الديمقراطية.. نظام سياسي أم تصور ذهني؟

 عن التجديد العربي

الجميع يصرخ: أزمة الديمقراطية في بلادنا حتى بعد ثوراتنا العربية الأخيرة التي جمعها الربيع العربي، بل إن مصر في عصرها الليبرالي قبل ثورة 1952 لم تخل منها. فقد كانت في أحد جوانبها ألعوبة في يد الاستعمار بدليل حادثة 4 فبراير. ويحكمها القصر كيفما شاء. وكان حزب الأغلبية وهو حزب الشعب في يد كبار ملاك الأرض.

 

 

 

 

وتوج النضال الوطني بعد ثورة الضباط الأحرار في 1952. وكان من مبادئها الستة إقامة حياة ديمقراطية سليمة. ثم اختلف الثوار فيما بينهم بين يمين ديني ويسار ماركسي ووسط وطني إلى حد الصراع والتصفية واستئثار فريق واحد بالحكم ونزول الفريقين الآخرين تحت الأرض في عدة أزمات عرفت باسم أزمة مارس 1954 مع التيار الإسلامي ثم أزمة 1958 مع التيار الماركسي. ثم تكررت الأزمات مع التيار الوطني في الجمهورية الثانية في انتفاضة يناير 1977، وهبة الأمن المركزي في يناير 1986 لتعلن عن إرهاصات ثورة يناير 2011 لوضع نهاية للجمهورية الثالثة. ثم أصبحت الحرية والديمقراطية، أول مبدأين للثورة، متعثرتين أمام الاستبداد العسكري ثم التسلط الديني. وكلا النظامين في الجوهر استبداديان.

 

 

ويعوَّض الاستبداد العسكري بالزعامة التي تعبر عن مصلحة الجماهير وتحقق أحلامها حتى لو تجاوزت الأشكال الديمقراطية في الانتخابات الحرة للرئاسة وللنواب ولباقي المؤسسات الدستورية. فالزعيم أو البطل يجسد روح الشعب. أفرزته الضرورة. لا يحتاج إلى مؤسسات تتوسط بينه وبين الشعب. ويتبارى المثقفون في تبرير ذلك مستعملين شتى النظريات في العلوم السياسية حتى يعتقد الحاكم في نفسه الزعامة.

 

 

ويعوَّض الاستبداد الديني ويغطي نفسه بالإمامة. فالحاكم هو الإمام الحاضر أو الغائب الذي ظهر أو المنتظر. هو وريث النبي ومن ذريته. ولا فرق في ذلك بين طائفة وأخرى، بين فرقة وفرقة. انتهت النبوة، ولكن الإمامة مستمرة، وهي واجبة الطاعة أيضا، وتقبل الأيادي. لا فرق بين تقبيل يد الإمام، وتقبيل يد السيدة الأولى في النظام الآخر. والانحناء أمام الإمام والانحناء أمام البطل الزعيم.

 

 

ومهما تم تجميل الاستبداد العسكري والاستبداد الديني بمظاهر الديمقراطية فإن جوهر الاستبداد يظل قائماً. ويظل النضال الديمقراطي محدود الأثر. إذ تحتكم الديمقراطية المدنية إلى حكم الأغلبية التي قد تتحول إلى دكتاتورية من نوع جديد. فقد أتت النظم النازية والفاشية باختيار الأغلبية. وقد تكون الأغلبية أمية كما هو الحال في بلادنا. فهي أغلبية شكلية لا تعبر عن إرادة الشعب. وما أسهل تزوير الانتخابات بشتى الطرق حتى تظهر النتيجة كما يريد المستبد والتي تصل إلى نسبة نجاح 99.9%!.

 

 

ويتزين الاستبداد الديني بمظاهر ديمقراطية على الأقل على مستوى الأقوال لا الأفعال. إذ يقوم النظام على الاجتهاد، أي على حرية الرأي، مع أن الاجتهاد يظل محكوماً بالأصول. وحكم العقل أو المصلحة تابع لحكم الشرع النصي الثابت الذي لا يتغير. والتقليد أفضل من التجديد. والسلف الصالح أفضل من الخلف الطالح «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ». والشورى غير ملزمة بالرغم من صياغتها الآمرة «وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ»، والإخبارية «وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ». والمستشارون هم أهل الحل والعقد الذين في الغالب يكونون فقهاء السلطان.

 

 

والحقيقة أن الديمقراطية ليست هذه التزيينات والأشكال بل لها شروط وتصورات. شرطها الاعتراف بالرأي الآخر دون تكفير أو تخوين، ومن غير إقصاء أو استبعاد. فلا أحد يملك الحقيقة المطلقة بل الكل يقترب منها. الحقيقة وجهة نظر. والمرئي رؤية. ولا توجد فرقة ناجية والتي هي في الغالب فرقة السلطان، والباقي ضالة هالكة والتي هي في الغالب فرق المعارضة التي في السجون والمعتقلات تخضع لأشد أنواع التعذيب باعتبارها من الخوارج. شرط الديمقراطية هو التعددية التي تجعل الآراء كلها على مستوى واحد من نسبية الحقيقة.

 

 

ومع ذلك، والأهم من هذا كله، الديمقراطية كنظام مدني ضد الاستبداد العسكري والاستبداد الديني أنها تصور ذهني للعالم. وهو الأعمق. فلا يوجد نظام سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي إلا ويقوم أولاً على تصور ذهني. وهو الذي يتحكم في العالم وليس الحكم. وهو تصور أفقي وليس تصوراً رأسياً. يقيم العلاقات بين الظواهر بين الأمام والخلف، وليس بين الأعلى والأدنى. العلاقة بين الأمام والخلف تخلق التقدم أو التخلف. والعلاقة بين الأعلى والأدنى تنشئ الاستبداد والقهر. وقد ورثنا التصور الرأسي من كل العلوم في تراثنا القديم، في علم الكلام بين الخالق والمخلوق، وفي الفلسفة بين الصورة والمادة، وفي الأصول بين النص والواقع، وفي التصوف بين الفناء والبقاء، وفي العلوم النقلية بين النقل والعقل. وخلّده التصور الهرمي للعالم من الثقافة القديمة الموروثة والذي هو وراء مجتمع «سي السيد». وقد نتج عن التصور الرأسي نظام معرفي ومنهج نظري يؤيد الاستنباط دون الاستقراء، أي الحقيقة النازلة من أعلى، والموجودة في مصدر مسبق، وليس الصاعدة من أسفل إلى أعلى عن طريق التجارب.

 

 

إن النضال من أجل الديمقراطية هو نضال طويل ليس فقط على المستوى السياسي أو الاجتماعي بل على المستوى الثقافي أيضاً؛ وهو ما يحتاج إلى نهضة ثقافية شاملة بدلاً من أن تتعثر الثورات أكثر من مرة وتدور في حلقات مفرغة، من الكل إلى لا شيء.

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…