إلى روح الفقيد أستاذنا سالم يفوت
“ينبغي التفكير في السياسة، فإذا امتنعا عن ذلك، سيكون عقابنا قاسيا “
عن الموقع الالكتروني مجلة ” انفاس نيت “..
السبت 10 ماي 2014
إن الإنسان حيوان اجتماعي: يستحيل عليه العيش إلا مع أشباهه أو الانفتاح إلا عليهم.بيد أنه كذلك، حيوان أناني.ف“مفارقة النزوع للمجتمع وعزلته عنه في آن معا”بحسب تعبير كانط، يجعل منه كائنا غير قادر على الاستغناء عن الآخرين ولا الإقلاع،من أجلهم، عن إشباع رغباته الخاصة.لهذا السبب،فنحن في أشد الحاجة إلى السياسة بغية تسوية صراع المصالح بأساليب أخرى عوض اللجوء إلى العنف،وكذلك من أجل تضافر جهودنا بدل أن تتعارض، أملا في النأي عن الحرب،عن الخوف،وعن الوحشية.لهذه الأسباب كلها، نحن في حاجة إلى الدولة. لا لأن الناس طيبون أو صادقون، بل لأنهم لا يتحلون بخصال من قبيل الطيبوبة و الصدق.و لا لأنهم متضامنون، بل لأن لديهم فرصة، على ما يبدو، لكي يصيروا كذلك.ولا يتم تحولهم (وفق الطبيعة) بالرغم مما ذهب إليه أرسطو، بل يسير وفق الثقافة بل وفق التاريخ بل وفق السياسة نفسها؛أي وفق التاريخ كما يصنع،كما ينكسر،كما يعاد بناؤه، كما يستمر،وكما التاريخ يتجلى في حاضرنا باعتباره تاريخنا الوحيد الذي لا تاريخ سواه. فمادام الأمر كذلك، فكيف لا يراد منا ألا نهتم بالسياسة؟ بل كيف لا يتوجب منا الانشغال بها،مادامت الأشياء كلها موصولا بحبائلها؟
فماذا يقصد بالسياسة إذن؟ إنها تدبير سلمي للصراعات، وللتحالفات ولعلاقات قوى؛ لا كما تتجلى فقط بين الأفراد مع بعضهم البعض (كما يمكن أن يلاحظ في العائلة أو في جماعة معينة) بل كما تتمظهر كذلك على مستوى سلم كل مجتمع. فهي بهذا المعنى، فن العيش المشترك ضمن نفس الدولة و نفس المدينة – الدولة (Polis بلغة الإغريق).بمعنى آخر، أن نعيش مع أناس لم يقع اختيارنا عليهم ولا يوجد لدينا أي إحساس خاص إزاءهم، بل هم أقرب إلى التنافس منهم إلى التحالف.لهذا الأمر، يفترض وجود سلطة مشتركة و وجود صراع من أجلها.أي يفترض حكومات و تغيير دائم لها،و مواجهات لكنها مقننة، و توافقات غير أنها مؤقتة من أجل أن يتم الوصول،في النهاية،إلى اتفاق حول أسلوب فض الخلافات المتنازع عليها.فالعنف لن يبرح حياتنا ما لم تستطيع السياسة على إيقافه، وهذا دليل قطعي لإثبات أهمية وجودها. فالسياسة تبدأ، عندما تضع الحرب أوزارها.
هكذا، يتعلق الأمر بمعرفة من يحكم، من يمتثل، و من يسن القانون كما يقال، أو من ننعته بلقب الحاكم؛ قد يكون ملكا أو طاغية (كما في الملكية المطلقة) أو شعبا (كما في النظام الديمقراطي)أو جموع أفراد (طبقة اجتماعية، حزب، نخبة حقيقية أو مزعومة(كما في النظام الأرستقراطي)أو قد يكون،في الغالب،حكما هجينا فريدا من هذه الأنماط من الأنظمة أو الحكومات الثلاث. لكن يبقى السؤال المطروح:هل يمكن الحديث عن سياسة دون سلطة، و التي تعلو على كل شيء،على الأقل،في هذه الأرض،كصمام أمان للناس أجمعين؟ وبتعبير ميشال فوكو:“السلطة حالة في كل مكان”. بل هي،بالأحرى،غير قابلة للعد. بيد أن تعايشها لا يتحقق إلا في ظل سلطة معترف بها أو ملزمة من سلطة قاهرة لباقي أنماط السلط الأخرى. فتعدد أشكال السلط،و وحدة الحاكم أو وحدة الدولة: كلها أمور سياسية تمارس فعلها هنا.لذلك، فوجودها أمر ضروري لدى الأفراد والجماعات.
وضمن هذا المنظور، فهل يستقيم بالنسبة لنا الامتثال لأول إنسان يهب و يدب إلينا؟ و هل يكون أول رئيس صغير ؟ بطبيعة الحال،فالأمر غير ممكن! فنحن نعلم علم اليقين، حاجتنا إلى سلطة أو أكثر، ونعرف جيدا أن الامتثال لها أمر ضروري. لكنه، مع ذلك، ليس امتثال لكل من هب ودب أو بدون أي ثمن.فنحن نريد امتثالا حرا لا امتثال قوة، أي نريد أن تكون السلطة التي نخضع لها بمنأى عن كل سلب لحريتنا،بل ينبغي،بالأحرى، أن تسهم في تقويتها أو ضمانها.و مادمنا غير قادرين على أن نصل إليها بشكل كامل، و لا أن نتنازل عنها على نحو تام، فإن مزاولة السياسة أمر لاريب فيه بالنسبة لنا.ولن نحيد عن مزاولتها باستمرار في إطار جماعة متحدة، لكي نصير أحرارا وسعداء و أشداء على نحو أفضل، كما تنادى جماعة متظاهرو خريف 1995، أكانوا جماعة مؤيدة أم معارضة ،مادام الأمر لا يحيد عن الحاجة الملحة للسياسة.
فمما لاريب فيه، أن السياسة تفترض التنازع،و التصارع و التناقض.فحيثما يتم الاتفاق بين الناس جميعا (كأن نقول مثلا الصحة أفضل من المرض أو السعادة أفضل من الشقاء)، أو يقبع كل واحد منا في ركنه الركين أو ينطوي على شؤونه الصغيرة، فكل هذه الأمور لا تمت للسياسة بصلة.لأن من وظائفها أن تجمعنا في تعارضنا؛بمعنى أن تجعلنا نتعارض حول أحسن السبل للاجتماع فيما بيننا .و هكذا دواليك. فنحن غالبا ما نخدع أنفسنا عندما نعلن عن أفول السياسة؛ لأن ما سيترتب عنه نهاية للإنسانية،و نهاية للحرية و نهاية التاريخ، بحيث لا يمكن ضمان دوام السياسة، في المقابل، إلا عبر صراع مسموح به و ممكن تجاوزه.
إن السياسة كالبحر، لها قدرة على إعادة نفسها دوما.ولأنها عبارة عن معركة، فهي السبيل الوحيد لتحصيل سلام ممكن.ولأنها الوجه المضاد للحرب،فهذا سر عظمتها.ولأنها كذلك نقيض حالة الطبيعة، فضرورتها أمر لا ريب فيه. فمن منا يتوخى أن يعيش وحيدا في هذه الحياة؟ ومن منا يشوق لحياة مغايرة تماما عن حياة الآخرين؟ يوضح الفيلسوف هوبز “حالة الطبيعة” بأنها “حرب الكل ضد الكل”: أي حياة موسومة ب“العزلة و الخداع و القساوة و البهيمية و الفظاعة”.فكلما كانت السلطة مشتركة،كلما استدعت الضرورة قانونا مشتركا بل الدولة نفسها.غير أن شرط تحققها،لا يتم دون ملازمة السياسة لها. إذن،كيف يمكن العيش ضمن حياة مشتركة؟ وما الداعي إلى القيام بذلك؟ تينك المشكلتان التي ينبغي معالجتهما وإعادة طرحهما معا (مادام يحق لنا تبديل رأينا وموقعنا وأغلبيتنا ).فلكل واحد منا له الأحقية في التفكير فيهما وصلاحية مناقشتهما معا.
نعود إلى طرح السؤال السالف الذكر:ما السياسة؟ إنها حياة مشتركة ومتصارعة،خاضعة لهيمنة الدولة ورقابتها؛لأنها تدل على فن الأخذ،وفن الحماية، وفن استعمال السلطة. و هي كذلك فن تقاسم السلطة، مادام لا توجد حقا، طريقة أخرى غيرها لانتزاعها.قد يحز في أنفسنا ألا نرى في السياسة إلا مجرد نشاط ثانوي واحتقاري.و الحال، أن هذه النظرة الدونية للسياسة غير صائبة، ذلك أن الاهتمام بالحياة المشتركة والمصير المشترك و المجابهات المشتركة، يعد عملا أساسيا لكل كائن بشري، بحيث لا أحد مستثنى منه.فهل يليق بك أن تترك الحقل السياسي حرا للعنصريين والفاشستيين والديماغوجيين؟ هل تسمح لنفسك أن تترك صناعة القرار للبيروقراطيين عوض أن تصنعه أنت بنفسك و وفق إرادتك؟ وهل يروقك أيضا إخلاء المجال فارغا للتفنوقراط و الاختصاصيين،بحيث يلزمونك مجتمع على مقاصهم. فإذا كان انسحابك جليا، فبأي حق يحق لك، والحالة هذه، أن تشتكي عن أمور سائرة على غير ما يرام؟ كيف لا تعد شريكا متورطا في هذه الضحالة و الرداءة، إذا لم تسع أبدا على إيقافها؟ فهل يقبل منك أحد اعتذارا عن تقاعسك عن الفعل أو عدم الكفاءة؟ إن امتناع ممارستك للفعل السياسي، إعلان،من جهة،على تنازلك عن سلطتك،وبالتالي سيغدو موقفا دوما محفوفا بالمخاطر.ومن جهة أخرى، يعد ذلك الموقف تنصلا عن مسؤولياتك وتصرفا مدانا جملة وتفصيلا.وعليه، فالنزعة المضادة للسياسة،هي نزعة خاطئة و باطلة معا. لأنها تتوجه، ببساطة، ضد مصالح الناس و ضد واجباتهم.
ما يحز في أنفسنا أيضا، هو أن نسعى إلى اختزال السياسة في الأخلاق، وكأن السياسة لا شغل لها سوى تحصيل الخير والفضيلة والفعل المنزه عن المصلحة.و الحال، أن العكس هو الصحيح. فلو سادت الأخلاق عند عامة الناس، لما كنا في حاجة إلى شرطة ولا إلى قانون ولا إلى محاكم، ولا إلى جيش، ولما كنا أيضا في حاجة إلى دولة ولا إلى سياسة!
فمن الواضح، أن الاعتماد على الأخلاق من أجل التغلب على البؤس و الإقصاء، أو التوسل بالإعانة الإنسانية عوض السياسة الخارجية أو إحلال الإحسان محل السياسة الاجتماعية أو التركيز على محاربة العنصرية بدل سن سياسة للهجرة، ليست صراحة سوى ضربا من حكايات ليس إلا.لكن ما لا ينبغي أن يفهم من كلامنا،أننا نروم تجريد القيمة الأخلاقية عن كل ما يتعلق بالمساعدة الإنسانية أو الإعانة الخيرية أو مكافحة العنصرية، و إنما لكي نؤكد على عدم كفايتها وحدها دون السياسة (فلو كانت كافية، لما توسلنا أصلا بالسياسة) في إيجاد حلول لبعض المعضلات الاجتماعية كيفما كانت طبيعتها. فإذا كانت الأخلاق لا حدود ولا وطن لها، فإن السياسة لا تحيد عنهما. فلا هذه ولا تلك، بإمكانهما أن تمنحا، لفكرة العرق أية صلة ملائمة لها.فلون البشرة لا تصنع إنسانية و لا مواطنة. فلا تقوم الأخلاق بتاتا على أساس مصالح فرنسا والفرنسيين، أوروبا و الأوروبيين، مادامت لا تعرف إلا الأفراد أي لا تعرف إلا الإنسانية. بينما كل سياسة فرنسية أو أوروبية، يمينية أو يسارية، لا توجد إلا من أجل الدفاع عن شعبها أو شعوبها على وجه التخصيص.و ليس، بالتأكيد، ضد الإنسانية، لأنه سيغدو تصرفا لا أخلاقيا إن لم يكن تصرفا انتحاريا.بيد، أن السياسة تبقى دائما ذات أولوية عن الأخلاق، وهذا ما لا تقدر عليه هذه الأخيرة أن تسلكه إطلاقا، سواء أكان بالإكراه أم بالمنع.
فبإمكاننا أن نكتفي بخيارات أخلاقية و إنسانية :أو خيار عدم الحاجة إلى السياسة، إلا أنه خيار مخاتل لمنطق التاريخ و موارب لذواتنا.فالسياسة،بهذا المعنى، ليست مضادة للأنانية (و هذا ما تكون عليه الأخلاق)، و إنما هي شكل من أشكال التعبير الجماعي والتنافسي لها.فالأمر يتعلق بأن نكون مجموع أنانيات،مادامت هي مأوانا،وأنجع السبل لحياة ممكنة.لكن كيف يتم تحقيق ذلك؟ يتحقق أساسا عن طريق تنظيم المصالح المتضاربة أو ما يمكن نعته بالتضامن (فباختلاف التضامن عن الكرم، ما يفترض بالمقابل الفعل المنزه عن المصلحة). فغالبا ما يساء معرفة هذا الاختلاف بين التضامن والكرم.وهو سبب إضافي كذلك للإلحاح عليه.فأن تكون متضامنا معناه أن تدافع، بلا شك، عن مصالح الآخرين، كما لو أنها أيضا، تمثل بشكل مباشر أو غير مباشر مصالحنا.و لكوني أتصرف من أجل مصلحته(أنانيته)، فإني أفعل أيضا من أجل مصلحتي: لأننا نتقاسم معا نفس الخصوم و نفس المصالح، ولأننا كذلك معرضون لنفس المخاطر و نفس الهجمات.ذلك ما نراه في التنظيم النقابي و في المؤسسات الائتمانية والضريبية. فمن سيحكم على نفسه بالجود أو الكرم لمجرد كونه أكثر ائتمانا، ولكونه منقبا أو دافعا للضرائب؟ فلامندوحة، أن الكرم يتخذ مسلكا مغايرا للتضامن: فالكرم يدل على الدفاع عن مصالح الغير دون أن تكون بالضرورة مصالحنا؛ بمعنى أن أدافع عن مصالح الغير بالرغم من أني لا أتقاسمها معه ولا أجد فيها حساباتي الخاصة، وإنما لكي يجد فيها هو حساباته.فأن أتصرف من أجله دون أن يكون تصرفي هذا فيه مجلبة لمصلحة لي، بل حتى و إن كان سيترتب عن هذا الفعل الموجه لمصلحته، فقدان شيء ما،و هذا ما اعتدنا عليه مرارا.
كيف نرعى ما نمنحه ؟ كيف نمنح ما نرعاه؟ من الطبيعي، لن تكون السياسة أبدا هبة بل تبادلا و لا كرما بل تضامنا. فالتضامن هو أسلوب للمقاومة بأشكال عدة، بينما ينهج الكرم، في حدود ما، أسلوب التضحية بالذات من أجل الآخرين.لهذا، يكون الكرم ساميا أخلاقيا ، في حين يبقى التضامن أكثر استعجالية،و أكثر واقعية و أكثر نجاعة اجتماعيا و سياسيا. فلا أحد يساهم في التضامن الاجتماعي أو في تأدية الضرائب حبا في الكرم. فمن أغرب الأشياء، أن نرى نقابيا منخرطا في النقابة بدافع الكرم.و الحال، أن تأسيس المؤسسات الضريبية و الضمان الاجتماعي و النقابات، كانت بدافع العدالة أكثر مما هي بدافع الكرم، و إن كانت أحيانا، بين الفينة و الأخرى قادرة على ترك بصمتها عليها.وهذا ما ينطبق أيضا على السياسة. فلا يوجد فرد من الأفراد يحترم القانون أو يصير مواطنا بدافع الكرم.بل أسس الحق والدولة على أساس إقرار العدالة وصيانة الحرية أكثر بكثير مما أقيمت من أجل الأحاسيس النبيلة.
لذلك، فليس التضامن والكرم متنافرين إلى حد كبير.فلا يمنع المرء أن يكون متضامنا و كريما في آن معا،و إن كان تكافؤهما غير ممكن، لهذا السبب لا أحد منهما بقادر على أن يكتفي بذاته أو أن يحل أحدهما مكان الأخر، أو بالأحرى، يمكن، فيما يبدو، الاكتفاء بالكرم، إذا ما كنا كرماء. بيد أننا، في الواقع، لا تصدق علينا حياة الكرم إلا نادرا. فما كانت حاجتنا إلى التضامن إلا لأننا فاقدون لفضيلة الكرم كفضيلة أخلاقية و للتضامن كفضيلة سياسية. فالعمل الجبار الموكول للدولة، يتمثل في ممارسة آلية الضبط و التنشئة الاجتماعية للأنانيات.و هذا ما يجعلها دوما ضرورية و غير قابلة أصلا للتعويض. فلا تعني السياسة سيادة الأخلاق، الواجب و المحبة، و إنما تنبني على سيادة علاقات قوى، آراء، مصالح وصراع مصالح.وهذا ما كان يراه ميكيافلي أو ماركس، هوبز أو سبينوزا.كما ليست أيضا شكلا من أشكال الغيرية.لأنها أنانية ذكية ومجتمعية.و لهذا السبب، لا نكتفي فقط بإدانتها، بل نروم إلى تبريرها، على اعتبار أننا كلنا أنانيون. من منا لا يرى في البحث الهادئ والمنظم خدمة لمصلحة مشتركة أو ما نعتقده كذلك، أفضل بكثير،لدى أغلب الناس،من حدوث مواجهة وفوضى عارمة؟ من منا لا يرى أن العدالة أفضل بكثير من الجور؟ فسواء كانت السياسة مبررة أخلاقيا، فإنها مسألة بديهية، توضح عدم تعارض السياسة والأخلاق فيما يصبوان إليه.و ما دامت الأخلاق غير كافية لتحصيله، فإن بداهة أخرى، تنم عن عدم جدوى الخلط بينهما تماما.
و على هذا الأساس، فإذا كانت الأخلاق، من حيث المبدأ، غير مهتمة بشكل مباشر بالشأن العام باعتبارها أخلاقا كونية، أو كما يراد لها أن تكون، فإن السياسة يستحيل أن تصير كذلك، لما لها من طابع خاص.فإذا كانت الأخلاق أيضا ذات طابع منعزل أو منفرد (لا تقوم إلا بصيغة الضمير المفرد)، فإن أي سياسة لا تستقيم إلا ضمن وجود جماعي.و عليه، فلا يمكن للأخلاق أن تنوب عن السياسة، ولا أن تحل السياسة مقام الأخلاق. فنحن في حاجة إليهما معا، شريطة مراعاة التباين القائم بينهما. لنأخذ الانتخاب السياسي على سبيل المثال، فهو لا يقابل، عدا حالات نادرة، بين الأخيار و الأشرار، بل إنه يقابل بين جبهات، بين جماعات اجتماعية أو إيديولوجية، بين أحزاب، بين مصالح، بين أراء، بين أولويات، بين خيارات،و بين برامج…. فإذا كانت للأخلاق كلمة تقولها، وهذا ما ينبغي دائما تذكيره، (وجود أصوات انتخابية مدانة أخلاقيا)، فإن ما لا يمكن نسيانه، هو أن تصبح بديلا لأي مشروع أو إستراتيجية. فما الذي يمكن أن تقترحه الأخلاق ضد البطالة، ضد الحرب و ضد الهمجية؟ من المؤكد أنها قد تدعونا إلى مجابهتها، لكن المعضلة هنا، كامنة في الكيفية التي نحظى بها للتغلب عليها. ذلك أن مسألة “كيف” هي ما تهمنا سياسيا. فأن تسأل: هل أنت مع العدالة والحرية؟ سيكون الجواب، من منظور أخلاقي، شيئا بسيطا. أما من زاوية سياسية، فلا إخبار عن كيفية الدفاع عنها ولا عن كيفية التوفيق فيما بينها.فأنت قد تأمل أن تتم تسوية عادلة في إقامة وطن قار معترف به بين الإسرائيليين و الفلسطينيين أو أن يتمكن جميع سكان كوسوفو العيش في سلام و ألا تلحق العولمة الاقتصادية الضرر على الشعوب والأفراد، أو أن يتوفر العجزة عن تقاعد مريح أو أن يحصل الشباب على تربية جديرة بهذا الاسم. فمما لا ريب فيه، أن الأخلاق لا يمكن إلا أن تثبت لك ذلك، لكن لا أحد بتاتا يقول لك عن كيفية الرفع من حظوظنا جماعة، ولا عن كيفية تحصيلها. فمن ذا الذي يعتقد أن الاقتصاد أو لعبة السوق الحرة ممكن الاكتفاء به؟ إن السوق لا يخص إلا البضائع. فلن ننتظر منه، أن يعتبر العالم أو الحرية أو العدالة من صميم مجاله.فكم من الحماقة، أن نسلم للسوق ما لا يكون غير قابل للبيع! أما فيما يخص المقاولات، فإنها تسعى إلى تحقيق الأرباح، و هي وظيفتها التي لا يجوز الاقتراب منها، لحاجتنا الجماعية لهذه المكاسب.لكن من يزعم أن الأرباح كافية لبناء مجتمع أكثر إنسانية؟ فمن البديهي، أن من مهام الاقتصاد إنتاج الثروة .إلا أننا في حاجة كذلك إلى عدالة و حرية، و أمن، و سلم و أخوة، ومشاريع، و أفكار …. ولا وجود لسوق بقادر على توفيرها مهما علا قدرته. فلا مراء، من ممارسة السياسة لعدم كفاية الأخلاق والاقتصاد معا.لذلك سيكون، من الآن فصاعدا، مدانا أخلاقيا و كارتيا اقتصاديا إذا ما زعمنا الاكتفاء به (السوق).
ما الداعي إلى السياسة إذن؟ إنها دعوة متأتية من كوننا لسنا قديسين ولا مستهلكين فقط؛ بل لأننا مواطنون و لأننا ينبغي أن نصير كذلك، حتى نستطيع الدوام عليها. أما بالنسبة لأولئك الذين جعلوا السياسة حرفة لهم، فإنه ينبغي عليهم بذل مجهود مخصص لجلب الخير المشترك دون أن يوهموا أنفسهم على نحو مبالغ فيه، الاقتصار على كفاءاتهم و على فضيلتهم.لأن اليقظة السياسية تعد جزءا لا يتجزأ من حقوق الإنسان و من واجبات المواطن.
وعليه،فمن غير اللائق التمييز بين هذه اليقظة الجمهورية مع السخرية،و التي ترجع كل شيء هزئيا و لا مع الاحتقار الذي يرجع كل شيء قابلا للاحتقار. فأن تكون يقظا سياسيا، معناه ألا تأخذ الكلام عن عواهنه و ألا تتم الإدانة أو القدح إلا على أساس المبدأ. فلن نرد الاعتبار للسياسة، من حيث هي قضية مستعجلة الآن، عن طريق الشتم الدائم للفاعلين السياسيين الممتهنين لحرفة السياسة.ففي الدولة الديمقراطية، تستطيع إيجاد رجال سياسة جديرين بالتقدير.و هذا سبب إضافي لاختيار هذا النظام عن باقي الأنظمة الأخرى. فلدينا الحق أخلاقيا، أن نتذمر من سلوكياتهم – وبالتأكيد ليست الأسباب التي تنقصنا – شريطة أن نتصرف مع الآخرين قصد تغييرها. فلا يكفي أن تأمل العدالة، السلام، الحرية و الازدهار……. دون العمل من أجل الدفاع عنها،بل و أن نكابد من أجل تسريع في وثيرتها.و هذا ما لا يمكن أن يتم بشكل فعال دون عمل جماعي مشترك،و لا يتحقق بالضرورة دون ملازمة السياسة. فهذه الأخيرة، لا يمكن أن تختزل،بأي حال من الأحوال،في الأخلاق أو في الاقتصاد،كما سبق أن ألححنا عليه مرارا. ختاما،و من باب التذكير، فلا يعني أن تتميز السياسة أخلاقيا و اقتصاديا بانعدام حمولة.
فبالنسبة لكل فرد منشد لحقوق الإنسان و تواق لحياة كريمة، أن يولي اهتماما بالسياسة لا فقط من أجل تلبية حق من حقوقه،وإنما أيضا من أجل القيام بواجبه وصون مصلحته.فذاك هو السبيل الوحيد، بلا ريب، الذي يسنح لنا تقريبا التوفيق فيما بينها. فما بين قانون الغاب وقانون الحب، ينوجد قانون ضيق.و ما بين الملائكة والهمجية، تسكن السياسة.فبإمكان المرء أن يتغاضى عما تقوم به الملائكة بل حتى عن الحيوانات كذلك، أما ما لا يمكن التغاضي عنه هي أفعال الإنسان.وضمن هذا المنظور،تبدو لنا صحة التعريف الأرسطي، على الأقل ضمن هذا المعنى، بأن“الإنسان حيوان سياسي”، لا يستطيع صيانة إنسانيته دون سياسة.
هكذا، لا يكفي أن“تصنع إنسانا خيرا” (الأخلاق)،بل يتوجب أيضا أن تصنع مجتمعا يصير إنسانيا (مادام المجتمع صانع الإنسان) بحيث لا يفتأ دوما على إعادة بنائه وإن كان بشكل جزئي. فلامندوحة، أن العالم ما ينفك عن التغير.فأي مجتمع من المجتمعات لا يصاب بالتغير، سيكون مآله الضياع. فقدر الإنسان أن يفعل، أن يصارع، أن يقاوم، أن يمانع و أن يغير. فما فائدة السياسة إذن ؟ فهل لديها مهام أخرى أكثر أهمية من هذه؟ هذا أمر ممكن.لكن،لا يوجد على قائمة أولويات المجتمع ما هو أكثر استعجالا منها. فالتاريخ لا ينتظر إرادة أحد مهما علا شأنها، فمن البلادة أن يظل الناس في انتظار على نحو دائم.فهو بهذا المعنى ليس قدرا، و لا كونه فقط يصنع بنا ما يشاء، إنه ما نصنعه بمجموعنا وما يصنعه بنا.و بعبارة شاملة مانعة، إنه السياسة ذاتها.
أندري كونت سبونفيل: فيلسوف فرنسي، من مواليد 1952 بباريس،حاصل على دبلوم التبريز في الفلسفة من المدرسة العليا للأساتذة.من أهم مؤلفاته:“التربية الفلسفية”،“القيمة والحقيقة”و“دراسة موجزة في الفضائل العظمى”.
المصدر:André compte – sponville « presentations de la philosophie » Editions albin michel S A,2000.