يحق لنا أن نتساءل، ونحن نستحضر الذكرى الرابعة لرحيل المفكر المغربي محمد عابد الجابري (توفي يوم 3 ماي 2010) عن الخسارة التي لحقت الفكر العربي بعد وفاته. إن توقفه عن الانخراط في مقاربة إشكالات الوضع العربي، وتوقفه عن قراءة الموروث الثقافي العربي، وخاصة في الظروف العربية الراهنة، يشكل خسارة كبيرة. صحيح أنه يمكننا أن نتصور بناء على طرائقه في النظر والعمل، كيفيات مُحدَّدة في قراءة ما يجري اليوم في المجتمعات العربية، وصحيح أيضاً أن الأثر الذي خلَّفه يمارس بدوره أشكالاً من التفاعل مع المتغيرات الجارية، إلا أن كل ما ذكرنا لا يستبعد آثار الفقدان التي نشعر بها في غيابه.
وإذا كنا نؤمن بأن آثار الرجل المتمثلة أساساً في مشروعه في نقد العقل العربي، تمتلك بعض مقومات الحضور في معارك الراهن العربي السياسية والفكرية،فإننا نتصور أن استمرار حضوره، رغم غيابه المادي، أثمر وما زال يثمر كثيراً من المعطيات التي يُدركها جيداً الذين يؤمنون بدور الأفكار في التاريخ.
نفترض أن قوة الأثر التي تَحْمِلها أعمال الجابري، تأتي من كونها تعكس صورة من صور انخراطه في جدل تاريخي همَّ ويهم الحاضر العربي، يتعلق الأمر بكيفيات مقاربته لأسئلة الموقف من التراث ومن الماضي.
اهتم الجابري طيلة أربعة عقود بأسئلة التراث، وذلك في ضوء عنايته بأسئلة النهضة والتقدم في العالم العربي، ولم تكن عنايته بالموروث الثقافي العربي تندرج ضمن خطة في البحث التاريخي الموضوعي والمحايد، بحكم أن هذه المقاربة في تصوره لا تعتبر أمراً ممكناً، ذلك أنه لا يمكن استعادة الموروث الثقافي في الحاضر بمحتوى الماضي. إن النص التراثي لا يَهَبُ نفسه للجميع بنفس المعنى، ومن هنا فإن الاستعادة المحايدة للمنتوج التراثي مسألة فيها نظر، إنها مسألة تختلط فيها الهواجس بالأحلام، وهي تؤشر على وعي ينقصه الوعي بمقتضيات الزمان، وما تستلزمه من تحول وتغير في كل من مظاهر الحياة.
كان الجابري يعي جيّداً هذه المسألة في لحظات شروعه في وضع الخطوط العريضة لمقاربته للتراث ضمن أسئلة وهواجس الحاضر العربي، السياسية منها على وجه الخصوص؛ أي ضمن التحولات التاريخية الجارية في المجتمعات العربية في نهاية القرن الماضي. نتبين ملامح ذلك في مقدمات كتابه نحن والتراث الصادر سنة 1980؛ ففي هذا الكتاب الذي يمكن أن يقرأ كمقدمة لرباعيته في نقد العقل العربي، ندرك أن الغرض المتوخى من تعيين علاقتنا بالتراث، يتمثل أساساً في مساعيه الرامية إلى تَملُّك وتمثُّل أصول الحداثة كما نشأت في التاريخ. فقد اعتبر الجابري أن وعينا النقدي الجديد بالتراث، يعد مقدمة ضرورية لكل انفصال تاريخي عنه، ولا يكون الانفصال ممكناً في نظره دون إعادة بناء مقومات الذات، بالصورة التي تُحَول منتوجات الحداثة وممكناتها إلى أفق طبيعي في سياق تطورها. إن قراءة التراث هنا أشبه ما تكون بعمليات حفر تبحث لمقدمة الحداثة عن تاريخ آخر، مخالف لسياقات تشكلها، لكنه تاريخ يمتلك في نظر الجابري جملة من العناصر التي يمكن أن تُحَوِّله إلى جذر آخر لها.
لم يكن الجابري يحترس كثيراً من مسألة تصنيفه، بناء على المواقف السياسية التي يتخذها، والخلاصات الفكرية التي يقررها في أعماله، لم يكن يهتم بكون أعماله يسهل إدراجها ضمن دوائر المنزع التوفيقي، كان لا يحترس بحكم أنه يريد أن يكون واضحاً، إنه يتوخى منح أطروحته في نقد العقل العربي، أفقاً محددا في مجال الإصلاح الفكري الذي يروم منع احتكار المنتوج التراثي، من طرف أولئك الذين يعتبرون أنفسهم حراساً لتاريخ أرحب من أن يظل مجرد قيد، مُجَرَّد سقف متعالٍ لا يمكن تقويضه ولا تجاوزه.
يستوعب أثر الجابري في الثقافة العربية اليوم، عملاً يتجه للتفكير في كيفية من كيفيات التوطين والتحديث في ثقافتنا ومجتمعنا، حيث لم يعد بإمكان المشتقات التراثية في صنميتها وتكلسها ونصيتها، أن تواجه متطلبات الأزمنة الحديثة بكل ما بلورته من تجارب وثورات وقطائع، في مجالات المعرفة والتاريخ والمجتمع.
إن مغامرة التأويل المستوعبة في أعماله مُرَتَّبة ومُعدّة في المجال السياسي، إلا أنها كانت، وما تزال تُثِير
في الذكرى الرابعة لرحيل محمد عابد الجابري
التراث والحداثة: في الاتصال والانفصال
كمال عبد اللطيف
أسئلة متعددة في المستوى المعرفي. إن قوتها في تصورنا تعود إلى هذا التركيب الذي يجعلها حاملة لموقفين غير متسقين، ولعل هذا الأمر بالذات، هو الذي يجعلها تُثِير تحفظات واستفهامات، وذلك رغم أنها تُمَكِّن المنخرطين في الآن نفسه في مستوى الصراع السياسي والتاريخي داخل المجتمع، من تحقيق توازنات واستثمارات رمزية محددة.
إن ما أثمرته نزعات التوفيق والتوافق في آثار الجابري، يتمثل في مسعاه الرامي إلى استبعاد مسألة أن تظل القارة التراثية حكراً على اختيار سياسي بعينه؛ ففي التراث دلائل ومغانم للجميع، ليس بالطريقة التي أنجز بها بعض الماركسيين العرب قراءتهم للتراث، بل بطريقة أخرى تعتبر أن جهوداً فكرية تراثية، عَبَّرت عن لحظات تطور قصوى، في دائرة تطور الفكر الإسلامي، وهي تمتلك مؤهلات نظرية تمنحها جدارة الاندراج في تاريخ آخر للحداثة، يُمكِّننا من حداثة موصولة بماضينا، وبالآخر فلا نُقَلِّد الغالب، ولا نستعير اللغات والرموز وأنظمة الفكر، يتعلق الأمر في أطروحة الجابري، بالخلدونية والرشدية وآثار الشاطبي؛ ففي هذه الأوجه التراثية ما يتيح لنا تحقيق التواصل الذي نتطلع إليه مع عالم جديد يسعفنا بالتصالح مع ذاتنا ومع العالم.
نقرأ في أعمال الجابري مداخل لإمكانية في الوصل والتواصل، لا تضع الحداثة كنقيضٍ للتراث، بل إنها عناصر ومعطيات تشكل جذراً من جذور الحداثة. وبهذه الطريقة، يعتقد الجابري أن الوصل ممكن، حيث لا انفصال بدون اتصال، وإن اقتضى الاتصال جهداً في التأويل يقارب الحاضر بالماضي، ويدمج التراث في الحداثة، فلا يحصل النفور من الآخر، تحت ضغط دونية ذات طابع نفسي أو سياسي تاريخي.
عن جريدة .ا.ش
17 ماي 2014