الفلسفة أداة للحوار

 

عبد السلام بنعبد العالي

 

لسنا في حاجة إلى كبير عناء وطول تحليل كي نتبين ونبين كيف تكون الفلسفة أداة للحوار.فلو نحن سلمنا بأن الفلسفة تحتكم إلى العقل السليم الذي هو «أعدل الأشياء قسمة بين الناس»، لخلصنا إلى القول مباشرة وبلا تردد إنها أنجع الأدوات لخلق الحوار ورفع سوء التفاهم وتوحيد الأفكار ولم الشتات وتكريس الائتلاف.

 

إلا أن المباشرة وعدم التردد، كما نعلم، كثيرا ما يحجبان ما ينبغي أن يطرح موضع تساؤل: فهل حقا أن غاية كل حوار هي رفع سوء التفاهم وتوحيد الأفكار، أو على الأقل تحقيق الحد الأدنى من الإجماع؟هل مرمى الحوار الفلسفي هو البحث عن نقاط الالتقاء؟ثم هل تكمن وظيفة الفلسفة في لم الشتات وتحقيق الوئام؟

 

محاولة للإجابة عن هذا التساؤل الأخير يكفي أن نلتفت إلى تاريخ الفلسفة حيث نتبين أن الفلاسفة لم يكونوا عبر التاريخ دعاة وئام ولا مصدر تصالح، فضلا على أن كثيرا من النصوص الفلسفية ما تزال إلى اليوم مثار تأويلات متضاربة وجدالات لامتناهية. ولم يكن هذا الأمر ليخفى بطبيعة الحال على مؤرخي الفلسفة وعظام الفلاسفة، ويكفي أن نتذكر ما يقوله أبو الفلسفة الحديثة في كتاب القواعد عن اختلاف الفلاسفة وعدم تمكنهم من تحقيق الوئام حتى فيما بينهم.

 

ينبغي أن نضيف إلى ذلك ما يمكن أن ندعوه الطبيعة الانفصالية للتفكير الفلسفي. فمقابل الدعوات الإيديولوجية التي تقوم على إغفال التناقضات وخلق الوفاق، فإن الفلسفة كما نعلم،إستراتيجية تسعى إلى الكشف عن الاختلاف فيما وراء الائتلاف، وعن التعدد فيما وراء الوحدة.الإيديولوجية تجمع وتوحد،أما الفلسفة فهي تشتت وتفرق.إنها استراتيجية لتكريس الانفصال، وسعي وراء إحداث الفجوات في ما يبدو متصلا، وخلق الفراغ في ما يبدو ممتلئا، وزرع الشك في ما يبدو بدهيا، وتوليد البارادوكس في ما يعمل دوكسا.

 

هل نستنتج من ذلك أن منهج الفلاسفة ومنطق خطابهم لا يتوخيان خلق التفاهم بقدر ما يستهدفان إذكاء روح النقد وخلق سوء التفاهم أو إبرازه على الأقل؟

 

ربما يكفينا أن نتوقف قليلا عند مجرى الحوار الفلسفي ذاته لتبين كل ذلك، ولنتذكر بهذا الصدد المناخ الذي يطبع المحاورات الأفلاطونية في مختلف مراحلها حيث نتبين أنه كلما تقدم الحوار فان شعورا بالعجز أمام «شيء ما» يجعل الحوار يتعثر، بل إنه قد يوقفه ويؤزمه.

 

على رغم ذلك فإن ما ينبغي الإلحاح عليه هو أن النقاط التي يتعثر عندها الحوار ويحار عندها الفكر غالبا ما تكون هي بالضبط نقاط الالتقاء: أي النقاط التي تسوي جهل الجاهلين بمعرفة العارفين.

 

فكأن المسافة بين المتحاورين تزداد قربا كلما ازداد بعدهم، لا عن بعضهم البعض، بل عن ذواتهم. كل متحاور يزداد قربا من الآخر كلما ازداد بعدا عن نفسه.

 

ذلك أن النقاط التي يتبلور عندها التعثر و«يتوقف» الحوار، أو على الأقل يتأزم، لا تفرق بين المتحاورين، وإنما بين الفكر وبداهاته، بين الفكر ومسبقاته، أو لنقل بين الفكر وبين نفسه وهو يسعى للانفصال عنها.

 

فكأن الالتقاء بين أطراف الحوار لا يتم إلا عند نقاط افتراق، وكأن الاتصال بينها لا يتم إلا عند نقاط انفصال: نقاط التأزم والتأزيم التي يتحرر عندها الفكر من يقينياته ويتخفف من «حقائقه». إنها النقاط التي يغدو عندها أطراف الحوار«في الهم سواء»، وليس أي هم ، بل الهم الفكري «الذي تتحول فيه الأشياء التي تبدو معروفة إلى أشياء تكون أهلا للمساءلة» على حد تعبير هايدغر.

 

إن الفلسفة، من حيث إنها مقاومة تعمل ضد كل ما من شأنه أن يكرس التطابق والوفاق والائتلاف والتقليد، تأكيد بأن كل تفاهم مفترض يخفي من ورائه سوء تفاهم أصلي.على هذا النحو فإن الحوار الفلسفي لا يرمي إلى أن يحقق الحد الأدنى من التفاهم، وإنما يهدف، على العكس من ذلك، إلى أن يبين أن ما يقدم كنقاط التقاء قد يكون نقاط انفصال، وما يعتبر تفاهما قد ينطوي على سوء تفاهم. إلا أنه ليس بالضرورة سوء تفاهم بين الأطراف المتحاورة، بل أنه قد يكون أساسا سوء تفاهم الفكر مع نفسه، سوء تفاهم ذاتي.

 

بناء على ذلك ربما ينبغي بهذا الصدد إعادة النظر في مفهوم الحوار ذاته.فليس الحوار مجرد تبادل الكلام بين أكثر من طرف بغية التوصل إلى حد أدنى من التراضي. انه بالأولى سعي وراء السير على الدرب نفسه.لا يعني ذلك إتباع درب خطط من قبل وما على الأطراف إلا انتهاجه، وإنما مساهمة أكثر من طرف في شق دروب الفكر، مساهمته في إبداع الأسئلة، وتوليد المفارقات. لعل هذا هو ما يعنيه بوفري عندما يعطي لرباعيته عنوان:حوارات مع هايدغر. بناء على ذلك فإن كان ولابد إذن من الحديث عن التراضي كمرمى للحوار، فإنه التراضي حول الأسئلة، التراضي حول شق السبل وفتح الآفاق، التراضي لا حول ما يطمئن ويرضي، بل التراضي حول ما لا يطمئن وما لا يرضي.

 

لا عجب إذن أن يسود الفكر المعاصر ما يدعى فلسفات الوجس، تلك الفلسفات التي تنطلق من سوء نية أصلية وتفترض ليس شيطان ديكارت فحسب، ولا مكر التاريخ الهيجلي وحده، ولا خبث العلامات الذي يتحدث عنه فوكو، وإنما خبثا أنطلوجيا يشمل كل الكائن.

 

وعلى رغم ذلك فان هذه الفلسفات سيئة الظن لا تعمل على التفرقة بين المتحاورين، وإنما تقرب فيما بينهم بأن تجعل كلا منهم يبتعد عن نفسه، ويخرج عن عزلته. لنقل إذن إنها تضع التوحد محل الانعزال.

 

في نص جميل تحت عنوان لماذا نحب البقاء في الأرياف؟ يميز هايدغر، وبالضبط في معرض حديثه عما يدعوه «العمل الفلسفي»،يميز بين العزلة وبين التوحد. يقول: «غالبا ما يندهش أهل المدينة من انعزالي الطويل الرتيب في الجبال مع الفلاحين. إلا أن هذا ليس انعزالا، وإنما هي الوحدة. ففي المدن الكبيرة يستطيع المرء بسهولة أن يكون منعزلا أكثر من أي مكان آخر، لكنه لا يستطيع أبدا أن يكون فيها وحيدا. ذلك أن للوحدة القدرة الأصلية على عدم عزلنا، بل إنها، على العكس من ذلك، ترمي وجودنا بأكمله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء كلها.»

 

يأتي هذا التقابل في النص المذكور ضمن تقابلات عدة لعل أهمها التقابل بين الريف والمدينة، أي بين فضاء تسوده علاقات حميمة يغلفها الصمت، وفضاء يسوده انعزال مغلف بعلاقات سطحية «تغمرها ثرثرة المتأدبين الكاذبة»، يمكن للمرء أن يصبح فيه «مشهورا في وقت قصير بواسطة الصحف والمجلات»، معروفا لدى الجميع تربطه علاقات بالكل من غير أن تربطه بأحد.

 

يفتضح هذا التقابل عندما تعلو موضة«الإقامة في الريف» ويهب أهل المدينة نحو الأرياف” فينظرون إليها ويعاملونها كما لو كانت امتدادا «للأماكن التي يتسلون فيها في مدنهم الكبرى»، كما لو كانت امتدادا لـ«مناطقهم الخضراء» أي لكائن «يدخل في مخطط استهلاكي»، كائن من صنع التقنية.

 

وهكذا يغدو التقابل المذكور تقابلا بين عالمين:عالم تسوده التقنية مع ما تفرضه من علائق بين البشر فيما بينهم، وبينهم وبين الكائن، وآخر يريد أن ينفلت من ذلك العالم ويتجاوزه.

 

قد يبدو كلام هايدغر للوهلة الأولى منطويا على تناقضات. فهو،على عكس ما نتوقع، يربط الشهرة والثرثرة والإعلام بالانعزال، مثلما يربط الصمت والتوحد بالحوار. يرتفع هذا الشعور بالتناقض إذا علمنا أن هايدغر يريد بالضبطأنيفضح التواصل الكاذب الذي تفرضه الثقافة التنميطية التي تسود عالمنا المعاصر، تلك الثقافة التي تساهم في ذيوعها وسائل الإعلام التي تكتفي، كما يقول دولوز، بوضع الاستفسارات بدل طرح الأسئلة، وتعمل على خلق إجماع مفتعل بتوحيد الأذواق والآراء والعواطف والقيم،إنه يريد إذن أن يفضح هذا التواصل الكاذب ليكشف أن وراءه عزلة حقيقية تغلفها «ثرثرة المتأدبين الكاذبة»، ويقابلها بما يدعوه توحدا «يرمي وجودنا بأكمله في الحوار الواسع مع جوهر الأشياء كلها.»

 

لذلك سرعان ما يتخذ التقابل المذكور شكلا آخر، ويغدو تقابلا بين فضاء يقابل فيه الفكر العمل، وآخر تغدو فيه الفلسفة «عملا فلسفيا» لا يتحدد بفضاء التقنية وشرائطها وإنما «ينتظم سيره في حدث المنظر الطبيعي» و«يجد فيه الانتماء المباشر إلى عالم الفلاحين جذوره.»

تلك هي مهمة الفلسفة إذن، إنها تنقلنا من الانعزال نحو التوحد، ومن الاتصال الموهوم الذي تفرضه اليوم وسائل الاتصال، نحو التواصل الحق، فتأخذنا من فضاءات «التمدن» بما يسودها من حوار زائف وانسجام قطيعي وعزلة حقيقية«نرتبط فيها بالجميع من غير أن نرتبط بأحد»، إلى فضاءات تدفعنا لأن نعيش التفرد الأصيل وندخل في الحوار الواسع لا مع بعضنا البعض فحسب، وإنما مع «جوهر الأشياء كلها» كي نتجاوز عصر التقنية الذي يحدد علائقنا فيما بيننا وعلاقتنا بالوجود.

 

عن موقع.. منبر الدكتور محمد عابد الجابري

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…