التاريخ الشفوي: تاريخ من لا تاريخ له
بقلم ..
يطرح مفهوم التاريخ الشفوي أسئلة معرفية واسعة داخل حقل البحث التاريخي اليوم في العالم العربي، ويكتسب أهمية راهنة خاصة بعد الأحداث التي عاشتها المجتمعات العربية خلال ما سُمي بـ”الربيع العربي”. فتدافع الأحداث وتواليها بشكل سريع نتج عنه تغير في عملية التحقيب التاريخي، وتحول في إدراك الأحداث الزمنية، حيث ساهمت القنوات الفضائية، ووسائل الإعلام، وتكنولوجيا الاتصالات، وشبكات التواصل الاجتماعية في إلغاء المسافة الفاصلة بين الماضي والحاضر الذي أصبح يتحول إلى تاريخ راهن أمام الإنسان العربي.
هذه التحولات، أصبحت تطرح على المؤرخين العرب إشكالية تاريخية: كيف يمكن مقاربة ما عرفه العالم العربي من حراك سياسي واجتماعي مقاربة تاريخية هادئة بعيدة عن الأحكام المسبقة والخلفيات الإيديولوجية، والقراءة السطحية لواقع المجتمعات العربية؟، وما هي التحديات والرهانات المنهجية والإبستمولوجية اللازمة لفهم ما وقع خلال موجات “الربيع العربي”؟. من هنا تكمن أهمية معالجة موضوع التاريخ الشفوي، باعتباره حقلاً تاريخياً إسطوغرافياً يتيح للمؤرخ توسيع مجال البحث والدراسة، من خلال الاستماع إلى شهادات وروايات صانعي الأحداث والفاعلين فيها، والذين لم يظهر صوتهم في زمن سيطرة الإعلام والصورة، ويفتح الباب أيضاً للتفكير في إعادة الاعتبار للفرد بصفته فاعلاً تاريخياً.
إنّ كتابة التاريخ انطلقت في بداياتها من المنطوق الشفوي، فكل تواريخ العالم كانت خلال نشأتها وفي أساسها شفوية منذ هيرودوت الذي ألف “التنقيب”، وتوسيديد صاحب “حرب البيلوبونيز”، مروراً بالإخباريين العرب الأوائل والوسيطيين الذي أقاموا سردهم على نحو واسع بناء على الشواهد الشفهية. ولم تعد الكتابة تمثل السند الوحيد للذاكرة إلا في وقت متأخر من العصر الوسيط الأوروبي مع نمو المجتمعات الوثائقية الفيودالية، والدواوين الأميرية ثم اختراع الطباعة وانتشار التعليم، حينئذ تقهقرت مكانة المروي[1]. وهكذا، فالتاريخ الشفوي هو قطاع إسطوغرافي، ومنهج للبحث وظيفته دراسة الماضي من خلال ذاكرة منطوقة قوامها روايات الأفراد واستحضاراتهم عن حيواتهم وخبراتهم ومشاهداتهم، ولا سيما تلك التي شاركوا فيها أو كانوا مجرد شهود عيان عليها. وتحمل هذه الروايات والاستحضارات ترتيباً كرونولوجياً، وغالباً ما تكون مرقطة بالتأويلات.[2]
اقتبس المؤرخون مفهوم التاريخ الشفوي عن السوسيولوجيين الأمريكيين، إذ بدأت تظهر شيئاً فشيئاً فائدة النص الشفهي في توسيع فهم التاريخ، وأخذ المؤرخون يعيدون الاعتبار للحكي ويتناولونه كمصدر تاريخي، وكموضوع للتاريخ في الآن نفسه.[3] ففي الولايات المتحدة الأمريكية انطلق تيار التاريخ الشفوي من خلال مدرستين: الأولى “تيار كولومبيا” الذي اهتم بالنخب السياسية والعسكرية والاقتصادية والعلمية والثقافية، والثانية “تيار شيكاغو” الذي انصب اهتمامه حول تاريخ المهمشين.
فبالنسبة للتيار الأول، فهو مدرسة كولومبيا التي أسسها الصحفي والبيوغرافي الأمريكي آلان نيفينز الذي أسس رفقة لويس ستار أول مركز للتاريخ الشفوي سنة 1948 بجامعة كولومبيا، واشتغل من خلاله على جمع الشهادات الشفوية لشخصيات أسهمت مساهمة فعالة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية. أما التيار الثاني، فهو مدرسة شيكاغو السوسيولوجية التي تعود إلى العشرينيات من القرن العشرين، وأهم روادها: وليام إسحاق توماس، وفلوريان فيتولد زنانيكي، فقد سعت إلى تعميق فهم ظواهر الانحراف والتهميش والهجرة وصعوبات الاندماج. وبدل الدراسة الكمية التي تقوم على ملء الاستمارات، صاغ الباحثون ملامح المنهج الكيفي الذي يقوم على التحري الميداني والملاحظة بواسطة المشاركة. وأصبح استدعاء الذاكرة الفردية وسيرة الحياة وسيلة لإدراك الواقع الاجتماعي في تداخله مع قيم وتطلعات المعنيين.[4] وقد استلهم المؤرخون الأمريكيون هذا المنهج ووظفوه في دراسة تاريخ السود الأمريكيين في ثلاثينيات القرن الماضي من خلال بحث أشرفت عليه السلطات الفيدرالية حول ذاكرة العبيد السود وما تحمله من حكايات شعبية. وعرف هذا التوجه طفرة لافتة خلال فترة الستينيات بفعل موجات الاحتجاج الطلابي التي شهدتها الجامعات الأمريكية ضد حرب الفيتنام، وبروز حركة المطالبة بالحقوق المدنية للسود والحركات النسائية، وتأثير اليسار الثقافي الأمريكي حيث انتقل الاهتمام التاريخي من زاوية الأعلى إلى زاوية الأسفل من خلال إيلاء الأهمية لحياة المهمشين والأقليات الإثنية كنوع من التاريخ المضاد.[5]
ساهمت اجتهادات المدرسة التاريخية الأمريكية في انتشار حقل التاريخ الشفوي في أوروبا، وخاصة بريطانيا التي شهدت تطوراً مهماً لهذا الحقل البحثي في مطلع ستينيات القرن الماضي بعد أن حصل تقارب بين اتجاهين في الكتابة التاريخية: الأول اهتم بالأنثربولوجيا، في حين ركز الثاني على مقاربة سوسيولوجية، كان من أبرز سماتها المميزة أولى المتاحف الصناعية، وإعادة طبع التحقيقات الكبرى والترجمات الذاتية للعمال. ونتيجة لهذا التقارب بين الاتجاهين توجه الباحثون البريطانيون إلى الاشتغال على “تاريخ اجتماعي جديد” اهتم بدراسة الحياة اليومية للشغيلة. هكذا ساهم انفتاح الباحثين البريطانيين على التاريخ الشفوي ومناهجه في تأسيس جمعيات ومجموعات بحث حول التاريخ الشفوي، وتنظيم ملتقيات وظهور دوريات علمية متخصصة.
لكن رغم انتشار التاريخ الشفوي في أوروبا إلا أنّ فرنسا مهد المدرسة التاريخية الأشهر في العالم “الحوليات Les Annales“، لم يظهر فيها الاهتمام بهذا التاريخ إلا في وقت متأخر. فرغم أنّ مدرسة الحوليات مع مارك بلوخ ولوسيان فيبر كانت سباقة إلى تطوير مفهوم الوثيقة، واعتبرت أنّ كل شيء هو مصدر، خلافاً للمدرسة الوضعانية التي قدست الوثيقة المكتوبة، فإنّ الاهتمام بالتاريخ الشفوي وتوظيفه في مقارباتهم المنهجية لكتابة التاريخ بدأ يبرز خلال فترة الثمانينيات، كما يدل على ذلك العدد الخاص الذي أصدرته مجلة “الحوليات: اقتصاديات، مجتمعات، حضارات” سنة 1980 تحت عنوان: “الأرشيفات الشفهية: تاريخ آخر”، وأيضاً العمل الجماعي الذي أشرف عليه المركز الوطني للبحث العلمي بباريس في موضوع “الرواية الشفهية والهوية الثقافية”، والندوة الدولية التي نظمتها جامعة بروفانسيا سنة 1982 بخصوص التاريخ الشفوي.[6] وتزامن هذا الاهتمام خلال هذه الفترة بالضبط مع عودة التاريخ السياسي إلى الإسطوغرافيا الفرنسية، وبداية الاهتمام بتاريخ الزمن الراهن، وإيلاء الأهمية لروايات الشهود والفاعلين، وتوظيف التاريخ الشفوي لكتابة تاريخ الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمع الفرنسي.
لكنّ المؤرخ الفرنسي المتخصص في التاريخ الشفوي فيليب جوتار يقدم تفسيرهحول عودة اهتمام المؤرخين بهذا المنهج في أوروبا، وذلك من خلال عاملين: الأول: التحول العميق الذي عرفه مجال المعرفة التاريخية في أوروبا، ومساهمته في انفتاح المؤرخين على مقاربات ومناهج جديدة في حقل البحث التاريخي، وثانياً: التطور الكبير الذي عرفته وسائل الاتصال المرئية والمسموعة والاتصالات الهاتفية[7]. ومن هنا، فإن مقارنة بسيطة بين التجربة الأمريكية والفرنسية في حقل التاريخ الشفوي تبرز التعارض بين النموذجين الأمريكي والفرنسي، وذلك راجع إلى فوارق سياسية وتاريخية؛ ففرنسا عرفت بقوة حضور الثقافة المكتوبة، وبدولتها اليعقوبية وقوة ذاكرتها الوطنية الموحدة، وأما الولايات المتحدة الأمريكية فقد عرفت بحداثة تاريخ دولتها الاتحادية، ومجتمعها القائم على تعدد الإثنيات والطوائف الدينية.[8]
إنّ السؤال الذي يطرح نفسه بعد تتبع سياقات ظهور التاريخ الشفوي وتموقعه داخل علم التاريخ هو: إذا تم اختزال منهجية التاريخ الشفوي في كونها دراسة عميقة للماضي البعيد والقريب من خلال الكلام المروي والمحفوظ في الذاكرة الإنسانية والمنقول بشكل شفوي، فما هي مجالات اهتمام هذا الحقل البحثي اليوم في ظل انفتاح المؤرخين على الأدوات المنهجية للعلوم الاجتماعية، وخاصة السوسيولوجيا والأنثربولوجيا؟. فأهمية التاريخ الشفوي تكمن في كونه يسهم في استخراج تصورات وتمثلات الفرد مهما كانت مكانته الاجتماعية، ويسهم في خلق تقاطعات معرفية بين الثقافة العامية والثقافة العالمة الأدبية، وذلك عبر الفهم التاريخي العميق للحياة اليومية للإنسان من السلوكيات الفردية والجماعية إلى طقوس وتقاليد وأعراف الشبكات الاجتماعية والقبائل والمجموعات البشرية، وبعبارة أخرى إنّ هذا الحقل التاريخي يفتح الباب للبحث في تاريخ النساء والعاطلين والمهاجرين والمعاقين والجانحين؛ أي مجموع الأقليات والشرائح المطحونة أو المفتش عليها والتي طمس “مؤرخ السلطة” أو التاريخ الرسمي دورها في المشهد اليومي للمجتمع.[9]
وهكذا يظهر جلياً، أنّ التاريخ الشفوي جاء ليسد فراغات الإسطوغرافيا الوطنية وبياضاتها من خلال التركيز على المهمشين والناس العاديين والقابعين في سفح الهرم الاجتماعي، وبذلك أصبح “تاريخاً مناضلاً” معاكساً للتاريخ الكلاسيكي لكونه ركّز على المغيبين في التاريخ المكتوب. لكن أهم ميزة في التاريخ الشفوي هي كونه حقلاً إسطوغرافياً متجدداً؛ فبالأمس القريب اهتم بشرائح الفلاحين، والعمال الصناعيين والحرفيين اليدويين والعاطلين والنساء والخارجين عن القانون، وكل ما له علاقة بالهامشية. أمّا اليوم، فالتاريخ الشفوي يهتم بالأقليات الجنسية والإثنية والدينية والسياسية، مع تركيز خاص على ضحايا الحروب الأهلية أو الحروب بين الدول أو عنف الدول، وبصفة عامة العنف الاجتماعي والسياسي.[10]
لكن رغم الأهمية التي أصبح عليها اليوم التاريخ الشفوي في البحث التاريخي الأكاديمي، فإنّ المؤرخين يواجهون مشاكل معقدة في التعامل مع الروايات الشفوية، ويمكن تحديدها حسب المؤرخ المغربي محمد حبيدة في مقاله “التاريخ الشفهي” في ثلاث مشكلات رئيسة:
·أولاً: مشكلة متصلة بسلطة الوثيقة المكتوبة الجاثمة على صدر المؤرخين، ولذلك فإنّ المؤرخ يجد نفسه أمام تحدٍ منهجي كبير ألا وهو جمع الشواهد الشفهية ومقابلتها بالشواهد المكتوبة، وضبط سياقاتها الزمنية في الوقت الذي يمنح فيه الكلمة للذين لم يكن بإمكانهم تاريخياً التعبير بشكل أدبي عن قضاياهم كالفلاحين والنساء والأقليات والمهمشين.
·ثانياً: مورفولوجية الحكي، إذ يكون على الباحث التمييز داخل هذه المورفولوجية بين المروي الحقيقي والمروي غير الحقيقي كالأساطير والحكايات التربوية الموجهة للأطفال، والحكايات المبتكرة، مثل السرد الفكاهي، وسرد قصص الحيوان، ومما يزيد من صعوبة تناول هذه المرويات أنّ الحدود بين ما هو حقيقي وما هو متخيل هي حدود ضبابية وغير قارة.
·ثالثاً: مشكلة مرتبطة بالزمن، وتحديداً بالكرونولوجيا، وفي واقع الأمر تشكل الكرونولوجيا نقطة ضعف كبيرة في التاريخ الشفوي، خاصة أنّ الراوي في كثير من الأحيان يفتقد الحس الزمني اللازم الذي من شأنه أن يمنح لكلامه معنى زمنياً.[11]
لذا، فالعوائق التي تواجه المؤرخ في التعامل مع الروايات الشفوية تستلزم منه التعامل مع التاريخ الشفوي بحس نقدي، من خلال المقارنة بين الرواية الشفوية والنص المكتوب والمصادر الأخرى، والتسلح بالأدوات المنهجية النقدية للأنثربولوجيا والسوسيولوجيا وتوظيفها من أجل قراءة تاريخية “موضوعية” للتاريخ الشفوي.
يمكن القول بصفة إجمالية، إنّ التاريخ الشفوي حقل جديد في حقول البحث التاريخي، ومنهج بحثي يتيح للمؤرخين اكتشاف عوالم معرفية وتاريخية جديدة ظلت لعقود حكراً على أهل السوسيولوجيا والأنثربولوجيا، من خلال إعطاء الكلمة للمحجوبين عن التاريخ المكتوب والمهمشين في قاع المجتمع، الشيء الذي سيسهم في الاشتغال الأكاديمي على التاريخ الاجتماعي وتاريخ العقليات وتاريخ الحياة اليومية، بحس تاريخي نقدي “موضوعي”، يلج من خلاله المؤرخ إلى دوائر ومواقع اجتماعية لا يكشف عنها النص المكتوب.
[1]ـ محمد حبيدة: التاريخ الشفهي، من أجل تاريخ إشكالي: ترجمات مختارة، ط1، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية القنيطرة، 2004، ص 105
[2]ـ فتحي ليسير: تاريخ الزمن الراهن: عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر، ط1، صفاقس، دار محمد علي للنشر، 2012، ص 123
[3]ـ محمد حبيدة: التاريخ الشفهي، كتابة التاريخ: قراءات وتأويلات، ط1، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، 2013، ص 43
[4]ـ عبد الأحد السبتي: التاريخ والثقافة الشعبية، مجلة رباط الكتب الإلكترونية، العدد 14، شتاء 2014
[5]ـ عبد الأحد السبتي: التاريخ والثقافة الشعبية…م.س.
[6]ـ محمد حبيدة: التاريخ الشفهي، كتابة التاريخ: قراءات وتأويلات…م.س،ص 45
[7]– Philippe Joutard: L’Histoire Orale, In Dictionnaire Des Sciences Historiques, Sous La Direction De André Burguière Paris, 1986, P.P: 495-497
[8]ـ عبد الأحد السبتي: التاريخ والثقافة الشعبية…م.س.
[9]ـ فتحي ليسير: تاريخ الزمن الراهن: عندما يطرق المؤرخ باب الحاضر…م.س، ص 125
[10]ـ المرجع نفسه، ص ص 125-126
[11]ـ محمد حبيدة: التاريخ الشفهي، كتابة التاريخ: قراءات وتأويلات…م.س، ص 48
حسام هاب
باحث مغربي، تخصص الدراسات التاريخية
……………….
عن موقع مؤمنون بلا حدود
23 ماي 2014