ثلاثة عقود من الصمود
بقلم عبد الحميد جماهري
13 ماي 2014
منذ 31 سنة خلت ( 14 ماي 1983)، صدر العدد الأول من يومية «الاتحاد الاشتراكي»، لسان حال حزب القوات الشعبية.
للاسم قصة لابد من أن تروى: كان التاريخ، في تلك الفترة الحالكة من الحياة الوطنية على عجل، مرتبكا بين القبضة الحديدية للملك الراحل، وحسابات القمع الممنهج، وبين استشراف الأفق من بين كماشات «النظام». واعتبر الفقيد الكبير عبد الرحيم بوعبيد ومن معه من رجال صدقوا ما وعدوا الله عليه، أن التواصل مع الرأي العام يجب أن يتم بأسرع وقت، والدخول في معركة «تغيير العقلية» لابد له من وسيلة: ووقع الاختيار على اسم الحزب كاسم للجريدة. والعبرة؟
حتى لا يتيه الرأي العام في البحث عمن يتحدث بلسان الجريدة ويربط بين الاتحاد، الصاعد وقتها من رماد ال81 وجمر الانتفاضة الشعبية في الدار البيضاء، التي قوبلت بالدبابات (طلبوا الخبز فاطعموهم الرصاص ).
وبدأت مغامرة سياسية وإنسانية هائلة، ستغير تاريخ المكتوب (بمعنييه الوجودي واللغوي) في البلاد.
وتكاثفت الأجيال بقيادة الرجل الشهم، والأب المربي السي محمد البريني، لكي تعلو في السماء الملبدة بغيوم السياسة صفصافة من ماء وحبر ودماء.
أرواح الشهداء كانت ترعى التجربة، وأحلام الشباب كانت تأتي بحرارة الجيل الصاعد إلى مفاصل المطبعة وانفتحت في البلاد أبناك النور وخزائن القيم.
عاشت الاتحاد الاشتراكي كل تقلبات البلاد، وتقلبات السياسة وتقلبات الحزب الذي تتحدث باسمه، ومر بها رجال كبار وتخرج من بين صفحاتها جيل من الصحافيين المرموقين، الذين اكتسبوا تجارب ذات دلالة وأقاموا مقاولات صحافية منافسة، لا تتنكر أبدا للدرس الاتحادي (نسبة إلى الاتحاد الاشتراكي الجريدة) وللمسيرة المهنية التي راكموها في «الدار».
خلال الثلاثين سنة، تغيرت أشياء كثيرة في البلاد وفي الجريدة.
وأصبحت السوق(التي كانت تشغلها الصحافة الوطنية المتعارف عليها بالصحافة الحزبية) مجالا مفتوحا للمنافسة، بل يمكن القول، بدون مواربة، أن سقف المنافسة ارتفع، وزاد منسوبها بدخول الحرفية وجيل من المهنيين الذين درسوا في المعاهد المتخصصة، وهو ما لم يتح لمن هم قبلهم، اللهم مدرسة الحياة ومعاهد النضال الميداني وشعب التخصص النضالي وكليات الالتزام الإيديولوجي والسياسي…
في المسيرة الطويلة للصحافة الوطنية، حدثت تحولات جمة، في ترابط بين السياسي والصحافي، والاتحاد الذي كان في المعارضة، قاد البلاد لمدة 12 سنة، رياديا أو إلى جانب حلفائه الطبيعيين والحكوميين.
وتغيرت علاقة المناضل بجريدته، وهو وتحول عادة ما أطلق عليه «تحول المناضل إلى قاريء»، يستشعر الحاجة إلى المادة الصحافية ، ويسري عليه قانون العرض والطلب، وليس الخندق النضالي وحده.
وربما كانت وما تزال الكلفة الاجتماعية للجريدة ثقلها في الرفع من منسوب المنافسة (الورق، الطابعة، الاستثمار البشري) والقدرة على العيش (هي محاولة عيش في الواقع) في زمن صعب للغاية يتهدد المقاولة الصحفية المكتوبة شبح الانقراض.
ولعل الصحافة الحزبية، وهي تعد أيامها، يمكن أن تعيش إلى حين ينفتح الإعلام العمومي بشكل نهائي على المكونات المجتمعية والسياسية للبلاد، ويمكن أن يفسح المجال للمقاولة بالمعنى الاقتصادي في مجال الصحافة، عندما يتكون رأي عام إعلامي ينصف الأحزاب السياسية ولا يتوجه ضدها، وعندما لا يكون أداة في يد اللوبيات صانعة القرار الاقتصادي والسياسي والثقافي والمجتمعي عامة لتكييف الرأي العام وتقنين مخياله الراهن لفائدة طرف في المجتمع ضد طرف آخر.
نعي بأن الزمن الحزبي في الصحافة معدود، لكنه محكوم، أيضا، بشروط المنافسة الموضوعية، والإيمان بالتعددية الحقيقية والحرية والمسؤولية، في ترابط جدلي يتيح الديموقراطية وبناء المجتمع العادل.
ندرك في المهنة أن وجود إعلام قوي لا بد له من قضاء قوي، وبرلمان قوي، وحكومة قوية، أي سلط قوية تسند وتؤمن الانتقال نحو الديمقراطية وتقوي الدولة، التي لا تخشى من إعلامها ولا من صحافييها، الشيء الذي سيقلب المعادلة ولا شك .
نحن نحاول العيش في هذا الزمن الصعب، ووراءنا إرث كبير، نهنيء أنفسنا عليه، وباسمه نشكر سادتنا الذين علمونا الحرف، وعلمونا صناعة الرأي الموضوعي، وعلمونا حب البلاد، وهي ذي «صحيفتنا» التي نقدمها في الحياة وفي الممات.
لا شك أن مناسبة تخليد الذكرى لا تستقيم بدون أن نذكر جنود الخفاء في المطبعة والرقن والإدارة والإشهار والمراسلين والمناضلين وعموم القراء الذين يسعفوننا بدمهم وعرقهم وشهامتهم حتى نبقى على قيد الحياة، ولا تستقيم الذكرى بدون الوقوف دقيقة صمت وقراءة الفاتحة إلى كل الذين زرعوا النور في عقولنا ورحلوا وتركونا فخورين بما قدموه و بانتمائنا إليهم، نساء ورجالا، عانوا في لحمهم ودمهم وجربوا التشريد والتعذيب، وجربوا المحن، وجربوا المنافي، وجربوا الطرود الملغومة وجربوا.. كل أشكال الإبادة، التي لم تنفع معهم، لأنهم كانوا يعرفون أنهم أناس مستحيلون!!
هناك اليوم حاجة إلى صحافة لها تاريخ، وأذكر هنا تجربة فرنسية دالة، للحفاظ على نكهة التاريخ في صناعة التعددية الفرنسية والحفاظ على التراث النضالي للمهنة.
فقد تدخلت الدولة، عبر قرار من البرلمان لكي تدفع ديون هذه المعلمة، بالرغم من محدودية انتشارها، كفعل مليء بالدلالة عن الفهم العميق للتراث النضالي في الإعلام، حتى في دولة أصبحت مدرسة للعالم في تدبير فضائها الإعلامي، وقبلة للكثيرين منا.. فالدولة مسحت 4 ملايين يورو (أحسبها بالدرهم السي بوسعيد) بموجب قانون صوت عليه البرلمان.. بالرغم من أن«لومانيتي» لا يمكن أن تتهم بأنها قريبة من الحكومة.
طبعا، لا ننتظر من حكومة تعطي الأوامر، عبر وزرائها بخنق صحافة المعارضة، ولا قرارات تتسع لها صدور الإعلام الحكومي، لاسيما وأن الأوامر تنزل «خيط من السما» ضد الصحف المعارضة، والسبيل في ذلك، هو قرارات الحرمان من الإشهارات ومن الإعلانات وسد الأبواب في وجه الاستفادة من بعض الإصلاحات «المفصلة» على المقاس لبعض القطاعات الاقتصادية.. الخ.
والحق في المعلومة، الذي تحصل عليه الصحافة القريبة، والعقود الإشهارية الضخمة التي يبذلها مدراء ورؤساء مدراء على من يريدون، بالرغم من محدودية القراءة في بلاد الأربعين مليون.. والتاريخ العريق في المعرفة.
هي ليست مناسبة للتحريض على المعارضة، في الواقع، تلك مهمة الصحافة النبيلة دائما، إنها مرد تداعيات، بل الذكرى وطريقة في إعلان حب هذ المهنة ورجالاتها ونسائها النبيلات الرائعات والنبلاء الرائعين..
أحبكم !
للاسم قصة لابد من أن تروى: كان التاريخ، في تلك الفترة الحالكة من الحياة الوطنية على عجل، مرتبكا بين القبضة الحديدية للملك الراحل، وحسابات القمع الممنهج، وبين استشراف الأفق من بين كماشات «النظام». واعتبر الفقيد الكبير عبد الرحيم بوعبيد ومن معه من رجال صدقوا ما وعدوا الله عليه، أن التواصل مع الرأي العام يجب أن يتم بأسرع وقت، والدخول في معركة «تغيير العقلية» لابد له من وسيلة: ووقع الاختيار على اسم الحزب كاسم للجريدة. والعبرة؟
حتى لا يتيه الرأي العام في البحث عمن يتحدث بلسان الجريدة ويربط بين الاتحاد، الصاعد وقتها من رماد ال81 وجمر الانتفاضة الشعبية في الدار البيضاء، التي قوبلت بالدبابات (طلبوا الخبز فاطعموهم الرصاص ).
وبدأت مغامرة سياسية وإنسانية هائلة، ستغير تاريخ المكتوب (بمعنييه الوجودي واللغوي) في البلاد.
وتكاثفت الأجيال بقيادة الرجل الشهم، والأب المربي السي محمد البريني، لكي تعلو في السماء الملبدة بغيوم السياسة صفصافة من ماء وحبر ودماء.
أرواح الشهداء كانت ترعى التجربة، وأحلام الشباب كانت تأتي بحرارة الجيل الصاعد إلى مفاصل المطبعة وانفتحت في البلاد أبناك النور وخزائن القيم.
عاشت الاتحاد الاشتراكي كل تقلبات البلاد، وتقلبات السياسة وتقلبات الحزب الذي تتحدث باسمه، ومر بها رجال كبار وتخرج من بين صفحاتها جيل من الصحافيين المرموقين، الذين اكتسبوا تجارب ذات دلالة وأقاموا مقاولات صحافية منافسة، لا تتنكر أبدا للدرس الاتحادي (نسبة إلى الاتحاد الاشتراكي الجريدة) وللمسيرة المهنية التي راكموها في «الدار».
خلال الثلاثين سنة، تغيرت أشياء كثيرة في البلاد وفي الجريدة.
وأصبحت السوق(التي كانت تشغلها الصحافة الوطنية المتعارف عليها بالصحافة الحزبية) مجالا مفتوحا للمنافسة، بل يمكن القول، بدون مواربة، أن سقف المنافسة ارتفع، وزاد منسوبها بدخول الحرفية وجيل من المهنيين الذين درسوا في المعاهد المتخصصة، وهو ما لم يتح لمن هم قبلهم، اللهم مدرسة الحياة ومعاهد النضال الميداني وشعب التخصص النضالي وكليات الالتزام الإيديولوجي والسياسي…
في المسيرة الطويلة للصحافة الوطنية، حدثت تحولات جمة، في ترابط بين السياسي والصحافي، والاتحاد الذي كان في المعارضة، قاد البلاد لمدة 12 سنة، رياديا أو إلى جانب حلفائه الطبيعيين والحكوميين.
وتغيرت علاقة المناضل بجريدته، وهو وتحول عادة ما أطلق عليه «تحول المناضل إلى قاريء»، يستشعر الحاجة إلى المادة الصحافية ، ويسري عليه قانون العرض والطلب، وليس الخندق النضالي وحده.
وربما كانت وما تزال الكلفة الاجتماعية للجريدة ثقلها في الرفع من منسوب المنافسة (الورق، الطابعة، الاستثمار البشري) والقدرة على العيش (هي محاولة عيش في الواقع) في زمن صعب للغاية يتهدد المقاولة الصحفية المكتوبة شبح الانقراض.
ولعل الصحافة الحزبية، وهي تعد أيامها، يمكن أن تعيش إلى حين ينفتح الإعلام العمومي بشكل نهائي على المكونات المجتمعية والسياسية للبلاد، ويمكن أن يفسح المجال للمقاولة بالمعنى الاقتصادي في مجال الصحافة، عندما يتكون رأي عام إعلامي ينصف الأحزاب السياسية ولا يتوجه ضدها، وعندما لا يكون أداة في يد اللوبيات صانعة القرار الاقتصادي والسياسي والثقافي والمجتمعي عامة لتكييف الرأي العام وتقنين مخياله الراهن لفائدة طرف في المجتمع ضد طرف آخر.
نعي بأن الزمن الحزبي في الصحافة معدود، لكنه محكوم، أيضا، بشروط المنافسة الموضوعية، والإيمان بالتعددية الحقيقية والحرية والمسؤولية، في ترابط جدلي يتيح الديموقراطية وبناء المجتمع العادل.
ندرك في المهنة أن وجود إعلام قوي لا بد له من قضاء قوي، وبرلمان قوي، وحكومة قوية، أي سلط قوية تسند وتؤمن الانتقال نحو الديمقراطية وتقوي الدولة، التي لا تخشى من إعلامها ولا من صحافييها، الشيء الذي سيقلب المعادلة ولا شك .
نحن نحاول العيش في هذا الزمن الصعب، ووراءنا إرث كبير، نهنيء أنفسنا عليه، وباسمه نشكر سادتنا الذين علمونا الحرف، وعلمونا صناعة الرأي الموضوعي، وعلمونا حب البلاد، وهي ذي «صحيفتنا» التي نقدمها في الحياة وفي الممات.
لا شك أن مناسبة تخليد الذكرى لا تستقيم بدون أن نذكر جنود الخفاء في المطبعة والرقن والإدارة والإشهار والمراسلين والمناضلين وعموم القراء الذين يسعفوننا بدمهم وعرقهم وشهامتهم حتى نبقى على قيد الحياة، ولا تستقيم الذكرى بدون الوقوف دقيقة صمت وقراءة الفاتحة إلى كل الذين زرعوا النور في عقولنا ورحلوا وتركونا فخورين بما قدموه و بانتمائنا إليهم، نساء ورجالا، عانوا في لحمهم ودمهم وجربوا التشريد والتعذيب، وجربوا المحن، وجربوا المنافي، وجربوا الطرود الملغومة وجربوا.. كل أشكال الإبادة، التي لم تنفع معهم، لأنهم كانوا يعرفون أنهم أناس مستحيلون!!
هناك اليوم حاجة إلى صحافة لها تاريخ، وأذكر هنا تجربة فرنسية دالة، للحفاظ على نكهة التاريخ في صناعة التعددية الفرنسية والحفاظ على التراث النضالي للمهنة.
فقد تدخلت الدولة، عبر قرار من البرلمان لكي تدفع ديون هذه المعلمة، بالرغم من محدودية انتشارها، كفعل مليء بالدلالة عن الفهم العميق للتراث النضالي في الإعلام، حتى في دولة أصبحت مدرسة للعالم في تدبير فضائها الإعلامي، وقبلة للكثيرين منا.. فالدولة مسحت 4 ملايين يورو (أحسبها بالدرهم السي بوسعيد) بموجب قانون صوت عليه البرلمان.. بالرغم من أن«لومانيتي» لا يمكن أن تتهم بأنها قريبة من الحكومة.
طبعا، لا ننتظر من حكومة تعطي الأوامر، عبر وزرائها بخنق صحافة المعارضة، ولا قرارات تتسع لها صدور الإعلام الحكومي، لاسيما وأن الأوامر تنزل «خيط من السما» ضد الصحف المعارضة، والسبيل في ذلك، هو قرارات الحرمان من الإشهارات ومن الإعلانات وسد الأبواب في وجه الاستفادة من بعض الإصلاحات «المفصلة» على المقاس لبعض القطاعات الاقتصادية.. الخ.
والحق في المعلومة، الذي تحصل عليه الصحافة القريبة، والعقود الإشهارية الضخمة التي يبذلها مدراء ورؤساء مدراء على من يريدون، بالرغم من محدودية القراءة في بلاد الأربعين مليون.. والتاريخ العريق في المعرفة.
هي ليست مناسبة للتحريض على المعارضة، في الواقع، تلك مهمة الصحافة النبيلة دائما، إنها مرد تداعيات، بل الذكرى وطريقة في إعلان حب هذ المهنة ورجالاتها ونسائها النبيلات الرائعات والنبلاء الرائعين..
أحبكم !