أيّ مستقبل لـ “الإسلام الحزبي”؟
عن التجديد العربي
الاثنين, 21 أبريل 2014
في غمرة الشعور بالانسداد الحادّ الذي وصلته تجربة “الإسلام الحزبي”، في البلاد العربية والإسلامية، وخاصة في تجلياتها الثلاثة الغلاّبة: العنف التكفيري المسلح، الإمعان في إقحام الدين في العمل السياسي والصراع على السلطة،
الفشل الذريع في إدارة سلطة الدولة من قبل التيارات “المعتدلة” في “الإسلام الحزبي”، ربما يخامر البعض سؤال عن إمكان بروز “إسلامٍ سياسي” مختلف، على مثال “الإسلام السياسي” التركي – ممثلاً ب”حزب العدالة والتنمية” – حيث درجة الصلح مع العلمانية والحداثة عالية جداً، وبما لا يقاس بعلاقة الإسلاميين الحزبيين العرب بهما السؤال مشروع من وجوهٍ عدة لعل الأظْهَرَ فيها وجهان: أوّلهما أن حال “الإسلام الحزبي” العربي، والإسلامي، بلغت حداً من الاستنقاع لم تعُد الناس، بإزائها، تخشى على دنياها وعلى حرياتها ومكتسباتها المدنية الحديثة، فحسب، بل باتت تخشى على دينها السّمح من تشدُّدٍ ومغالاة وتَعَصُّب، غير مسبوقة، تهدد جوهره بالتقويض! وفي مثل هذه الحال من البرم والسوداوية واليأس، تنبعث – عادة – أسئلة المُرْتَجَى من نوع هذا السؤال عن إمكان ميلاد “إسلام سياسي” جديد . وثانيهما أن التجربة الإسلامية التركية الجديدة أثبتت أنها اهتدتْ إلي قرانٍ ناجح بين الإسلام والعلمانية، بين الإسلام والحداثة، وأن تنظيماتها الحزبية (“حزب الرفاه”، “حزب الفضيلة”، “حزب العدالة والتنمية”) كانت مقنعة، لقطاع واسع من الشعب التركي وقطاع واسع من الرأي العام في العالم، بأنها حاملة لمشروع سياسي واجتماعي لا يُصَادِمُ الدين بالدنيا، ولا الإسلام بالحداثة، وإنما يؤلّف بينهما من غير تلفيق .
كان يمكن مثل هذا السؤال أن يبنى على مثالٍ عريقٍ في الدمج الفذ بين مبادئ الدين وقواعد السياسة، من غير تخليط، هو مثال الأحزاب الديمقراطية المسيحية في ألمانيا وإيطاليا وبعض أوروبا، خاصة بالنظر إلى ما تحصل في تجارب الديمقراطية المسيحية من تراكم في مجال التوليف التركيبي بين الديني والسياسي فيها . غير أن بناءه على المثال التركي ذو دلالة كبيرة لا سبيل إلى تجاهلها؛ فإلى أنه يبني على مثال من الدائرة الإسلامية تتبدد معه تنميطات غربية لإسلام “سياسي” كلاني “أفغاني أو سوداني أو إيراني . .)، ويعزز بذلك المثال الإسلامي (التركي) فرضية إمكان قيام “إسلام حزبي” عربي يحتذي المثال ذاك، فإنه يتميز نفسه – في الوقت عينه – من نموذج غربي لا تُدْرك تجربة الحزبيات الديمقراطية المسيحية فيه إلا من طريق فهم أدق لخلفياتها التاريخية وسياقاتها المعاصرة؛ التجربة التاريخية الخاصة للعلاقة بين الدولة والدين، السياسي والديني في أوروبا، العلمانية الحديثة ومكتسباتها السياسية؛ الدولة الوطنية الحديثة في الغرب وقيم الديمقراطية الحاكمة لها . . .إلخ .
السؤال مشروع، من هذه الزاوية بالذات، ومبرر تماماً إن كان معيار المشروعية (هو) حقل السؤال (المثال الغربي أو المثال الإسلامي المطلوب احتذاؤه أو بناء المقارنة عليه) . ولكن المعيار نفسه قابل لأن يُحَكَّم تحكيماً على المثال الإسلامي التركي نفسه، أي لأن يُؤخَدَ مقياساً لعيار مدى إمكان التفكير في ميلاد “إسلام سياسي” عربي على المثال التركي؛ ذلك أن المشترك الديني والتاريخي بين التجربتين السياسيتين، التركية والعربية، ليس يكفي لتأسيس سؤال الإمكان عليه، إن كان يكفي لإبطال شرعية بناء السؤال (عينه) على الخبرة التاريخية الغربية للحزبيات الديمقراطية المسيحية، بما هي خبرة غير مطابقة، ولا مناسبة، للعَوْد إليها مرجعاً أو متكأ . أما مبرر التحفظ في بناء فرضية إمكان الميلاد على المثال التركي فيكمن في أن لهذا المثال سياقات تاريخية: سياسية وثقافية، نشأ فيها وتطور وارتسمت ملامحه وقسماته في نطاق معطياتها، وأن السياقات تلك لم تكن مما شهدته التجربة العربية الحديثة والمعاصرة، ولا مما تولد منه كيان الحركات الإسلامية في الوطن العربي؛ هذه التي تخلقت أفكارها ومؤسساتها من شروط تاريخية – سياسية وثقافية – أخرى مختلفة .
إن بناء سؤال إمكان ميلاد “إسلام سياسي” عربي على المثال التركي (على مثال “حزب العدالة والتنمية”)، وأياً يكن موقف المرء من هذا المثال، ومن مدى شرعية تنزيله منزلة النموذج، يصطدم بحقيقتين لا سبيل إلى تجاهلهما، أو إلى إنكار ما تعنيانه من اختلاف؛ أولاهما أن الحركة الإسلامية التركية (منذ “حزب الرفاه” حتى “حزب العدالة والتنمية”) سليلة حركة إصلاحية إسلامية عرفتها تركيا العثمانية منذ القرن التاسع عشر، ولم تقطع معها بقدر ما استعادتها؛ منذ الخمسينات من القرن العشرين الماضي . وهذا مما يختلف، جذرياً، عن تجربة “الإسلام الحزبي” العربي الذي آذن ميلاده – منذ عشرينات القرن العشرين – بقطيعة حاسمة مع منظومة أفكار الإصلاحية الإسلامية النهضوية للقرن التاسع عشر! بل وبانقلاب شامل عليها . وثانيهما أن الحركة الإسلامية التركية نَمَت في حضن الحداثة العلمانية، وتشبعت بقيمها لعشرات السنين، فيما نما “الإسلام الحزبي” العربي في كنف النظم الاستبدادية والتسلطية، وفي مناخ انحطاط الثقافة الدينية وسَرَيان قيم الحق المزعوم لتدخل المؤسسات الدينية في الحياة الخاصة والعامة (ومنها الحياة السياسية) . وعلى ذلك فالمقارنة ليست تجوز؛ وقديماً قال الفقهاء: لا قياس مع الفارق .