الأغلبية لا تقرر مصير وسائل الإعلام العمومية
بقلم يونس مجاهد
من الطبيعي أن يحتد النقاش حول الإعلام العمومي، السمعي البصري، كما هو الحال في أغلب البلدان، خاصة تلك التي لم يحسم فيها، بعد، مصير الديمقراطية، والتي مازالت تحبو، في إطار انتقال ديمقراطي بطيء، كالمغرب، حيث تتصارع المشاريع المجتمعية، بين تلك التي تدافع عن الانفتاح، وتلك التي تدعو إلى التشدد والانغلاق، من منظور إيديولوجي.
ولعل النقاش الذي أثاره تصريح وزير الاتصال، مصطفى الخلفي، الذي اعتبر أن القنوات العمومية، تنشر قيما مناقضة “للهوية” الحضارية للمغاربة، مستندا إلى الدستور، يدعو إلى الجدل، لعدة أسباب، خاصة و أنه اعتبر أن “موظفا غير منتخب”، لا يمكنه أن يقرر في مصير أخلاق المغاربة، ووصف ذلك “بالمنكر”.
والمثير للجدل في تصريح الوزير هو تأويله الخاص “للهوية الحضارية” للمغاربة، والتي يأتي مفهوم “المنكر”، ليلخص منظوره لها، و الذي لا يخفى أنه ينطلق من إيديولوجية التيار الديني، الذي ينتمي إليه، غير أن نص الدستور لا يوافق هذا التأويل.
فالدستور، في مسألة الهوية، يعتبر المغرب دولة إسلامية، تتلاحم فيها وتتنوع مقومات الهوية الوطنية، بكل مكوناتها ” العربية-الإسلامية، والأمازيغية، والصحراوية الحسانية، والغنية بروافدها الإفريقية والأندلسية، والعبرية والمتوسطية”. وحتى بالنسبة للإسلام، فالدستور يربطه بقيم الانفتاح و الاعتدال، والتسامح، والحوار، والتفاهم المتبادل بين حضارات وثقافات الإنسانية جمعاء.
نحن لسنا أمام “إسلام” طالبان أو داعش، أو تنظيم القاعدة، حسب النص الدستوري، بل أمام إسلام مغربي، منفتح على التراث الإنساني، وهوية وطنية متعددة الروافد، وقد أخطأ الوزير، عندما ربط انتقاده للقنوات العمومية، بما أسماه “بالمنكر”، الذي نعرف أن التقليد ينص على تغييره لأنه حرام… وفي ذلك اتهام خطير للقنوات العمومية، مضمونه أن ما تقدمه للجمهور يعد بمثابة خروج عن القرآن والسنة.
لكن الأخطر من ذلك، أن يعتبر أن المنتخب له حق البت في “مصير أخلاق” المغاربة، وما يترتب عن هذا النموذج هو أن الأغلبية البرلمانية، التي تفرز جهازا تنفيذيا، سيكون لها حق فرض نموذج أخلاقي على الناس، ويعني أيضا أن الحكومة، ينبغي أن تهيمن على الإعلام العمومي، وتنصب على رأسها مسؤولين يقاسمونها نفس التوجه السياسي والإيديولوجي، ليقوموا بعملية التوجيه، الأخلاقي والفكري، لتطويع ثقافة وسلوك المواطنين، على شاكلة ما يحدث في الأنظمة الشمولية.
وإذا سلمنا بأحقية تقرير مصير “أخلاق المغاربة”، من طرف المنتخب، فيعني أيضا أن هذا الحق يسري على الأغلبية الجديدة، بعد أي تغيير يحصل بسبب انتخابات تشريعية، في نهاية الولاية، أو في انتخابات سابقة لأوانها، وتشكيل حكومة بتوجه سياسي وإيديولوجي، مغاير، ويصبح من حق كل جهاز تنفيذي جديد، أن يهيمن على وسائل الإعلام العمومية، ليعين المسؤولين عنها، من أجل تطويعها وتطويع الصحافيين، بهدف تشكيل جديد “لأخلاق المغاربة”، وهكذا دواليك…
لذلك من الخطأ أن نفكر في هذا الاتجاه، فالأخلاق والقيم، لا تفرض من طرف المنتخب، ولا من أي طرف أي جهاز، بل هي نتاج سوسيو- ثقافي، تتطور متغيراته، بتغير الأحوال، بفعل عدة عوامل، من أهمها المستوى التربوي والتعليمي، والتأثر بما يحصل من تحولات في الحياة اليومية و علاقات الناس بالمجالات الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية والتواصلية، وبمدى انفتاحهم أو انغلاقهم، على محيطهم الإقليمي والعالمي.
وحتما إن الوسائط الاجتماعية لها تأثيرها في منظومة القيم، وخاصة الوسائل السمعية البصرية، لذلك كانت وستظل، تحظى بأهمية خاصة في التنظيم المؤسساتي، داخل الدول الديمقراطية، من خلال نماذج شتى، تسعى كلها إلى أن تجعلها مستقلة عن الجهاز التنفيذي، حتى تصون التعددية السياسية والثقافية في البلد، ضمن منظور لا يتأثر بتغير الأغلبيات و الحكومات.
وإذا كان هناك من انتقاد ينبغي توجيهه للتجربة المغربية، في هذا المجال، فهو عدم قدرة التنظيم المؤسساتي، من هيأة عليا للاتصال السمعي البصري، وقوانين مؤطرة، وقنوات ومحطات عمومية، على تفعيل مبادئ المهنية والجودة والمرفق العام والحق في الخبر، لآن آليات الاستقلالية والحكامة، مازالت في حاجة إلى مجهود مضاعف.
ولن نقبل، من منطلق قناعتنا بضرورة بناء الديمقراطية، أن نعود إلى الوراء، وأن يصبح من حق الأغلبية البرلمانية وجهازها التنفيذي، التقرير في مصير “أخلاق المغاربة”، كما يراها حزب، يتصدر الحكومة حاليا، وغدا قد تأتي أغلبية جديدة، لتوجهنا، ربما نحو اتجاه أخلاقي آخر، إذا سلمنا بما نطق به وزير الاتصالل. وهذا في اعتقادنا، منهج خاطئ ولاديمقراطي.