مسألة التواصل و الأنظمة الرمزية…
عن الموقع الالكتروني ملتقى ابن خلدون للعلوم والفليفة والادب
تبويب ..” مقالات”
ما التواصل؟ هل هو معطى أم مطلب؟ ما هي وسائطه؟ هل هي فقط الأنظمة الرمزية أم أيضا وسائل الاتصال والتواصل التقنية؟و إذا كانت الأنظمة الرمزية مشكلة للإنساني وإذا كان الإنسان يتحقق في التواصل فكيف تبرز قدرة الأنظمة الرمزية على تحقيق تواصل إنساني؟ ما هو دورها في وعي الذات بذاتها وفي علاقة الذات بالآخر؟ ثم هل أن الأنظمة الرمزية وسائط شفافة ووفية تحقّق التواصل أم أنها تمارس إكراها بنيويا بحيث تعطل التواصل بين الذوات؟
I – في دلالة التواصل و الأنظمة الرمزية:
يتحدّد التواصل عموما باعتباره الاشتراك في شيء ما، ويفيد التفاهم والفهم المتبادل لذلك يقتضي التواصل وسائط تتراوح بين أنظمة رمزية و وسائل تقنية. ذلك أن التواصل لا يمكن أن يتحقق بشكل مباشر وإنما يقتضي دائما وسيطا. والأنظمة الرمزية عند كاسيرار لا تعبر بطريقة سلبية على الحضور المحض للظواهر كعامل سلبي للرسائل التي يتمّ تبادلها، إذ يرى كاسيرار أن هذه الأنظمة لها استقلالية وهو ما يصدق على الفن كما يصدق على الأسطورة والدين وحتى المعرفة العلمية. وهذا يعني أن عالم الصورة الذي تتواجد فيه هذه الأنظمة الرمزية ليس مجرّد انعكاس لمعطى خبري بل هو على عكس ذلك مولّد من قبل الوظيفة الرمزية المناسبة بحسب مبدأ أصيل. فكلّ هذه الوظائف تنتج تشكلاتها الرمزية المختلفة عن رموز الذهن، وكلّ واحدة تحيل على زاوية نظر معينة وبالتالي فإن كلّ منظومة رمزية تمثل مظهرا خاصا للواقع. فلا يجب أن نرى في الأنظمة الرمزية طرقا مختلفة يتمظهر من خلالها الواقع في ذاته للعقل، بل هي طرق مختلفة يتبعها العقل للتموضع أي طرقا يتبعها العقل في تمظهره لذاته. فالأنظمة الرمزية من هذا المنطلق تتقدّم كمحاولات لتحويل العالم السلبي للتمثل البسيط إذ تمثل سيرورات ديناميكية للترميز.
لذلك فإن الإنسان على خلاف الحيوان الذي يعيش مباشرة من الطبيعة ويكتفي من المعطى الطبيعي الخام، يقحم الإنسان وسائطا بينه وبين محيطه. وهي وساطة تتمثل في العمل كنشاط يدوي وذهني والمحيط التقني الذي يمكّنالإنسان من الفعل في الطبيعة ومن هذا المنطلق فإن العلاقة مع الآخر يمكن أن تكون مباشرة مثل ما يتحقق ذلك في تبادل النظرات أو حتى الكلمات دون توسط حد ثالث، لكن الحياة الاجتماعية تقتضي وتنشأ وساطات من أجل حياة اجتماعية دائمة بل لتكون هناك فعلا حياة اجتماعية. ومن هذا المنطلق فإن الأنظمة الرمزية تمثل وسائط تجعل التواصل مع الذات ومع العالم ومع الآخر ممكنا، ويمكن القول أن الأنظمة الرمزية تضطلع بوظائف روحية تشكل الإنساني.
التواصل إذا مطلب إنساني من جهة أنه ما به يكون الإنسان إنسانا ذلك أن الأنظمة الرمزية كوسائط هي التي تجعل التواصل ممكنا والمقدّس الديني ذاته هو قبل كلّ شيء تجربة تنحو إلى أن تتواصل في تمثلات وصور، وتجربة المقدّس عند “مايير” هي ضرب روحاني من المعانقة للعالم إنها حدس مؤسس لنوع من الحضور الغامض لشيء يتجاوز الحدود المعتادة للتجربة الإنسانية. وهذا الشيء المغاير تماما للدنيوي يفلت من ظروف التجربة المدنسة رغم كون ما فيه وما به يتمظهر المقدس هو المدنس أو الدنيوي. والمقدّس كرمز يسمح بالانفتاح على العالم المطلق، ذلك أن طقس ما يمكّن الإنسان من اكتشاف هذا العالم المطلق الذي يفلت بالماهية من كلّ لغة، خاصة وأن الدين هو نسق يعبّر عن ذاته بواسطة طقوس تشغل الرمز والأسطورة.
وفي هذا المنظور، تكون الأسطورة لغة التعالي، و”غارودي” لا يتحدث عن التعالي باعتباره خارجيا أو قوة، فليس هو تعالي لرب فوقي ولا هو تعالي لمعطى تحتي، وهو ما يجعل من الأسطورة فعل خلق جماعي، لحظة عمل. فالأسطورة ليست مجرّد مشاركة في العالم بل هي لحظة عمل تميز الإنسان لذلك يرى “غارودي” أننا لا نستطيع أن ننعت بالأسطورة ما هو مجرّد أثر باقي من الماضي، كما لا نستطيع أن نعتبر الأسطورة مجرّد إعادة إنتاج أو مجرّد محافظة على الحاضر باعتبارها معيارا للسلوك بل إن غارودي يقول بأن النماذج الاجتماعية المضاعفة بالدعاية والإشهار والتي تقدّم المشاهير باعتبارهم أساطير هي وهم واغتراب. وهذا يعني أن الأسطورة ليست من الماضي بل أن هناك أساطير ينتجها الإنسان اليوم. فالأسطورة لا ترتبط فقط بالعقلية البدائية بما أنها تتجاوز المعطى المباشر وتتجاوز طبيعة الإنسان الخاصة. وهذا يعني أن ما يميز الأسطورة كانفتاح على التعالي ليس الخروج على الزمن بفعل تأبدها، ولكن تحكمها في الزمن. فالزمن الأول للأسطورة يمكن الإنسان من أن يعيش من جديد لحظة الخلق، إذ يمكن الإنسان في أن لا يرى في ذاته مجرد جزء من هذا الكون وسجينا له، ولكنه يجعله ينظر إلى ذاته كقادر على التعالي على الكون وعلى التدخل فيه كخالق. فالأسطورة عند غارودي ليست وسيلة للخروج من التاريخ بل هي تذكير بفعل المبادرة الإنسانية. والبطل الأسطوري هو الذي يعي بمشكل يعترض الإنسان في وضعية تاريخية، وهو من يكتشف ويكشف المعنى الإنساني المتجاوز لهذه الوضعية، وما نصر البطل أو فشله إلاّ علامة توقظ الإنسان على حلّ مشاكل زمانه.
II علاقة الانظمة الرمزية بما هو انساني:
1 – قدرة الانظمة الرمزية على تحقيق تواصل انساني:
تتحدّد الأنظمة الرمزية باعتبارها وسائط بين الإنسان والعالم وبين الإنسان والآخر، وسيطا يمكن الإنسان من تحقيق التواصل وتحقيق إنسانيته التي تشترط الفعل التواصلي. ومن هذا المنطلق فإن اللغة كنظام رمزي تستخدم العلامة، و تمثل بالنسبة لغوسدوف طريقا للدخول في الواقع الإنساني، وهذا يعني أن الطفل بعد أن يقطع صمت الحياة العضوية، بفضل التحكم المتدرّج في اللغة، يتحدّد كذات ويتمكن من التواصل مع بني جنسه. وهذا يعني أن اللغة تأسس عالما رمزيا متميزا يستحضر العالم ولكن لا يشبهه، لأن الكلمات ليست الأشياء، ولذلك كانت اللغة نظاما رمزيا. والوظيفة الرمزية للغة تتمظهر في القدرة على استعمال العلامات كرموز تمكننا من تمثل شيء آخر رغم غيابه. وبالتالي فإن اللغة كنسق من العلامات ليست لها علاقة مادية بما تعنيه هذه العلامات. وهذا الاختلاف عن الواقع يعطي اللغة نوعا من الاستقلالية عما هو كائن، وتسمح بالتالي للإنسان من الارتباط بالعالم و بالارتحال عنه. وهذه الاستقلالية والتسيير الذاتي للغة جعل “غوسدورف” يعتبرها الوسيلة الجوهرية التي تمكّن الفرد من تمثل ثقافة المجموعة التي ينتمي إليها. فاللغة هي التي تمكن الإنسان من تجاوز كينونته البيولوجية. وهو ما يعني أن الوظيفة الأولى للغة هي التواصل بين الناس، فأن نتكلّم هو أن نتواصل، وفعل الكلام هو فعل تمرير المعلومات، لذلك فإناللغة هي قبل كلّ شيء رابط اجتماعي، إذ هي منظومة اجتماعية تكون الإنسان ذاته كشبكة للتبادل والمشاركة والتواصل بما هي حوار يقتضي إفساح المجال أمام الناس للتعارف المتبادل كمقدّمة للفهم والتفاهم. لذلك يمثل الآخر طرفا أساسيا في فعل التواصل اللغوي، ففي هذا التواصل اللغوي، يحضر الآخر حتى عند غيابه، وحوار الذات مع ذاتها هو أبسط أشكال حضور هذا الآخر. وهذا يعني أن وعي الذات بذاتها يتحقّق عبر اللغة كنظام رمزي.
والاعتراف المتبادل يقتضي بدوره كلّ الأنظمة الرمزية الأخرى، فالأسطورة كقول أي كنظام دلالي له قواعده ومقاصده لا تختلف في أداء وظيفتها التعبيرية عن اللغة وعن كلّ أشكال التواصل كالدعاية والإشهار والصحافة والصورة، فهي كلها نظما دالة، خاصة وأن ما يميز مجتمعاتنا اليوم هو تنوع وكثرة الأنظمة التواصلية، فالصحف والراديو والأشرطة المرسومة كلها أشكال تعبيرية غير لسانية وتمثل الحامل الأسطوري للتواصل المعاصر. ولكن إذا كان الحوار لكي يكون كونيا لابدّ أن يبنى على معياري الحقيقة والحرية، فهل يمكن القول، في إطار التأثير الكبير للأنظمة الرمزية على الإنسان كوسائط لا غنا عنها، بأننا إزاء إكراه بنيوي للذات داخل الأنظمة الرمزية ذاتها؟ هل تتعطل قنوات التواصل بين الذوات بفعل تعدّد الأنظمة الرمزية أم أن الوعي بحدود هذه الأنظمة يمثل في حدّ ذاته سبيلا لتحرّر الذات من الإكراه البنيوي الذي تمارسه عليها الأنظمة الرمزية؟
2 – تنسيب قدرة الأنظمة الرمزية على تحقيق تواصل إنساني:
يلاحظ أدونو و هوركايمر أن السيطرة على الطبيعة مرتبطة ارتباطا وثيقا بتحوّل النوع الإنساني، لكن هذه الحركة الأولى لسيادة الذات عبر السيطرة على الطبيعة كمشروع للحداثة جعلت من وجود الذات وسيلة للهيمنة على مجموع العالم ووسّعت من هذه الهيمنة لتشمل الإنسان أيضا. ويقرّ”أدورنو” و”هوركايرم” أن نتائج هذه السيادة تتمثل في كون النسق الثقافي الذي محوره البضاعة، أدى إلى استعباد الإنسان. وهكذا فإن علاقات الاتصال اضطربت كثيرا من فرط التقدّم التقني، ذلك أن العنف الرمزي في الحضارة صناعية دائم الحضور ويشكل بعمق كلّ أصناف الهيمنة،فما يتواصل حوله الناس اليوم في إطار غزو الوسائل التكنولوجية لكلّ فضاء إنساني هو الخطاب الكاذب الذي تتناقله وسائل الإعلام، هذا الخطاب الذي لا يؤدي إلاّ إلى اغتراب الإنسان عن مشاكله الأصيلة وقضاياه الوجودية عبر تحويل موضوع التواصل إلى بضائع يتم تقديمها بشكل يغري الناس من أجل تحقيق الربح. وهكذا يبدو أن تعدد وسائل الاتصال وتقدمها وعوض أن يساهم في تفعيل الحوار بين الناس أدى إلى عكس ذلك إلى شلّ التواصل، والعدالة الوحيدة التي تحققت في الحضارة الصناعية ليست عدالة اجتماعية ولا عدالة سياسية بل هي عدالة تساوي كلّ الناس وتماثلهم في وضعية العزلة التي أنتجتها وسائل الاتصال.
و يجب أن نلاحظ أن اللغة أيضا يمكن أن تكون خطرا عندما تكون الكلمة وسيلة للفعل في الآخر وذلك ما يكشف عنه “رولان بارت” عندما أقرّ بأن “اللغة وسيلة تشريعية اللسان قانونها”، بحيث تمارس اللغة إكراها بنيويا يصعب معه التمييز، في عملية التواصل، بين المحتوى والشكل، خاصة وأن كلّ وسيلة تقنية للتواصل لها فعل ارتدادي على الرسالة التي تمرّرها، بل يبدو حسب “ماك لوهان” أن “الرسالة الحقيقية هي الوسيط ذاته”. لذلك فإن تجديد وسائل الاتصال بدءا بالكتابة إلى شبكة الانترنات يؤثر نسقيا في الثقافة والفكر ولذلك تحاول الميديولوجيا اليوم تحليل الوظائف الاجتماعية العليا (الدين/ الفن/ السياسة/ اللغة) في علاقاتها بوسائل النقل والتنقل (وسائل الاتصال) وما تحمله من أفكار تخص مجتمعا من المجتمعات. خاصة وأنّ نمط الحياة المعاصر يتسم بالتكالب على المصالح وبتقديس التقنية ومنتجاتها في غير اكتراث بالبعد الثقافي والروحي للوجود الإنساني. والفعل الذي تولّده هذه الوسائط على الثقافة بصورة عامة، جعل ميشال هنري يقرّ بأن الأمر لا يتعلق بانحطاط القيم الأخلاقية والدينية والثقافية تحت تأثير وسائل الإعلام التي تنشر خطابا رديئا، بل إن الأمر يتعلق بسيرورة تحطيم الإنساني، إذ نشهد تراجعا للإنساني في كل المستويات. للأنظمة الرمزية، إذن، سلطة. إنها تمارس عنفا رمزيا، يولّد حسب بورديو تبعية لا ترى، تبعية تشغل انتظارات جماعية واعتقادات اجتماعية أنتجتها ورسّختها وسائل الاتصال. وفي هذا العنف الرمزي، تتجلى السلطة الرمزية باعتبارها سلطة تكوين المعطى بمجرّد التصريح به، سلطة الفعل في العالم عبر الفعل في تمثل العالم. وتتحقّق في علاقة تنتج الاعتقاد في شرعية كلمات أو شرعية الأشخاص الذين ينطقونها وهذه العقيدة العملية هي حق الدخول الذي تفرضه بطريقة خفية كلّ الحقول الاجتماعية.
IIIأزمة تواصل أم أزمة وسائط:
إذا لم تكن الأنظمة الرمزية وسائط شفافة ووفية بل إنها كوسائط تمارس سلطة، نوعا من الاكراه البنيوي على الذات يعيق التواصل ويستحيل فيها التواصل إلى علامات عبودية، علاقات متسلط بمتسلط عليه، فما هي إذا الشروط التي يجب أن تتوفر من أجل أن يكون التواصل أساس الإنساني أو على الأقل حتى تعي الذات بحدود الأنظمة الرمزية فتتعامل تعاملا نقديا مع هذه الأنظمة أملا في تحقيق تواصل حقيقي بين الناس؟
يرى هابرماس أنه لا يمكن أن نختزل العلاقات التواصلية في تبادل المعلومات، ذلك أنّ الفعل التواصلي ليس مجرّد تبادل لمعطيات بل هو تأويل لما يحدث، إنه تأسيس لقواعد العيش في كنف المجتمع، إنه مساهمة في تركيب العالم الاجتماعي المعيش. وهذا يعني أن التواصل عند هابرماس يشكل الإنساني والبحث في شروط نجاح أو فشل التواصل يمثل لحظة جوهرية في كلّ تفكير في المجتمع وفي العلاقات الاجتماعية. وصلاحية التواصل بالنسبة لهابرماس تقتضي مجموعة من الشروط:
– المصداقية: إذ تمكنني من أن أفترض حسن نية المتكلّم.
– الحقيقة: بما هي قيمة معرفية تمكنني من افتراض غاية الآخر كغاية لا نفعية.
– الحرية: الذي تمكنني من افتراض أن كل قول يقوم على الإقناع والحجة العقلية، بحيث يكون المحاور قادرا على الإقناع بحقيقة القضايا المقدمة.
– الاعتراف بتطابق الأفعال المقترحة مع المعايير السلمية.
لكي تتحقق علاقات تواصلية ايجابية من الضروري أن يكون المخاطب قادرا على التثبت من مختلف نماذج الصلاحية الأنفة الذكر، إذ يجب أن يوجد دائما افتراضا قبليا لهذه الشروط كعناصر حاضرة واقعيا، أو على الأقل افتراضيا إذ نفترض أن هناك إمكانية للمحاججة وهنالك إمكانية للقبول أو الرفض لأنه في غياب هذه الشروط لن يكون هناك فعلا تواصليا. وهابرماس يعترف أنّ كلّ المجتمعات لا تخلو اليوم من ضغط المصالح الذي يولّد العنف والغش تحت تأثير العقل ألأداتي المعرفي، أي مجموع الأنشطة التي تهدف إلى تقوية سيطرة الإنسان على المحيط وتلبية الحاجيات التي يصوّرها في هذا الإطار. ذلك أن المجتمع لا يستطيع أن يستمرّ دون مستوى أدنى من النشاط ألأداتي، وهي نشاطات تولّد مشاكل عندما تكون الخلفية الورائية للمحاور التواصلية، واستراتيجية هذه العقلانية الأداتية تتمثل في التعامل مع الآخر لا كمتقبل فعلي ومحاور ولكن كوسيلة للفعل. وهذا يعني أن هابرماس ينتهي إلى اعتبار الإنتاج مجرّد نشاط ضروري، بل هو أدنى مرتبة وتابع للتواصل بما هو جوهري للإنسان، ولكن العقل ألأداتي ضخّم هذا النشاط الإنتاجي وسوّق له باعتباره الأساسي في الإنسان ممّا حطّ التواصل إلى أدنى مستوياته.
وسيطرة العقل الأداتي تجلت في سيطرة الصورة اليوم كنظام رمزي، فالصورة تتحدّد في معناها الأصلي باعتبارها إعادة إنتاج طبق الأصل، والفلسفة كانت تستبعد الصورة بناءا على التقليد الأفلاطوني الذي يستبعد العالم الحسي ذلك أن الصورة والمفهوم يتقابلان راديكاليا فالصورة في معناها الدقيق تمثل الشكل المحسوس لشيء خاص والمفهوم هو الفكرة الكونية والعامة ولذلك ارتبطت الصورة بالعجائبي والمقدس دوما. أما الوظيفة الترفيهية للصورة فهي وظيفة حديثة، ويجب أن نلاحظ أن هذا التمييز الراديكالي بين المفهوم والصورة راجعته الفلسفة الحديثة وأصبحت الصورة تتقدّم كركيزة ضرورية مثلا لكل فكر علمي، وبهذا المعنى ترافق الصورة الفكر، وبالتالي تمثل رمزا بما أنها لا تؤخذ في ظاهرها بل تحمل على ما تشكله. ففي الذهن لا تمثل صورة ولكن إشارة إلى واقع. ومن هذا المنطلق فإن الصورة ليست انعكاسا بسيطا للواقع تتم قراءتها بشكل مباشر بل إنها عكس ذلك غير مستوعبة مباشرة إذ تفترض جهدا إدراكيا وتأويلا يجعل من الصورة بالفعل واقعا مدركا. وهذا يعني أن الصورة تؤخذ كإشارة إي كأداة تكمن وظيفتها في نقل رسالة ولذلك تعتبر الصورة نظاما رمزيا قائم الذات.
ويلاحظ رولون بارط أن ما يميز مجتمعاتنا المعاصرة هو تنوع أنظمة التواصل وكلها تمثل حوامل أسطورية للتواصل المعاصر. والجمع بين الأنظمة التواصلية يفسح بالنسبة إلى رولون بارط المجال لكشف القدرة التأثيرية للأشكال التواصلية، إذ هي أشكال لها وظائف دالة ضمن نطاق الوضعية التي ترتبط بها، فالعلامات تجمع بين مفهوم وصورة أو بين شكل ومعنى. وكلّ هذه الوسائط تمثل حسب جون بودريار وسائل تخضع المشاهد للإكراه و القصر. فالإنسان المعاصر محكوم بنظم وعلامات تمثل بدائل على الواقع، والتراكم الهائل للصور كبضاعة للاستهلاك جعل غي ديبور يتحدث عن المجتمعات المعاصرة باعتبارها مجتمعات الفرجة، و تمثل الفرجة، عنده، رؤية كلية للحياة، وهي أساسا ترسانة من الصور المؤثرة على المشاهد، مما جعل ديبور يتحدث عما سماه بالاستبعاد المعمم الذي يمثل وجها من وجوه الاغتراب. وهذا الاغتراب له قدرة تأثيرية بالغة تستمدّ من الاساس الاقتصادي بحيث تطوّع الصورة والكلمة لتشكيل الوعي الزائف. إنه تأثير يغري الجموع صنعه مخطط الاقتصاد الليبرالي للتحكم في صفوف الناس وإبعادهم عن مشاغلهم الحقيقية عبر التشبه بسلوك المشاهير والنجوم الذين يتصدرون الفرجات الاشهارية. وبقدر ما تعتمد الفرجة أنواعا من الصور الباهرة وأشكال الترفيه المغرية، يتحول الإنسان المستهلك للسلع إلى مستهلك للأوهام، والصورة التي كانت في الأصل تبلغ الدلالة وتحدث التواصل تحوّلت إلى عنصر تأثير مفسد للتواصل الحقيقي ومعطّل للحوار بين الثقافات