حلموا أن يحكوا عنها في الغد بشكل خاص جدا حتى لا تثير الشبهات حول النيام الآخرين الذين لا يحلمون بالليل ويؤجلون أحلامهم إلى النهار لكي يروها وهي تتحقق أمامهم في ضوء النهار.
إنهم يطلبون منهم أن يكونوا عميانا رغم أن عيونهم أوسع من النوافذ، وأن تنعدم الرؤية أمامهم كلما مر أحدهم هاربا بقسطه من الكعكة التي أعدها الشعب، وألا تفتحوا عيونهم إلا عندما يحين دورهم التاريخي في جمع الفتات، الذي هو نصيبهم النضالي جزاء بصيرتهم المتفانية في العماء.
إنهم يطلبون منهم أن يعيشوا سعداء وبسيطين، أن يفترشوا أوراق الجرائد وأن يلتهموا العناوين العريضة والمواضيع الدسمة في نشرات الأخبار. أن يقطنوا أحذيتهم وأن يرتدوا الثياب المستعملة وأن يضحكوا بانتظام على الأقل مرتين في اليوم، وأن يحزنوا بكميات معقولة حتى لا يصابوا بتضخم في القلب، فيزاحمونهم أسرتهم النظيفة في المستشفيات.
إنهم يريدون منهم أن يبكوا بين حين وآخر، لذلك يسلطون عليهم كل تلك المسلسلات والبرامج الرديئة والمنشطين الثخينين في التلفزيون.
إنهم يطلبون منهم أن يفكروا دون أن يكلفوا أنفسهم عناء النزول إلى العمق، وأن يظلوا بالمقابل فوق السطح معرضين ضمائرهم المستترة لتيارات الهواء الباردة.
إنهم يطلبون منهم أن يتفانوا في أداء الواجب الوطني وأن يقنعوا بالحد الأدنى للأجور وأتفه المسؤوليات، وأن يحرقوا أعصابهم يوميا في كتابة التقارير التي لن يطالعها أحد، وأن  ينشفوا دماغهم في إحصاء الأموال التي لا تعرف البنوك التي ستسمن فيها، وأن يكون كل نصيبهم من هذه المحنة أقل بكثير من نصيب أولئك الموظفين الكبار الذين كل بطولاتهم أنهم يضعون توقيعاتهم الرديئة بأقلام حبرهم الضخمة وينصرفون لأخذ أتعابهم الأكثر ضخامة من سيغارهم الكوبي.
يطلبون منهم أن يكونوا متذمرين، لكن بقسمات مبتهجة. أن ترقد أمهاتهم في السرير بلا علاج وأن يفرحوا لمجرد أن الأمطار نزلت بكثرة هذا الموسم. أن يجدوا إشعارا بضريبة ثقيلة تحت الباب عوض أن يجدوا رسالة صديق، وأن تبقى لديهم مع ذلك الرغبة في قراءة كتاب قبل النوم أو الجلوس قرب سرير الصغار وإسماعهم مرة أخرى حكاية ذلك الوحش الذي التهم بمفرده وطنا رائعا ثم مات وحيدا بسبب التخمة.
يطلبون منهم أن يناموا باكرا ويصحوا باكرا لأن هذا من صفات المواطن الصالح، وهم لا يعرفون أن النوم في هذه الأيام أصبح يتطلب أدوية كثيرة واحتياطات أكثر بسبب كل الكوابيس المرعبة التي أصبحت تتسكع في أحلام الفقراء مثل القطط الضالة.
إنهم يطلبون منهم أن يكفوا عن إزعاجهم بمشاريعهم الطموحة وأفكارهم النيرة، أن يقتنعوا بأن الحرية امرأة مطلقة تنام مع الغرباء، وأن الكرامة ليست سوى ضربة حذاء ثقيل مغلفة بقفاز أبيض، وأن الشجاعة ليست سوى صورة صفراء لفارس ملثم يطعن غولا كانت معلقة على جدران مدارسنا الابتدائية.
إنهم يطلبون منهم أن يمنحوهم كل وقتهم وكل إعجابهم وكل مشاعرهم، لأنهم يحتاجونها جميعها ليقنعوا أنفسهم بجدوى العطور الثمينة التي يشترونها من عواصم العالم، وبجدوى تسريحات شعور زوجاتهم الناعمة وبجمالية جلستهم المتراخية على كراسيهم الوثيرة.
إنهم يطلبون منهم ألا يكونوا مبالغين وهم يحكون عن تعاساتهم، أن يستعملوا الكلمات التي تليق بالنعيم الذي يرتعون فيه وأن يعرفوا حدود مياههم الإقليمية جيدا. أن يسحبوا شكواهم عندما لا يكون هناك استعداد من طرف سعادتهم لسماعها، وأن يبسطوا امتنانهم البالغ لقبولهم استقبال مواطن حقير ووضيع مثلك.
وفي الأخير ينصحونهم بأن يعتمدوا على مواهبهم وأن يحلوا مشاكلهم بأنفسهم، رغم أنهم لم يتسببوا قط في خلق أي مشكل، والحل الوحيد الذي يقترحون عليهم هو أن يدفعوا أيام حياتهم بالتقسيط المريح حتى يسددوا الأخطاء التي ارتكبها غيرهم.
إنهم يطلبون منهم أن يتعلموا كيف يتخابثون في كلامهم كما يتخابثون هم، وأن يضعوا بين كل كلمة وأخرى عبارة شكر وامتنان.
إنهم يطلبون منهم أن يكونوا حريصين على حياتهم وأن يفكروا في المستقبل بجدية، وينصحونهم بأن يكونوا رومانسيين وأن تلتقي نظراتهم بنظرات فتاة في القطار فيسقطا في حب بعضهما البعض على الفور ويتزوجا كما يحدث في المسلسلات المكسيكية الرديئة التي يقدمونها لهم يوميا على مائدة الغداء. هكذا يصبحون مواطنين صالحين وتصير لهم زوجة وأبناء وواجبات وديون وفواتير لا تحصى وحسابات عند المحلات التجارية والصيدليات، وحسابات أخرى عويصة مع الجيران.
إنهم يطلبون منهم أن يؤلفوا عائلة صغيرة وكتبا في أوقات الفراغ، أن يذهبوا كأي أغبياء مسرورين إلى العروض السينمائية التي تبتز جيوب الناس، وعندما يريدون أن يسافروا يذهبون ليقفوا في الصف للحصول على قرض سوف يسددونه طيلة حياتهم التعيسة.
إنهم يطلبون منهم أن يصبح لهم سطح يعيشون فوقه وعتبة للفقر يعيشون تحتها.
أن ينجبوا أطفالا ويتزاحموا أمام أبواب المحلات التجارية ليشتروا لهم الحليب الاصطناعي، لأن أمهاتهم سيرفضن إعطاءهم أثداءهن انسجاما مع تعاليم الحركة النسائية العالمية.
إنهم يطلبون منهم أن يكدوا طوال حياتهم مثل بغال جبارة وعندما يصلون سن التقاعد يصرفون لهم مرتبا لا يكفي لإعالة كلب واحد من كلابهم الأنيقة.
إنهم يطلبون منهم أكثر ما يمكن من الهدوء في الأعصاب، وأقل ما يمكن من الغضب في النظرة، وتقريبا لا شيء من الكرامة.
إنهم يطلبون منهم أن يكونوا جائعين ورائعين، عراة وشرفاء، وحيدين وأليفين.
يطلبون منهم أن يكونوا مضروبين وغير ناقمين، مهشمين وكل جوارحهم تصفق لهم ولسياستهم الرشيدة.
إنهم يطلبون منهم المستحيل، إنهم ببساطة يطلبون رأسك لا غير.

‫شاهد أيضًا‬

حضور الخيل وفرسان التبوريدة في غناء فن العيطة المغربية * أحمد فردوس

حين تصهل العاديات في محرك الخيل والخير، تنتصب هامات “الشُّجْعَانْ” على صهواتها…