في تهافت الشعبوية
بقلم /د. عبدالاله بلقزيز
تطلق الشعبوية على نزعة في التفكير السياسي تجنح لتقديس الشعب وحسبانه مستودع الحقيقة المطلقة ومناط الخلاص النهائي من شرور العالم، ما يقوله الشعب – في عرف دعاة هذه النزعة- هو القول الحق الذي ما بعده قول موثوق، وهو “الحكمة” التي تختزن دروس التاريخ وتصوغ خلاصته.
وما يفعله هو أقوم الأفعال وأرشدها وأشدها تعبيراً عن المصلحة التي لا يخطئها إلا هالك وليس على المثقفين أو الأحزاب والنقابات تثقيف الشعب أو إرشاده إلى مصالحه أو تنظيمه في أطر العمل العام، وإنما تلقي الحقيقة منه، والتعلم من خبرته، والإصغاء إلى نبضه، والتنزل بمنزلته في الفعل والسلوك، والكينونة على مثاله في التنظيم.
تضع هذه النزعة نفسها مقابل النخبوية التي “تحتقر” الشعب والجماهير وتمتهن الزراية بهما والحط، أو هكذا هي في حسبان الشعبويين الذين يحتقرون الفكر ويقدسون الممارسة. فلا عجب، إذن، أن ينتهي الشعبويون إلى التشنيع على التفكير النظري بما هو – عندهم- ثرثرة مجردة وفارغة، وإلى تقديس العفوية بما هي تعبير أصيل عن “جوهر” الشعب النفيس، وإلى مديح الفوضوية والغوغائية من حيث هي ترجمة ﻠ”المبادرة” الجماهيرية الحرة والمتحررة من “قيود” التنظيم البيروقراطي للحزب والنقابة وسواهما من المؤسسات.
ترادف الشعبوية بهذا المعنى، إذن، الفوضوية والعفوية التنظيمية والتجريبية القاتلة في التفكير، وهي جميعها أمراض لازمت العمل السياسي منذ القرن التاسع عشر في الغرب فأنتجت حالات سياسية باثولوجية من طراز الفوضوية النقابية، والعدمية، والبلانكية، والنازية، وسواها ما انتقده مفكرو السياسة الكبار في القرن العشرين. بيد أن أسوأ ما في هذه الشعبوية أنها تؤسس لميتافيزيقا سياسية جديدة، بل قل للاهوت سياسي جديد، هو لاهوت الشعب.
يجري تأليه الشعب في هذا اللاهوت السياسي الجديد، الارتفاع به من النسبي إلى المطلق، من الاجتماع إلى العقيدة، ويغدق عليه من الأوصاف والتعريفات ما يستدل به على نظرة أنثروبومورفية بدائية بمفردات جديدة! فهو لا يخطئ لأنه يعرف مصلحته بينما المثقفون يخطئون على سعة ما لديهم من معارف. وهو الذي يرسم طريق التغيير وما على الأحزاب والحركات إلا أن تهتدي ببوصلته، وهو المخلص المنقذ ولا خلاص اجتماعياً إلا ما كان منه. وهو موطن البركة والالتحام به سبيل إلى التطهر. وهو الذي يصنع التاريخ ويقول له كن فيكون. وهو الذي يضع معايير الخير والشر وعلى مثاله يكون الخير والحق. وهو الذي لا صوت يعلو فوق صوته ولا إرادة تزاحم إرادته، وهو الذي يعفو ويغفر ويصفح لمن شاء العفو والمغفرة والصفح عنه، وهو الأبقى والباقي زبد. إنه الروح المطلق بالمعنى الهيغلي – وقد حل في جماعةٍ من الناس اصطفاها الفقر والجوع والجهل والقهر لأن تنشر الرسالة في العالمين.
لا عجب، إذن، إن جنح الشعبويون للتمسح بالشعب وإطلاق اسمه – على سبيل البركة ومن باب التبرك- على جماعاتهم وتنظيماتهم السياسية، وقدسوا الفوضوية والعدمية وحولوا الجهل والأمثال الشعبية إلى برنامج سياسي، وأغلظوا في نقد وتسفيه من دعا إلى التثقيف والتوعية والتنظيم وحسبوه شيطاناً رجيماً يريد بالشعب شراً مستطيراً ويسعى – سعياً غير مشكور- في إخراجه عن طوره، وإنزاله من عليائه، وتلويث وعيه، وإفساد جوهره. ولا عجب أن تكون الدهماء وحدها ما يشبع الشعور بمعنى الثورة والتغيير عند الشعبوي، فالدهماء على مثال الوعي الرث تكون.
الشعب، في خطاب الشعبوية، وحدة مطلقة لا تنثلم أو تنفتق، كلية مغلقة لا تتبعض، وإعادة تعريفه من داخله المتمايز إلى فئات وطبقات وذهنيات ومصالح واتجاهات ليس أكثر من سعي “ثقافوي” مشبوه إلى فك وحدته وتمزيق عروته، كالمتصوفة يفكر الشعبويون: نساك متعبدون متهجدون، الواحد مبدؤهم والتعدد فساد والتوحد فيه للنفس تطهر وجهاد، وكما الفقهاء والمتكلمون عند الصوفية أهل رسوم وتجسيم يخدشون بألفاظهم وحدة الواحد التي لا تنفصم، كذلك المثقفون عند الشعبويين أهل ثرثرة وتحليل يستحلون بمفاهيمهم وحدة الشعب التي لا تنقسم، فليس في صفوف الشعب طبقات وتناقضات، إنما الطبقات والتناقضات في رؤوس المثقفين
والشعب يقول كلمته كل يوم ويحقق ضرورة التاريخ كل كلامٍ غير كلامه لفظانية نخبوية جوفاء، وكل فعل يروم التنظيم والضبط عدوان على فعل لا يقبل الوصاية عليه أو هو – في أحسن أحوال الظن به- نيابة غير مشروعة عن صاحب الأمر الذي وحده يتولى تحقيق إرادته. لا مكان إذن – في عقيدة الشعبويين- للفكر والمعرفة والتنظيم الاجتماعي والسياسي، فهذه جميعها أشبه ما تكون بالوسطاء والشفعاء فيما العلاقة مفتوحة – لا مغلقة- بين الشعب والتاريخ!
كان شعبويو الأمس – في بلادنا العربية- يساريين (وأكثرهم كان ماوياً ولم يكن لينينياً أو تروتسكياً) وتصوروا الشعب على مثالهم: معادياً للرأسمالية، مناهضاً للبرجوازية، شغوفاً بالثورة الاجتماعية وبالاشتراكية، مالكاً للحقيقة، متمسكاً بحقوقه الاجتماعية، ومدركاً لمصالحه الموضوعية والطبقية. ولكن انكسار الطوبى الثورية أخذت الشعبويين اليساريين إلى حتف الأحلام وتفرقت بهم السبل، فمنهم من قضى نحبه السياسي، ومنهم من بدل وانتقل ومنهم من ينتظر، ثم صار الشعبويون اليوم – في المعظم من قبائلهم- إسلاميين، أعني حركيين سياسيين يلبسون لأدوارهم لباس الإسلام، فأتوا يرددون ما فعل أسلافهم اليساريون من كيل المديح للشعب والظن بسلامة فطرته ويسر هدايته، وتوسلوا – مثل أسلافهم- بلغة التحريض والتجييش، ليعيدوا بذاك إنتاج مأزق السياسة نفسه
مسكين هو هذا الشعب الذي يلهج الجميع باسمه، ويتنافسون على خطب وده، ويتزاحمون على النطق باسمه. ما أحد غيره غارق في بؤسه وفقره، أما المتأبطون “قضيته” من الشعبويين، فمن طبقاتٍ ميسورة أو أقل نكبة في مقدراتها، وهم لا يجدون من أنفسهم حرجاً في أن يفرنقعوا عنه ويعرضون ما إن تنفتح أمامهم أبواب الترقي في معارج المصالح! وكان الله في عون الشعب مع هذا “الحب القاتل”.