اليسار الجديد عند هربرت ماركيوز…
ـ عصام موخلي
عن موقع مجلة انفاس
هدفنا من هذا المقال تبيان الدور الذي لعبته الحركات التحررية في بلدان العالم في القرن الماضي، والآمال التي عقدت عليها في خلخلة القوى الرأسمالية سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي- الاقتصادي. الجدير بالذكر في هذا السياق أن اليسار الجديد مفهوم ظهر مع هربرت ماركيوز للدلالة على القوى الجديدة التي عوضت البروليتاريا المعارض التقليدي للنظام الرأسمالي، لأنه يعتقد أنها لم تعد قادرة بعد على ممارسة التفكير السالب في الشروط المعاصرة، نظرا لما طالها من وسائل التدجين والاحتواء، إلا أنه لا زال متفائلا إلى حد كبير بالقوى الرافضة التي لم تستطع الاديولوجية القائمة احتوائها، لأنها أصبحت جزءا من النظام القائم، وتخلت عن دورها التاريخي منذ أن قبلت الاشتراك في اللعبة البرلمانيةle jeu parlementaire .
من هذا المنطلق تصبح القوى النافية الجديدة هي التي لم تندمج بعد في إطار هذا النظام العام، والتي لم تنطو داخل مؤسساته السياسية، برفضها الاشتراك في قواعد اللعبة البرلمانية المعمول بها في النظام القائم. ويعبر ماركيوز عن خصائصها فيقول:” وهذه المعارضة غير مزودة بأساس طبقي تقليدي، وهي تتراءى كأنها عصيان سياسي، وغريزي، وأخلاقي دفعة واحدة: تلك ملامح “غير مستقيمة” تكيف استراتيجيتها وتمدد ساحة عملها، وهي لا توقر الديمقراطية الليبرالية ولا البرلمانية القائمة، وتحمل على جملة تنظيم المجتمع”[1] .
فهروب اليسار الجديد la nouvelle gauche من العملية السياسية له ما يبرره، على المستويين النظري والعملي، فعلى المستوى النظري يعتبرها عملية ملغومة على اعتبار أن مشاركته فيها ستكون شكلية فقط، وعلى المستوى العملي أنها لا تلبي مطالبه الحياتية الضرورية على اختلافها. لذلك فهو ينفر منها كليا وينتفض ضدها كلما وجد إلى ذلك سبيلا: فيرفض التنظيمات الحزبية، واللجان، أو لنقل الدائرة السياسية بكاملها. لأنه يطبع ” بطابع نفرة قوية من السياسة التقليدية: من نظام الأحزاب كله، واللجان، وفئات الضغط على جميع المستويات، ومن الإسهام في هذا النظام وهذه الطرائق، هذه الدائرة السياسية، أو هذا الجو السياسي، وضع برمته موضع اتهام، فما لتصريح يمكن أن يدلي به أولئك السياسيون، والممثلون، والمرشحون، أية قيمة في نظر المتمردين، إذ يستحيل على هؤلاء أن يأخذوه مأخذ الجد” [2] .
صحيح أن الصراع في المجال السياسي يكون مفصولا عن الطابـــع الأخـــــلاقي le caractère éthique ، إلا قليلا، لذلك يعتبر ماركيوز أنه بالرغم من قوة النظام السياسية المسيطر على أركان الدولة، إلا أنه في مقدور اليسار الجديد من داخله أو من خارجه مقاومة كل المعاملات السيئة واللاأخلاقية التي سيتلقاها من جراء معارضته، ومؤكدا في نفس السياق، على أن الخيار ليس خياره، لأن المنظومة القمعية هي التي تضطره إلى أن يسلك هذا الطريق الشاق، بحيث يقول: “…رغم أنهم يعرفون حق المعرفة أن ذلك سيعرضهم لسوء المعاملة والسجن، وخسران عملهم. وحيث أنهم ليسوا من محترفي الاستشهاد، فهم يفضلون، ولا شك، أن لا تساء معاملتهم، وأن لا يدخلوا السجن، ولا يخسروا عملهم، إلا أن أمرهم ليس خيارا بالنسبة لهم”[3] .
ومنه يتضح أن دائرة اليسار الجديد تتسع لتشمل حتى البروليتارية نفسها، بالمعنى التقليدي لها، على اعتبار أن ماركيوز لم يترك عنصرا معارضا إلا وأدخله في تصوره الرافض للسيطرة على الإنسان، فالقاسم المشترك بينهم أنهم طبقة محرومة من الامتيازات داخل الحضارة القائمة.
فهذه الطبقة السفلى بتعبير ماركيوز تضم، المنبوذين والمضطهدين، والمقهورين من الأجناس والألوان الأخرى، والأقليات المنبوذة، والعاطلين عن العمل، والعمال البسطاء داخل أو خارج النظام الرأسمالي، والعاجزين … إنهم يوجدون خارج نظام الامتيازات التي يمنحها المجتمع القائم لمن يدافعون عنه، عن قصد أو عن غير قصد، وطبيعة حياتهم تشكل أكثر الحاجات المباشرة والواعية لإنهاء الأوضاع والظروف التي لا تطاق. ومن ثم فإن معارضتهم ثورية حتى وإن لم يكن وعيهم كذلك. يقول ماركيوز:” من الواضح اليوم أن اكتساحات الرأسمالية لا يمكن أن تصمد داخل هذا الإطار القمعي: النظام لا يمكن أن يتطور بتدمير القوى الإنتاجية والحياة الإنسانية بعينها، وهذا على المستوى الدولي، يمكن القول إن الرأسمالية خلقت مبدئيا نفيها الذاتي”[4].
ولا أدل على ذلك، الأوضاع الصعبة التي تعيشها هذه الجموع على جميع المستويات الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، من جراء عدم التوزيع العادل للثروات الوافرة التي تساهم في إنتاجها بشكل يومي في مختلف القطاعات الرأسمالية، زد على ذلك، أنها لا تحصل على امتيازات من داخل النظام الذي لا يمنحها سوى المزيد من الفقر والإهمال والعمل المستلب. على هذا الأساس، تزداد الفوارق الطبقية شيئا فشيئا، بحيث يصبح الفرق شاسعا لدرجة لا يمكن ردمه. لدى هذه المستوى يحتقن الوضع، فتصبح لهذه الطبقات القابلية للانفتاح على أشكال ثورية مختلفة، ذلك أن التباين الصارخ بين الطبقة صاحبة الامتيازات وبين الذين يقع عليهم الاستغلال يؤدي إلى تثوير المحرومين من الامتيازاتles privilèges.
تلك إذن هي معادلة الثورة عند ماركيوز، على اعتبار أن طبيعة نظام الاستهلاك هو الذي يحدد مدى انتماء هذه الطبقات المحرومة على اختلاف درجات تباعدها من النظام القائم ومن إيديولوجيته الاستهلاكية المسيطرة ومن امتيازاته الوهمية. ومن هنا يأتي وعد التحرر الذي يمكن أن تحققه هذه القوى السالفة الذكر، خاصة وأن تنميط المجتمع الاستهلاكي لم يشملها، وإن شملها لم يغير من طبيعتها الرافضة للاستغلال بمختلف تمفصلاته. أما الطبقات التقليدية التي عزت إليها النظرية الماركسية مبادرة التحرر، فإنها في ظل التكييف المستمر لنمط حياتها نزعت نحو الاندماج، ورضيت بالامتيازات التي قدمها لها المجتمع الصناعي المتقدم، في هذا السياق يأتي قول ماركيوز: “وإذا كانت “البروليتاريا أو القوة التقليدية للثورة فقدت ثوريتها لأنها أصبحت جزءا من النظام القائم، وتخلت عن دورها التاريخي منذ أن قبلت الاشتراك في اللعبة البرلمانية، فإن القوى النامية تصبح هي القوى التي لم تندمج بعد في إطار هذا النظام، والتي لم تنطو داخل مؤسساته السياسية، والتي ترفض الاشتراك في قواعد اللعبة البرلمانية”[5].
هكذا فهذه القوى الجديدة بالنسبة له، ولأنها تعيش خارج المجتمع وعلى هامشه وغير مندمجة بشكل كامل في منظومة الاستغلال، فإنه لم يشملها التنميط الذي ساد أعضاء المجتمع القائم، كما أنها لازالت قادرة على مفاجأة المنظومة القائمة بأساليب ثورية جديدة، وأكثر فعالية، على اعتبار شدة القهر الذي يمارس عليها يوميا وبأشكال مختلفة، بالإضافة إلى أن الوضع السياسي والاجتماعي لا يسمح لها بالتعبير عن نفسها، كل هذا وأكثر، يجعلها ثورية في طابعها، وأكثر فاعلية من الطبقات الأخرى التي شملها التنميط وقضى على أسس فكرها الناقد، وشل حركتها في ممارسة البراكسيس المترتب على النقد النظري. لذلك يضع ماركيوز ثقته في قدرة الحركية الطلابية، والزنوج من سكان الأكواخ، وجبهات التحرير وغيرها من القوى التي تتحدد سلبا أمام الرأسمالية.
والظاهر أن الرجل بتحوله عن طبقة البروليتارية كعامل مهم للتحرر واتجاهه صوب الجماعات المنبوذة والطلبة على الخصوص، تحول مشروع يسعى من خلاله إلى البحث عن السند النظري الثقافي والفكري الذي يحرك عملية التحرر، فلا تكفي مظاهر الاحتجاج والتمرد المعزولة، بل إن إنجاح فعل التحرر متوقف على توافر الشروط والعوامل الفاعلة، من عقل وخيال، وفن، ووعي… ، وبالرغم من أن هذه العناصر تضل مجرد عوامل ذاتية تشكل الأرضية الخصبة للانتقال إلى العوامل الموضوعية؛ أي وجود القابلية والشروط الفعلية للتحرر.” فالثورات التاريخية قد كانت عموما موافق عليها، وتمت باسم الحرية، أو بالأحرى باسم الحرية العظمى la liberté souveraine من أجل طبقات متعددة من الشعب … الحرية الإنسانية ليست حالة جامدة، ولم تكن قط كذلك، إنها مسلسل تاريخي يستلزم التغيير الجدري، وكذلك نفي الحياة المؤسسة من قبل”[6].
والملاحظ من كل هذا، أن حركة اليسار الجديد لا تتناسب تماما، من حيث قوتها، مع حجم الخصم الذي تواجهه والذي يتمثل في أيديولوجية المجتمع القائم. وبالرغم من ذلك فبإمكانها التعبير عن ذاتها وتحقيق مطالبها المشروعة من كل شيء، والدليل هنا هو الحركات التحررية في التاريخ نسوق هنا مثال، حركة الحقوق المدنية* civil- rights movement التي سادت في أمريكا في القرن الماضي، فقد حققت مكاسب لا زالت قائمة إلى الآن بفعل النضال الثوري، ولا أحد يمكنه أن يجادل في ذلك، في هذا السياق يقول توم بوتومور: “فدراسة حركات الناس الفقراء في الولايات المتحدة الأمريكية، تؤدي إلى استنتاج بأن النفوذ الذي امتلكته كان مستمدا من الاحتجاجات الجماهيرية أكثر من المساهمة في السياسة الانتخابية،(…) وتجادل دراسة حديثة في التقدم الاقتصادي للأمريكان السود بأنه تحت ضغط حركة الحقوق المدنية وثورة الغيتو في الستينات*، استطاع السود الحصول على إمكانيات جديدة للاشتغال في الأعمال، والحكومة، ووسائل الأعلام، ووظائف عالية الأجور في الحرف التي تتطلب المهارة”.[7] وفي سياق متصل، يبرز ماركيوز كيف ناضل الطلبة ضد الإدارة الجامعية بخصوص مسألة الحرب على الفيتنام*، فيقول:”… الطلبة، أكرر ذلك، قد ناضلوا فيما يسمى ” حركة الحقوق المدنية ” وضد الحرب في الفيتنام،(…). إذ شنوا معركة ضد الإدارة الجامعية، لأن هذه المنظمة اشتركت في الحرب على الفيتنام من خلال بحث عسكري. هل تظن بأن الأمر يتعلق هنا بارتكاسات نقابية لنخبة ما؟ إذا كنت تعتقد بأنه ليس هناك أدنى مصلحة عامة، يجب جدا بأن تدقق معنى الكلمات”[8]
في هذا السياق، لا يجب أن ننسى أن هذه الحركات التحررية قد تنفتح على مجموعة من الأشكال الثورية العنيفة للتعبير عن حجم الظلم الاجتماعي الذي لحق بها من جراء هذه القوة المتعاظمة. الواقع أن هذه الأشكال التعبيرية العنيفة لا تشكل مشكلة طالما أنها موجهة نحو الطغيان والجور، فيقول ماركيوز على لسان روبير بيير*:” روبير بيير يطالب ” بجور الحرية l’iniquité de la liberté ” ضد الجور والطغيان، في المكافحة من أجل الحرية، لمصلحة الجماعة ضد المصالح الخاصة للظلم، الرعب يمكن أن يصبح ضرورة وواجب. العنف الثوري يظهر هنا ليس فقط كوسيلة سياسية بل كواجب أخلاقي.”[9] وهذا لا يعني بطبيعة الحال الراديكالية في التغيير، بحيث تحاول القوة الثورية تبديل النظام جملة وتفصيلا، فهذا خطأ في نظرية الثورة بالنسبة لماركيوز يجب أن يصحح، لأنه يعتقد أن المؤسسات القائمة. وبالرغم من أن “سياستها السيئة خطر الانقلاب عليها جسيم جدا. ديكارت المفكر الثوري الكبير، كان جد محافظ فيما يخص ” الهيئات العمومية: الشك لا يجب أن يمسها، يجب أن تظل على حالها في نفس الزمن، فالفلاسفة قد استهوتهم فكرة قبول الثورة في حالة ما إذا نجحت”[10] .
ورغم ذلك، فماركيوز يبدو متفائلا بحركات الشباب، بحيث يقول: ” اليوم نجد انتفاضة المنورة من الشباب، تطالب قبل كل شيء في عملها السياسي، بالاعتراف بقيمة الخيال والحقيقة. وحركتها برمتها إنما تطور أشكالا سريالية من الاحتجاج الرافض*. وربما كان هذا التطور، الطفيف بمعناه ظاهرا، علامة تغير أساسي في الوضع.”[11] ويحاول ماركيوز، إيجاد سند إيديولوجي يغذي حركة اليسار الجديد، فهي مع كونها متأثرة بالماركسية بشكل كبير، إلا أنها تستوحي أفكارها أيضا من حركات التحرر في العالم الثالث، “وإلى جانب تأثر حركة اليسار الجديد بالفوضوية، والماوية، والماركسية، يجب ألا نغفل خطورة الدور الذي لعبه أيضا انتصار الثورة الكوبية، ومقاومة الشعب الفيتنامي الواضحة للعدوان الأمريكي، فقد مكنت هذه الأحداث اليسار الجديد من أن يشعر بحدة وعمق الأزمة التي يمر بها المجتمع البرجوازي، برهنت على أن إحداث تغييرات راديكالية في المؤسسة البرجوازية ليس أمرا مستحيلا”[12] .
من هنا يمكن أن نخرج بفكرة الثورة عند ماركيوز: فهي سقوط البنى الثقافية والاقتصادية والاجتماعية، أو تحويرها لصالح القوة الثورية، يقول:” أريد أن أقول ماذا أعني ” بالثورة”: سقوط حكومة أو مؤسسة مبنيتان من طرف طبقة اجتماعية أو حركة هدفها هو تحويل البنية الاجتماعية والسياسية. هذا التعريف يستثني ثورات القصر، وضد الثورات ” الوقائية” (مثل الفاشية والاشتراكية الوطنية)، لأنها لا تغير البنيات الاجتماعية الأساسية”[13].
على هذا الأساس، يراهن ماركيوز على سواعد اليسار الجديد من حيث كونه حركة فكرية وثقافية، فالتغيير يبدأ بتغير الأفكار السائدة، واستبدالها بأخرى أكثر ملائمة للمرحلة، لإيمانه بضرورة التغيير الاجتماعي، وبإمكانية تجاوز التناقضات القائمة في المجتمع الصناعي، وخلص إلى أن مهمة التحرر في المرحلة المعاصرة مرهونة في يد الفئات التي لم يشملها الاحتواء من طرف النظام القائم، وهو ما اصطلح عليه باليسار الجديد. ووصفهم كالتالي:” إنهم بدورهم مضطهدون، هامشيون، لا تلوثهم حياة المجتمعات الصناعية المتقدمة، ولم يلتزموا بعد بقيمها التجارية الانتهازية. فالطلبة، بكل ما يقومون به من حركات متمردة، ليسوا هم القوى الثورية ذاتها، كما أن الشباب الثائر على التقليد، من أمثال الهبيز وغيرهم ليسوا خلفاء البروليتاريا وورثتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وإنما يكشفون بسلوكهم عن رفض المجتمع القائم ورفض التمتع بمزايا الوفرة التي يقدمها هذا المجتمع، وكذلك رفض قيمه التجارية وإحلال قيم الحب والجمال محلها”[14].* ” كما قضى هؤلاء المناضلون على فكرة الإيديولوجية القائمة وكشفوا عن زيفها وفسادها وطبيعتها. ولا يهم في رأي ماركيوز ما إذا كان تمردهم ثورة ناجحة أم ثورة مجهضة. فهم يمثلون فقط نقطة تحول، إذ يعلنون مبادئ ” المعارضة الدائمة” “التربية الدائمة” و ” الرفض الكبير،” فإنهم يعترفون ضمنا بالطابع القمعي للمجتمع القائم، ذلك المجتمع الذي ينبغي إدانته وتحويله من الجذور”[15].
هكذا، فإن مطالبة الشباب المثقف والطلبة بالاعتراف، قبل كل شيء بقيمة الخيال والحقيقة تشير إلى تغيير أساسي في موقف الإنسان المعاصر، ذلك لأن هذه المطالبة تؤكد لأول مرة أهمية مطالبهم كبعد سياسي في جوهرها، وليست مقتصرة على المجال الجمالي فقط. فالخيال هنا يحاول أن يردم الهوة بين الحس والعقل، ليصبحا قوة محركة لإعادة البناء ولا يصبح العلم والتكنولوجيا في خدمة الاستغلال والتدمير.
لم يعول ماركيوز فقط على القوة الكامنة في تلك الفئات التي أشرنا لها فقط، بل حاول ربطها بفئات أخرى ومن عالم مختلف، لكنها لا تقل أهمية عنها، أي القوة الرافضة الكامنة في بلدان العالم الثالث. صحيح أن ماركيوز لم يخصص لبلدان العالم الثالث عملا مستقلا بعينه، كل ما نجده هو بضع مقاطع هنا وهناك في مقالاته المتأخرة، ويرجح الدارسون سبب هذا الاهتمام إلى” الهزة الحقيقية التي زعزعت أركان المجتمع الرأسمالي كانت ثورات التحرر التي نشبت في بلاد مختلفة: فالتغيير الذي أحدثته ثورة الجزائر في فرنسا، والذي أحدثته ثورة فيتنام في فرنسا أولا ثم في قلب الولايات المتحدة الأمريكية، قلعة الرأسمالية الكبرى في العالم المعاصر، كان تغييرا هائلا لا تزال أثاره تتكشف يوما بعد يوم حتى في المجالات التي تبدو بعيدة الصلة عن المجال العسكري المباشر”[16].
فالقوة الثورية الكامنة في حركات التحررية الوطنية في العالم الثالث لها قواسم مشتركة مع الفئات الأخرى. فهؤلاء يشتركون مع الفئات الأخرى من حيث كونهم جميعا يتقاسمون مكانة واحدة، ” فثوار العالم الثالث أيضا مضطهدون، هامشيون، لم تلوثهم حياة المجتمعات الصناعية المتقدمة، ولم يلتزموا بعد بقيمتها التجارية الانتهازية. “[17] ولعل ما يعاب على ماركيوز من قبل الدارسين هو أنه جمع القوة الثورية في بلدان العالم الثالث على اختلاف مرجعياتها الفكرية ومدى اندماجها في النظام العالمي، ومستوى نموها الاقتصادي وطبيعة نظامها السياسي على صعيد واحد، معتبرا أن هناك وحدة موضوعية هي التي توحد بين الشباب والطلبة وحركات التحرر في بلدان العالم الثالث،” وعلى أية حال لم يعد هناك أدنى تعارض بين الاهتمام بالشباب والاهتمام بالثورات التحررية في العالم الثالث، إذ أن الشباب أنفسهم في البلاد الصناعية المتقدمة، قد تبنوا قضية التحرير، وثاروا على رغبات الشباب حين جعل أمل الإنسانية في التحرير معلقا بثورات المجتمعات المختلفة”[18].
وهكذا، فهذه الحركات التحررية في هذه البلدان تشكل تهديدا خارجا حقيقيا للنظام الرأسمالي، وتشكل الفئات المهمشة داخل هذا النظام قوة في الحد من غلو هذه القوة المتعاظمة، وهنا يأتي الجمع بين هاتين القوتين لمواجهة هذا النظام، بحيث” إن حركات التحرير في العالم الثالث، وحدها التي تكافح اليوم كفاحا ثوريا، في رأي ماركيوز، بل هو يعود فيؤكد أن حركات الشباب والطلبة رغم أنها خميرة الأمل إلا أنها لا تستطيع أن تفعل شيئا دون نجاح حركات التحرير في العالم الثالث. وهكذا ربط ماركيوز حركات الشباب والطلبة بثوار العالم الثالث، فرأى أن نجاح معارضة الطلاب يتوقف على الاستفادة من نجاح حركات التحرير في العالم الثالث ومن انتصاراتها الثورية. وهنا ألقى مسؤولية النضال ضد الرأسمالية على ثوار المعسكر الثالث، بالدرجة الأولى، ثم يأتي دور قواه الثورية الأخرى التي تعيش داخل المعسكر الرأسمالي نفسه”[19].
ويلخص ماركيوز هذا الجمع الذي تم في اليسار الجديد في فقرة من كتابة المعنون ب” نحو ثورة جديدة قائلا:” الأمر إذن أمر عصيان أخلاقي، بمقدار ما تتوجه الانتفاضة ضد مجتمع يقوم فعلا بوظائفه، مجتمع مزدهر و ” ديمقراطي” وهذا العصيان يصوب سهامه إلى الرياء والروح العدواني، وقيم هذا المجتمع وأهدافه، وديانته التجذيفية، وكل ما يأخذ مأخذ الجد، وجميع المبادئ التي يدعي أنه يحترمها، وينتهكها على الدوام”[20] . هكذا، يضعنا ماركيوز أمام الإمكانات المتعددة للتحرر، والتي من المحتمل أن يقودها أناس يعيشون على هامش هذا المجتمع ولا يتقاسمون مع مستبديه خيراته.
في اعتقادنا أن تحليل ماكيوز يبقى صالحا غير ذي عوج من أجل تحليل جزء ليس بيسير من ثورات الربيع العربي، خصوصا أن هناك قواسم مشتركة عديدة، على سبيل المثال: دور الطلبة والطبقات المهمشة بمختلف أشكالها في هذه الثورات، وأهميتهما في تغيير موازين القوى على الأرض، ثورة مصر نموذجا. الأمر الذي يفتحنا على أهمية تصور ماركيوز بخصوص دور اليسار الجديد في الثورة …
نشر بموقع مجلة انفاس يوم السبت, 01 مارس2014
=================
[1] . هربرت ماركيوز، نحو ثورة جديدة، ترجمة عبد اللطيف شرارة، دار العودة، بيروت، 1971، ص. 105.[2] . المصدر نفسه، الصفحة ذاتها.
[3] . هربرت ماركيوز، نحو ثورة جديدة ، مصدر سابق، ص . 106.
[4]. Herbert Marcuse , Actuels, éditions Galilée, Paris, 1976, p .26
[5] . حسن محمد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ماركيوز نموذجا، دار الوفاء لدنيا للطباعة والنشر، مصر، الطبعة الأولى، 2001، ص. 205. [6]. Herbert Marcuse: Culture et la société, traduit de Gérard Billy, Daniel Beresson et Jean – baptiste grasset, les éditions de Minuit, 1970, p . 300
. *حركة الحقوق المدنية هي حركة اجتماعية في الولايات المتحدة كان هدفها تجريم التمييز العنصري ضد الأمريكيين الأفارقة وإعادة حق التصويت لهم. كان أبرز نشاط لهذه الحركة بين عامي 1955 و 1968 وعلى وجه الخصوص في جنوبي الولايات المتحدة.
– عن موقع موسوعة : http://ar.wikipedia.org/
* . ثورة قادها اليهود في بولندا ضد النازيين في ستينات القرن الماضي، انتهت بمجازر فضيعة.
[7] . توم بوتومور، علم الاجتماع السياسي، ترجمة وميض نظيمي، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت الطبعة الأولى، مـارس 1986، ص. 124
* . حرب فيتنام أو الحرب الهندوصينية الثانية، كان نزاع بين جمهورية فيتنام الديمقراطية ( فيتنام الشمالية)، متحالفة مع جبهة التحرير الوطنية، ضد جمهورية فيتنام، (فيتنام الجنوبية)، مع حلفائها (وكانت الولايات المتحدة الأمريكية إحداهم) بين 13 سبتمبر 1956 و17 يونيو 1975.
* . روبير بيير: صحفي أمريكي حقق شهرة واسعة تزامنت مع وجود هربرت ماركيوز في كاليفورنيا حيث كان يشتغل في إذاعة الراديو…
[9] . Herbert Marcuse :Culture et la société, op, cit, p. 229 [10] . Ibid, p . 298
* . السريالية : Surréalisme أو الفواقعية أي “فوق الواقع” وهي مذهب فرنسي حديث في الفن والأدب يهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق وحسب مُنظهرها أندريه بريتون: فهي آلية أو تلقائية نفسية خالصة، من خلالها يمكن التعبير عن واقع اشتغال الفكر إما شفويا أو كتابيا أو بأي طريقة أخرى، وهي “فوق جميع الحركات الثورية”. إذن فالأمر يتعلق حقيقة بقواعد إملائية للفكر، مركبة بعيدة كل البعد عن أي تحكم خارجي أو مراقبة تمارس من طرف العقل و خارجة عن نطاق أي انشغال جمالي أو أخلاقي و قد اعتمد السرياليون في رسوماتهم على الأشياء الواقعية تستخدم كرموز للتعبير عن أحلامهم و الارتقاء بالأشكال الطبيعية إلى ما فوق الواقع المرئي.و قد لقيت المدرسة السريالية رواجا كبيرا بلغ ذروته بين عامي 1924-1929 و كان آخر معارضهم في باريس عام 1947. ومن أهم أقطابها الفنان الإسباني سلفادور دالي (1904-1989). ومن بعض أعماله الفنية “الخلوة”، “تداعي الذاكرة”، “الآثار” و”البناء”.
– عن موقع موسوعة. http://ar.wikipedia.org/
[11] . هربرت ماركيوز، نحو ثورة جديدة، مصدر سابق، ص.57
[12] . حسن محمد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ماركيوز نموذجا، مرجع سابق، ص. 212.
[13] . Herbert Marcuse , Culture et la société, op, cit, p . 296
[14] . فؤاد زكرياء، هربرت ماركيوز، دار الوفاء لدينا الطباعة والنشر، الإسكندرية، الطبعة الأولى،2005 ، ص. 65.
* أحيل القارئ، إلى كتابان هامين يبسط فيهما هربرت ماركيوز تصوره حول الفن واليوتوبيا، والذين يدخلان ضمن تصور للتحرر.
– Marcuse Herbert, La Dimension Esthétique, pour une critique l’Esthétique Marxiste, Traduit de l’ Anglais, Par Didier Coste, éditions du seuil, Paris, 1979.
-Marcuse Herbert, la fin de L’Utopie, éd, de seuil, Paris, 1968
[15] . حسن محمد حسن، النظرية النقدية لمدرسة فرانكفورت، ماركيوز نموذجا، مرجع سابق، ص. 208
[17] . أحمد قيس هادي، الإنسان المعاصر عند هربرت ماركيوز، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى، 1980ص .164.
[18] . فؤاد زكرياء، هربرت ماركيوز، مرجع سابق، ص. 66.
[19] . قيس هادي أحمد، الإنسان المعاصر عند هربرت ماركيوز، مرجع سابق، ص. 164.
[20] . هربرت ماركيوز، نحو ثورة جديدة ، مصدر سابق، ص.106