ميشال أونفري الفيلسوف الفرنسي الأكثر شهرة
|
الفيلسوف ميشيل أونفري لم يبق حبيس التـأمل النظري بل انغمس في الفعل وانشغل بقضايا الحياة
والمشاركة في الصراع السياسي والثقافي. |
عن صحيفة العرب حميد زناز
[نُشر في 04/05/2014، العدد: 9548، |
ميشال أونفري.. حينما تلتقي هذا الفيلسوف الفرنسي الأكثر شهرة اليوم تشعر ببساطة الرجل وتواضعه رغم النجومية التي يحظى بها ليس في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمكتوبة بل حتى بالنسبة إلى مبيعات كتبه التي حطمت أرقاما قياسية وباتت الفلسفة معه ومع بعض الفلاسفة الشبان الآخرين تنافس الرواية والكتاب السياسي في فرنسا منذ حوالي أكثر من عشريتين من الزمن.
وإذ لم يتعد عمره الخامسة والخمسين ففي جعبته أكثر من ستين كتابا نالت في مجملها أحسن استقبال من طرف القراء وقد وصلت مبيعات بعضها إلى حوالي 500 ألف نسخة وترجم معظمها إلى حوالي 30 لغة.
وقد أصبح مع مرور الزمن ظاهرة في مجال النشر الفرنسي وعُرضت عليه عروض مغرية ولكنه فضل البقاء في مدينته الصغيرة “أرجونتون” بمنطقة النورماندي يدرس الفلسفة في ثانوية تقنية لسنوات عديدة ولكن كان لا بد أن يتصادم الجانب الإداري ورتابة الوظيفة العمومية مع شخصية مستقلة ذات ميول أناركية وترفع شعار نيتشه: ” أبغض الأشياء عندي هو أن أُقاد وأن أقود أيضا”.
الحرية هي الأسمى
قرر الانسحاب من التربية الوطنية وقدم استقالته بعدما تأكد بأن تدريس الفلسفة في المدارس الثانوية الفرنسية قد تم تحريفه وأدلجته ولم يعد يؤدي الوظيفة المنوطة به أساسا ألا وهي تنمية الروح النقدية وتقديم الفكر الفلسفي الحقيقي المغيب للناشئة بدل إلهاء عقولهم بفلسفة رسمية ملساء غير ثورية إن لم تكن رجعية تبليدية.
ولم ينسحب يجر أذيال الهزيمة كما قد يتبادر إلى الذهن بل ليقدم البديل وفتح ورشة من أكبر الورشات في تاريخ الفلسفة وهذا البديل هو إعادة كتابة تاريخ الفلسفة المهمش، وهو التاريخ الحقيقي للفلسفة في رأيه فنفض الغبار عن فلاسفة وفيلسوفات طردوا من الكتب المدرسية الرسمية لأسباب إيديولوجية.
ويبقى إسهامه المتميز تأسيسه جامعة شعبية في “كون” سنة 2002 لإيصال “أم العلوم” إلى كل شرائح المجتمع مجانا ودون تمييز في السن أو في المستوى الاجتماعي أو الثقافي أو في الجنس ونالت نجاحا منقطع النظير حضورا وإشعاعا إذ لها اليوم بعض فروع في كل من جزيرة كورسكا ومرسيليا وغيرهما بل وصلت حتى كندا والمغرب.
نجح من خلالها في إنشاء ممارسة موازية للفلسفة الرسمية الجامعية خادمة الأمر الواقع وأصحاب المصالح كما يقول. جامعة تقدم معرفة وأسئلة ولا تقدم شهادات مفبركـــة لا علاقة لها بقيمة الإنسان الحقيقية. وأصبحت محاضراته تبث كل بداية صيف على أمواج إذاعة فرنسا الثقافية الشهيرة كما تطبع في أقراص وتسوّق.
فضلا عن سلسلة الكتب السنوية التعليمية التي ينشرها كل عام في سلسلة أسماها “تاريخ الفلسفة المضاد” وهي كتب تعتبر البديل لبرنامج الفلسفة الرسمي في فرنسا ولم يكتف بالتفكير في تثمين الجمال والذوق الفني بل نزل إلى أرض الواقع فأنشأ جامعة الذوق مع مجموعة من المزارعين المحليين وبعض الطهاة المشهورين.
الفلسفة في الميدان
ولم يبق حبيس التـأمل النظري المجرد والتلذذ بالكلمة الفلسفية بل راح ينغمس في الفعل وينشغل بقضايا الحياة العملية والمشاركة في الصراع السياسي والثقافي. وهو ليس من الذين يخفون هويتهم السياسية، أناركي وتحرري وهو بذلك ينتمي طبيعيا إلى اليسار ولكن “اليسار الحقيقي” المعني بحياة البشر الواقعيين.
وقد طلب منه أن يكون مرشحا لليسار الراديكالي في الانتخابات الرئاسية الفرنسية الأخيرة ولكنه رفض واختار مساندة جوزي بوفي زعيم الفلاحين المدافع عن الفلاحة الطبيعية والمناهض المعروف عالميا للفلاحة المعتمدة على المواد الكيميائية ومخرب مطاعم الماكدولاند وحقول الذرى المعدلة جينيا.
سياسيا هو أناركي قريب من مفاهيم “التعاونيـــة” و”الفيدرالية” و”التعاضدية” وبذلك يقترب كثيــرا من الفيلســوف برودون. على عكس فلاسفة جيله، هو الفيلسوف الوحيد الذي نزل إلى أرض الواقع ولم ينعزل متأملا في برجه الفلسفي العالي ولم يبق حبيس النصوص، بعيدا عن نقاشات المجتمع و صراعاته.
وظل يناهض الحتمية الاجتماعية والعائلية والتاريخية والوطنية ويؤمن بقدرة الفرد على التحرر ونحت نفسه بنفسه. وانصب عمله على تفجير كل ما هو طيب وجميل في الفرد. “اعرف نفسك بنفسك” ثم ‘انحت نفسك بنفسك وتمتع “.
ويبدو ذلك جليا في كتابه “بيان من أجل المتعة”. هو خليط بين سقراط وأبيقور. ويتفق تماما مع هذا الأخير حينما يرى أن كل مفكر “يتفلسف من خلال جسد وأنه لا يمكن أن يتحول إلى حكيم انطلاقا من أي شرط جسدي كان”.
ويرى أونفري أن أبيقور كان ضحية للرواقيين ثم المسيحيين الذين حاولوا تشويه نظريته وهو دليل على مدى الصعوبة التي يعيشونها إزاء الجسد. ويمكن تلخيص أبيقوريته في محاولة العيش حسب حاجات الفرد الاساسية والعمل على الوصول إلى السعادة هنا والآن.
ويعتقد أن الناس هم سبب عدم وصولهم إلى السعادة ويتساءل عن ذلك البؤس الذي يزهر على وجوه الناس رغم توفر ما لم يكن متوفرا أبدا من ماديات وتسهيلات في العيش. السعادة هي التمتع بما في اليد والجهر بما نؤمن به من أفكار في كل المسائل كاللذة و المتعة و العلاقات…
في أول لقاء جمعني بالفيلسوف منذ أكثر من 15 سنة، وكانت نظريته في المتعة لم تكتمل ملامحها بعد، سألته مستغربا عن اهتمامه باللذة والمتعة، هو الذي يقول بأنه يساري ومقارع لليبرالية ومهتم بمصير الفقراء المسحوقين! وإذا لم يكن يجد في ذلك تناقضا؟ أجاب بأن الدعوة للانشراح ليس معناه الاستهلاك وحمّى الشراء بل هو الاستمتاع بأبسط الأشياء في الحياة كشرب كأس ماء بارد أو السير بين الأشجار والاستمتاع بالهواء النقي.
ومع مرور الزمن أصبح واضحا أنه لا صلة للمتعويّة التي ينظّر لها كتابا تلو الآخر بأي شكل من أشكال الإفراط في اللذات أو الشهوة المبتذلة كما تحاول أن تروج بعض القراءات المستعجلة، فأساس فلسفته هو الكينونة والكيف قبل الملكية والكم. اجتهد منذ 20 سنة أن يطور نظرية في المتعة والتمتع مقترحا البحث عن إصلاح ذات البين بين الإنسان وجسده وإرساء أخلاقية تقوم على الجمالية. فالفلسفة هي فن حياة، هدفها العيش بطريقة أفضل وإبراء الإنسان من أوهامه المتراكمة منذ آلاف السنين. ولا فائدة في نظر أونفري من فكر فلسفي لا يدعو إلى التمرد على الامتثالية الاجتماعية والدوغمائية.
من مؤلفاته
فن التلذذ، من أجل مادية متعوية / المنطق النهم / نظرية الجسد العاشق / من أجل نيتشوية يسارية / معدة الفلاسفة/ سياسة المتمرد / اللجوء إلى الغابات/ أفول صنم: الأكاذيب الفرويدية/ النظام الفوضوي، حياة ألبير كامو الفلسفية / بهجة الحب..