انغلاق النص التشريعي خدعة سياسية وكذب على التاريخ
حوار حول النص والاجتهاد والمساواة
محمد العمري
مساهمةً في إرجاع قطار الحوار في قضية المساواة بين الرجل والمرأة إلى سِكته نفتحُ أمام القراء نافذةً يُصر الدينسيون (من يخلطون الدين بالسياسة، وهي المقابل الدقيق للعلمانية) على غلقها بإشهار مقولة: «لا اجتهاد مع النص». يشهرون هذه الورقة سعيا منهم إلى شل حركة محاوريهم من الحقوقيين اليساريين والليبراليين. فمن أجل هذا الهدف يَبتذلون عن عند (أو جهل) مفهوم النص، ويتعمدون تجاهل حقائق التاريخ. وهذا ما سنحاول إزاحة الغبار عنه خدمة لأولي الأبصار من طلاب المعرفة. نفعل هذا بعدَ أن أدانت المحكمة الانحرافَ بالحوار إلى شعاب التكفير والقذف ومَهاويهما.
تقديم: مفهوم النص
هناك مفهومان للنص في المجال الذي يهمنا، وهما:
1ــ المفهوم العام، بل العامي، الذي تُقصد به آيةٌ، أو آياتٌ من القرآن، أو حديثٌ صحيح من أقوال الرسول ص. وفي هذا المفهوم يكون التركيب اللغوي مقطوعا عن سياقات تشريعية وبلاغية كثيرة ضرورية لتوجيه معناه الوجهةَ الصحيحة، أو المُثلَى.
هذا هو المعنى الذي يستعمله المسفسطون من الدينسيين لفرض ما يخدم أهدافهم السياسية، ويقمع غير العارفين بالمفاهيم الأصولية من مخالفيهم. وهو المفهوم الذي يتحذلق به الخطباء الدينيون من أعلى المنابر، ويتراشق به أشباه الأميين من السياسيين، وينقله عنهم المعلقون التائهون على الشابكة (النيت) بدون فهم. يُرهِبون المسؤولين السياسيين بِـعبارة خادعة: «تحريم ما أحل الله، وتحليل ما حرمه»، والحال أن بابَ الاجتهاد مفتوح للاختيار في كل ما يخص المعاملات وتنظيم الحياة داخل المقاصد العليا للدعوة الإسلامية.
2 ــ المفهوم الخاص، أو الخاصي، وهو التركيبُ اللغويُّ (أو الملفوظ) المُحصَّنُ بسياقات مختلفة ترجحُ مساره في اتجاه يصبح فيه حجة، والبلاغيون ومناطقة القيم يعلمون معنى الحجة (argument). وهذا هو المقصود بالنص في السياق الأصولي بقطع النظر عن تشقيقاته. غيرَ أنه كثيراً ما يقع التضارب بين السياقات فيختلف المؤولون في اتجاه النص حسب أحوالهم وبيئاتهم، فتتواجه الحجج، ويتسع مجال الاختيار، رحمة من الله.
وربما لهذا السبب قال الرسول ص، لوابصة في الحديث المشهور: «اسْتفتِ قلْبَك … وإن أفتاكَ الناسُ وأفْتوْك». فهناك حالات لا يكفي فيها الإفتاء، بل لا بد من تَحمُّل الشخصِ نفسِه المسؤوليةَ في ترجيح الفتوى التي تلائمُه من بين الفتاوى المؤسَّسة المُعتبرة، وعلى رأسها فتاوى العلماء الكبار المجتهدين الذين حملوا لقب فقهاء بحق. وما يصدق على الفرد ــ في شأن الترجيح ـــ يصدق على الجماعة (الدولة) التي تُعتبرُ كيانا مُتضامنا يُلزم ما تختاره كلَّ أفرادها إلى حين التوافق على خيار آخر.
والنص بهذا المفهوم الخاصي الاصطلاحي الحُجي هو موضوع الإشكال؛ لأن تَرقِّيه في سُلم الحجية يمر عبْر درجات: يكتسب فيها مراتبَ وصفاتٍ تتفاوتُ في القوة والضعف والقطع والاحتمال. وننصح المُرتاب فيما نقوله بالرجوع إلى الهجوم الذي شنته طوائف من الدينسيين على حزب النور السلفي المصري الذي اقترح الاحتكام إلى النصوص الدينية القطعية الثبوت والدلالة في دستور مصر لسنة 2013. وقد رد ياسر برهامي، نائب رئيس الحزب، هذا الهجوم إلى كون النصوص القطعية الثبوت والدلالة قليلة جدا. وهم يعلمون أنها لا تتصل بشؤون الحياة (المعاملات) التي تقتضي النظر البشري، وحيث يوجد الاجتهاد يوجد «الاحتمال» بتعبير البلاغيين، أو «الظن» بتعبير الأصوليين، وهذا مجال الحجة.
مداخل الخطاب التشريعي
يقتضي الاجتهاد في استخراج الأحكام العملية من النصوص الشرعية التشريعية معالجتها في مستويين: 1) مستوى السياق الخِطابي، و2) ومستوى البناء اللغوي، وفي هذين المستويين تندرج علوم: منها أصول الفقه، والمقاصد، والبلاغة، بجناحيها التداولي والتخييلي، وبكل متطلباتها المنطقية واللسانية والسوسيولوجية، وكل ذلك داخل في اعتبارنا، دون إثْـقالٍ على القارئ بالقواعد والأدبيات والإحالات.
ومع ذلك لا بد من التنبيه إلى أن هذين المدخلين يتقاطعان عند أكثر من نقطة، ويتفاعلان على أكثر من مستوى: يخدم أحدُهما الآخرَ، ويجيبُ عن أسئلته، ويكشف غوامضَه. ولكل منهما أسبقيةٌ حسبَ الزاوية التي ننظر منها: فالتحليل اللغوي مقدَّمٌ عند قراءة نص «إنشائي» بعينه، حيث يُستجلب السياق الخِطابي المحيط به كبعد تفسيري، على نحوٍ شبيهٍ بتصوُّر البنيوية التكوينية: من النص إلى رؤية العالم. أما التأطير السياقي (رؤية العالم) فهو سابقٌ في عملية تنظير الحوادث والظواهر و»الدعوات» وتأريخها، مثل الدعوة الإسلامية: الدعوة إلى الحرية (التوحيد)، والعدل (التكافؤ)، والتكافل (الإحسان)، ويأتي التحليل اللغوي هنا لفك رموز اللغة في مستوى المعجم والدلالة، في سياق التقاليد البيانية التي حققت التواصل في عصر معين. فإذا كان القرآن كتابَ الله، من جهة، فهو موجه، من جهة أخرى، إلى البشر: موجه إلى العرب بحسب تقاليدهم البيانية («وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمه لِيُبَيِّن لَهُمْ « [إبراهيم 4]. تأمل الحصر (ما …إلا) والتعليل (ليبين لهم) في هذه الآية. وهذا المقصد يدفع كل وصاية شيوخية/كهنوتية تدعي الوساطة بين العبد ورسالة ربه.
ونحن إذ لا نحلل هنا نصا دينيا تشريعيا بعينه («إنشاء»)، وإنما نفحصُ مدى إجرائية نصٍّ «واصف»؛ ينتمي إلى المنهاجية ــ وهو «لا اجتهاد مع النص» ــ فمن المجدي أن ندخل من مدخل الإطار العام الذي يشكله سياق الخطاب القرآني في علاقة نصوصه بعضها ببعض وبالمسار التاريخي للدعوة. والغرض هو رسم خطة، وبناء نسَق، يحاوره العارف، ويسترشد به المتعرِّف. وقد كثر الخبط في تناول البعد الحجاجي في القرآن الكريم هذه الأيام.
السياق الخِطابي للنص التشريعي
لكل نص ديني تشريعي سياقان: سياقٌ أصغرُ، وهو الذي شَغَل علماءَ الأصول (وهو الذي نخصص له هذا المقال)، وسياق أكبر، وهو الذي صار يُتناول تحت عنوان المقاصد (ونرجئ الحديث عنه إلى مناسبة لاحقة)، كما نؤخر الحديث عن البنية اللغوية. (فهذا المقال منتزع من عمل نسقي سيظهر في حينه).
السياق الأصغر
التمهيدات المنهاجية السابقة ضرورية لتأطير الأشكال المعالج، ومع «السياق الأصغر» نصل إلى بيت القصيد. يتمثل السياق الأصغر في علاقة النص المستشهَد به بالنصوص التي تعالج القضيةَ موضوعَ الشاهدِ، أو تتصل بها بوجه مُؤثِّـر في الحكم المتوخَّى استخلاصه. والتأثير يكون عن طريق النسخ والتخصيص والتعميم…الخ. هذا الاعتبار منهاجي معروف في صياغة القوانين والدساتير والمعاهدات والمواثيق، ولكنه يزيــد أهميةً ومشروعيةً بالنسبة لمدونة النصوص الدينية التي صدرت مُنجَّمَة، على مدى سنوات، تبعا لمتطلبات الحياة ومستجداتها: أسباب النزول. فالنصوص التي تتناول موضوعا واحدا دالةٌ بتجاورها وبتعاقبها على أن المشرِّع (الله هنا) قد فتحَ بابَ الاجتهاد للمخاطبين لمسايرة تطورهم الطبيعي الذي فطرهم عليه، والتعود على الأخذ بالأسباب والعلل. أما في العمل البشري فكثيرا ما يُلجأ، في الدساتير والمعاهدات، إلى إدراج نصوص متعارضة عمدا للخروج من مأزق (توافق مستحيل)، كما وقع في الدستور المغربي لسنة 2014 الذي شَبهَهُ البعضُ بقصيدة شعرية، أي أنه مفتوح للتأويل والاجتهاد حسَبَ موازين القوى المنتظرة. وهذا إجراء حواري بشري مهم؛ أفضل من الجمود المؤدي إلى التصادم.
ونقدم هنا حالة تجاور النصوص من خلال نموذج «توزيع الإرث»، ونرجئ حالة التعاقب إلى مناسبة أخرى، لنقدمها من خلال مسلسل تحريم الخمر.
الاجتهاد في تقسيم الإرث
عندما طالب الحقوقيون، وساندهم بعضُ السياسيين، بتفعيل مقتضيات الدستور المغربي فيما يخص المساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة، خاصة ما يهم قضيةَ اغتصاب الأطفال (وراء قناع «عقد النكاح»)، وتعدد الزوجات، واقتسام الإرث، ثارت ثائرة الدِّينْسيين رافضين مبدأَ التغيير والحقَّ في النقاش معا. وقد ركزوا على قضية الإرث باعتبارها خاضعةً ـــ في نظرهم ــ لنصوص «صريحة قطعية» نهائية؛ لا مجال للاجتهاد فيها، أو نقل حجر من أحجارها. بل وصل عنفُ الخِطاب في هذا المجال إلى حد القول بأن من يُناقشُ قضيةَ الإرث لا يَــرُدُّ على الفقهاء وعلماء الدين وإنما يرد على الله، وبذلك يخرج من الملة، هذا ما قاله الشيخ مصطفى بنحمزة في محاضرة استنجدَ بها المُعترضون، فأعادوا نشرها مقروءة ومسموعة، وبنوا على ما جاء فيها خطابهم العنيف.
وهذا نص كلام الشيخ بنحمزة حتى لا نُتَّهَم بالتقول عليه، أو التعسف في تحميل كلامه ما لا يحتمل:
«الإرث ليس موكولا إلى شخص، بمعنى هذه القسمة قسمة إلهية، فالذي يَـرُدُّها لا يرُد لا على إمام ولا على فقيه… الذي يتوجهون إليه بالنقد هو القرآن الكريم، وحكم الله… قضايا الإرث هذه قضايا نص، من قبيل النص… والنص هنا واضحُ الدلالة، لا يأتيه التأويل… جميع الأعداد في القرآن نصوص، أي لا يدخلها التأويل، ولا الاحتمال من جهة من الجهات، إذن فهذه نصوص. ثُـم [إن] القرآن شدد [فقال]: «تلك حدود الله فلا تعتدوها»، فسمى الله هذه القسمة حدودَ الله… قضايا الإرث من المعلوم من الدين بالضرورة… ومن أنكره فقد طعن في دينه، فدينه مطعون فيه، لأنه رد شيئا من القرآن وأباه…رفض حكم واحد من أحكام الشريعة… هذا خروج عن هذه الملة».
هذا الكلام يُغلقُ النص بالضَّبَّةِ والمِزْلاجِ، ومع انغلاق النص ينغلق ذهنُ متلقيه، وتَسْوَدُّ الدنيا في وجهه فلا يرى أكثرَ مما رآه أبو النعيم في من وقف أمامه داعيا لفتحه. وليس هناك من دواء للتخفيف من هذا العُصاب غيرُ عرضِ سلوك الصحابة رضوانُ الله عليهم: سلوكهم العلمي العقلاني في معالجة قضايا الميراث، وسلوكهم الأخلاقي في ممارسة الحوار وقبول الاختلاف والتعايش معه.
اختلاف الصحابة والتابعين
في قضايا الإرث
نحن لا نعتقد أن بعض هؤلاء «الشيوخ» يجهلون أن قضية الإرث كانت من أكثر القضايا إثارة للنقاش والتشريع بعد موت الرسول (ص)، أي بعد توقف الوحي. وهو نقاش في الجوهر والأعراض، لأنه أعطى وحَــرَمَ، كلا أو جزءا، وقدم وأخرن، كما سيأتي.
من المعلوم أن أحكام الإرث مُركزةٌ في آيات قليلة من القرآن الكريم غاية في الإيجاز: حَددتْ بعض المبادئ والخطوط العامة، وعالجت بعض الحالات، وتركت ما سوى ذلك لاجتهاد المخاطبين. ولذلك توزعت الآراء بحسب اعتبارات عدة؛ على رأسها اعتبار قوله تعالى: «يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» [النساء 11]، وقوله تعالى: «وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» [النساء: 176] قاعدةً عامة تنضبط لها النصوص الجزئية التي تخالفها، وبين اعتبارها خاصة بمن توجهت إليهم بجانب من لفظها (الأولاد والإخوة)، وأخْذُ ما سواها على ظاهر لفظه. الرأي الأول مرجَّحٌ عند مجموعة من الصحابة، والثاني مرجح عند مجموعة أخرى، وهم جميعا من الصف الأول، كما سيأتي.
وعموما فقد كانت هناك أسباب عديدة وراء الحاجة إلى فتح باب الاجتهاد في الموضوع، منها:
1) التباس العلاقة بين نَصٍّ اعتُبر عند بعض الصحابة والتابعين قاعدة عامة ونصوصٍ خاصة بحالات معينة، رأى غيرهم ضرورة استقلالِها بالحكم الظاهر من لفظها، كما تقدم.
2) عدم صدور تشريع في بعض الحالات (كميراث الجد للأب مع الإخوة مثلا، وميراث الجدة أيضا)،
3) ظهور حالات جديدة معقدة تقتضي الاجتهاد في الملاءمة بين النصوص.
وهذه نماذج وعينات ممثلة تُغني عن غيرها:
النموذج الأول: التباس العلاقة بين النص المعتبر عامًّا والنصوص الخاصة، كما في قوله تعالى: ـ «… فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ». [النساء 11]. مقروءا في ضوء قوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين».
فالمعنى المأخوذ من ظاهر اللفظ مفصولاً عن غيره يقتضي ألاَّ يكون مع الأبوين أي وارث. وفي هذه الحالة ليس هناك أي إشكال: تأخذ الأم الثلث فرضا ويأخذ الأب الثلثين تعصيباً، فيتحقق المبدأ العام: «للذكر مثل حظ الأنثيين».
القراءة الثانية تقتضي استحضار الحالات الممكنة والنصوص المجاورة، ومن احتمالاتها أن يكون مع الأبوين زوجٌ أو زوجةٌ. ففي حالة الزوج فهو يأخذ النصف تطبيقا لقوله تعالى: «وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ». [النساء ]. وتأخذ الأم الثلث تطبيقا للنص أعلاه، فتكون القسمة على الشكل التالي:
1ــ للزوج النصف (6/3)، وللأم الثلث (6/2)، والباقي، أي السدس (6/1)، يأخذه الأب تعصيبا.
هنا أخذت الأم ضعف حصة الأب خلافا للقاعدة العامة: «للذكر مثل حظ الأنثيين». ولإعادة هذا الفرع إلى الأصل اجتهد الصحابي زيد بن ثابت، ولقي اجتهاده القبول. اقترح التعاملَ مع حصة الأبوين بمعزل عن حصة الزوج: أي تؤخذ حصة الزوج أولا، ثم تمارسُ القاعدة العامة فيما تبقى: الثلث للأم والثلثان للأب. ولتسويغ ذلك تأوَّلَ النصَّ مُفترضا أن المقصود هو «ثلثُ الباقي»، ولذلك يُقال أن ابن عباس راجعه في ذلك، سائلا عن المكان، من القرآن، الذي وجد فيه «ثلث الباقي»، فرد عليه بقوله: «إنما أنت رجل تقول برأيك، وأنا رجل أقول برأيي».
ويقاس على ذلك اجتماع الزوجة بالأبوين: تأخذ الزوجة الربع المفروض لها بالنص، ويقسم الباقي بين الأبوين بحسب القاعدة العامة.
[الزوجة ?] + [الأم ثلث الباقي، أي ?] + [الأب ثلثا الباقي 4/2] = 4/4
وللفخر الرازي، في مفاتيح الغيب، تخريج جميل لفتوى زيد بن ثابت حيث اعتبر الزوجين شريكين بعقد الزواج، فمتى حُررتِ التركةُ من حقوق الغير عاد إليهما الباقي ليقتسماه بحسب القاعدة العامة.
المهمُّ عندنا هو أن النص لم يعُــقِ الاجتهادَ، والمهم عندنا أيضا هو أن رجلين فهما في ذلك العصر أنهما يقولان برأييهما دون أن يحسا بأي ذنب. وقال القرطبي معلقا على اجتهاد زيد بن ثابت، وأخذ الجمهور به: «وهذا صحيح في النظر والقياس» (تفسير القرطبي)، يقصد تقديم النظر على النص.
النموذج الثاني: أما أشهرُ قضية تضاربت فيها الآراء بين فقهاء الصحابة والتابعين، والفَرضيين أجمعين، فهي قضية ميراث الجد للأب (أي من جهة الأب) مع الإخوة، فقد انقسم بصددها الصحابة، بعد موت الرسول ص، إلى طائفتين كبيرتين، وامتد اختلافهما في التابعين وفي كل المذاهب الفقهية والفرق الدينية:
الطائفة الأولى تضع الجَد في مكان الأب، وتحجبُ به الإخوةَ حَجْبَ حِرمانٍ. وهي تضم الخليفة الأول، أبا بكر، والسيدة عائشة وابن عباس وعمار بن ياسر، وعليها سار أبو حنيفة وبعض أصحاب الشافعي، وتبناها ابن تيمية وابن القيم. ومن حججهم على ذلك نقلاً: ما ورد في القرآن من تسمية الأجداد آباء: «وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ» (يوسف 38). ومنها عقلاً: قياسُ الجد على ابن الابن: فالمسافة الفاصلة بين الهالك وبين كل من الحفيد والجد متماثلة: الهالك ابن الأول وأب الثاني. هذا مع الإشارة إلى أن البنوة أقوى في هذا المجال من الأبوة.
والطائفة الثانية تقول بمشاركة الجد للإخوة. وتضم الخليفة عمر بن الخطاب والخليفتين عثمان بن عفان وعلي بن أبي طالب، كما تضم ابن مسعود وزيد بن ثابت. وعليها اعتمد مالك والشافعي، وبعض أبرز أصحاب أبي حنيفة. وحجتهم من المنقول قوله تعالى: «لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» [النساء 7]. ومن المعقول: قياسُ المسافة والرابط بين الهالك وجده بالمسافة والرابط بينه وبين الإخوة، وهي الخط الممتد بين الجد والإخوة عبر الأب. فَـ»الأخ يدلي ببنوة أبِ الميت والجد بأبوته»، حسب تعبير القدماء. فكأن الأخ يقول: أنا ابن أبِ الميت، والجد يقول: وأنا أبو أبيه. فهما معا يَعبُران نحو الهالك من قنطرة الأب، غير أن البنوة أقوى من الأبوة كما سبق. وهذه حجة تقابل حجة الطائفة الأولى التي قاست الجد على ابن الابن الذي يحل محل أبيه.
هكذا كان الحوار: «نص بنص، وقياس بقياس». (نُحيل من أراد التوسع في هذه الإشكالية، واستقصاء حجج الطرفين، على مقال حجاجي موثق ليونس الطلول، ومراجعة عبد الوهاب الشرعبي، بعنوان: ميراث الجد والإخوة. موجود على الشابكة. وفي كتب التفسير الكثير من الاجتهادات الطريفة).
النموذج الثالث: ومن الحالات المعقدة التي اختلف فيها الصحابة، رضوان الله عليهم، اختلافاً كبيراً الحالة المكونة من: أم وأخت وجد. ولها أسماء كثيرة، من بينها «المخترقة» إشارة إلى اختراق الآراء لها:
1 ــ فأبو بكر وابن عباس أنزلا الجد منزلة الأب، فحجبا به الأختَ انسجاما مع موقفهما السابق، وأعطيا الثلث للأم تطبيقا لظاهر النص القرآني، وتركا الباقي للجد تعصيبا.
2 ــ وأعطى الخليفة علي بن أبي طالب الثلثَ للأم والنصف للأخت وما بقي للجد.
3 ــ أما عثمان فوضع الثلاثة في نفس المرتبة، وقسم التركة بينهم بالتساوي: الثلث لكل منهم.
4 ــ وأعطى ابنُ مسعود النصف للأخت فرضا والثلث للجد والسدس للأم.
5 ــ أما زيد بن ثابت فأعطى الأم الثلثَ، وقسم ما بقي بين الجد والأخت للذكر مثل حظ الأنثيين .
وهذا تلخيص بصري لهذه الحالات على أساس رقم 6 قاسما مشتركا:
فأنت تلاحظ أن الاختلاف تجاوز الزيادة والنقصان في الحصص إلى الحرمان من الميراث أصلا. فحصة الأخت تراوحت بين الحرمان ونصف التركة، وحصة الجد بين خمس التركة وأربعة أخماسها، في حين خُفِّضت حصةُ الأم إلى النصف في حالة واحدة.
النموذج الثالث: أريدُ رأيَـــك…
يُروى أن عمر بن الخطاب دخل مرة على زيد بن ثابت طالبا فتواه في قضية الجد، وهو خليفة، فأبى أن يُفتيه، فانصرفَ مغضبا معاتبا. ثم عاد إليه في نفس الموعد مُلحا في الطلب، فوعده بجواب مكتوب يسلمه له لاحقا. والكتابة تعني التدبُّر، كما تعني التوثيق. وعندما تسلَّم عمرُ الجوابَ مخطوطاً على قَتَبٍ توجَّه به مباشرة إلى المسجد، وقرأه على الناس. (لعل هذا التحرج والإلحاح ناتج عن كون الفتوى تخص عمر نفسَه، فقد روي أيضا أنه كان أولَ جَدٍّ يرث في الإسلام، والله أعلم). (انظر تفسير القرطبي. تفسير «يوصيكم الله..»).
الذي استرعى انتباهي في فتوى زيد بن ثابت أنها لم تدخل في حوار مع نص من النصوص المُؤسِّسة لمنظومة الميراث، بل دخلت في حوار مع الكون، مع خلق الله حيث تسكُن حكمتُه، سلك زيد مسلك الاعتبار والتفلسف: انتقل من المجاز إلى الحقيقة، من «شجرة النسب» إلى شجرة النبات! ما يجري على شجرة النبات من انتقال الماء والغذاء (أسباب الحياة) عَبْــر الجذع (= الجد) إلى الأغصان (= الأبناء) فإلى الغُصينات(= الأحفاد)، يصدق على شجرة النسب. ولذلك حين يُقطع الغصين (الحفيد) تعود حصته من الماء إلى الغصن (الأب)، وحين يقطع الغصن تعود حصته إلى الجذع (الجد). هذا منطق الطبيعة، وهذه دورة الحياة، هكذا تفلسف زيد، ولهذه الحكمة كان أفرضَ أهل عصره. (انظر تفاصيل هذا الحوار الإنساني الطبيعي العميق في تفسير القرطبي ومصادره).
وكان عمر صريحا بدوره حين أخبر زيدا بأن الأمر يتعلق برأي؛ قد يتبناه وقد لا يتبناه. قال عمر: «إني جئتك لتنظرَ في أمر الجد! فقال زيد لا والله! [ثم استدرك] ما تقول فيه؟ [أي ماذ تقول فيه أنت؟]. فقال عمر: ليس هو بوحي حتى نزيد فيه وننقص، إنما هو شيء تراه، فإن رأيتُه وافقني تبعتُه، وإلا لم يكن عليك فيه شيء «. (ولا تنس أن زايد هو الذي قال لابن عباس: تقول برأيك وأقول برأيي).
لو أن أحدنا تجرأ اليوم وسلك طريق عمر في السؤال، وطريقة زيد في الجواب لاتهم بالزندقة، وعلقت له المشانق.
درسان وسؤال الدرس الأول: الحاجة إلى العقل والأخلاق
أما بعد، فهذه «معركةُ عقولٍ» تستحق كل التقدير من زاويتين: من زاوية حشدها للحجج النقلية والعقلية، ومن زاوية الأخلاق العالية التي مورس بها هذا الاختلاف. فأقصى ما ظهر خلالها من ضيق لا يعلو فوق قول ابن عباس: «ألا يتقي الله زيد بن ثابت! يجعل ابن الابن ابنا ولا يجعل أبَ الأب أبا؟!» عِتابٌ منصب على ما رآه مفارقة في الحجة، وليس على الشخص. ويُروى أن الخليفة عمر بن الخطاب ــ وهو المجتهد الجريء في الحق ــ أبدى وأعاد في تقدير حصة الجد مع الإخوة، ثم عاد، في آخر حياته، ليقول: «أُشْهدُكم أني لم أقضِ في الجَدِّ قضاء»، قال ذلك تحرُّجا لدينه. لقد كانت حجج الطائفتين قويةً، وكان اطمئنانُهم لإرادة الله كبيراً، فانصرفت أنظارهم إلى الموضوع.
لماذا لم يفكر أحدٌ من الصحابة في اتهام الآخر بِــرَدِّ كلام الله كما فعل «فضيلة الشيخ» بنحمزة؟ فما بالُ أقوام يُكفِّرون من أجل السؤال؟!
الدرس الثاني:
أصل التمييز، ومناط السؤال؟
من الأكيد أن الإنصاتَ الهادئَ إلى هذا الحوار المفتوح في قضية الإرث، في صدر الإسلام، يَـرُدُّ القولَ بأن للإسلام موقفاً تمييزيا ضد المرأة على أساس الجنس، كما رد دعوى النص المغلق. ومعنى ذلك أن القسمةَ ليست رقمية تعبُّدية، (ليست طقْسا يؤدَّى بقطع النظر عن إدراك حكمته، أو عدم إدراكها)، بل هي قسمة مُقدرة بالأقدار التي تحقق مصالح ذوي القربى (بل واليتامى والمساكين الذين يحضرونها).
والتسليم بهذه المقدَّمة يقتضي ضرورةً البحثَ في الأسبابِ التاريخية الخاصة التي جعلتِ المُشرع يُعطي الرجلَ ضعفَ حصة المرأة في بعض الحالات في تلك البيئة الخاصة البعيدة عن بيئة المدينة الحديثة بقرون. والحمد لله أن الدينسيين المعتدلين صاروا يَخطون اليوم هذه الخطوة، فهم يقرون بأن التمييز ليس جنسيا تعبديا، بدليل عدم شموليته. والحجة على ذلك وجود عدد من الحالات التي تأخذ فيها المرأة مثلَ حصة الرجل أو أكثرَ منها، إذ لو كان التمييز على أساس الجنس لما جاز أن توجد هذه الحالات.
أساس التمييز عندهم هو التكاليفُ الماديةُ التي كُلِّف بها الرجل. ومدارها الإنفاق على المرأة بنتا وزوجة وأما، فهي مكفولة، كما يقولون، من أبيها وزوجه وأبنائها…الخ.
لا شكَّ أنكَ مَسرور وأنت ترى إخواننا الدينسيين قد قطعوا نصفَ الطريق، ولا شك أنك استبقتَ الأحداثَ وانتظرت أن يسيروا في الطريق إلى نهايته. فمن دخلَ هذا الطريق السيار التاريخي الوضعي مُلزم بالسير فيه إلى نهايته، ونهايتُه هي: دوران المسبب مع أسبابه؛ إذا سقطت العلة سقط المعلول. نهايته ما يقدمه الحقوقيون حين يقولون: لقد تغيرت الظروف، ولم تعد المرأة مكفولة، بل صارت كافلة أو متقاسمةً للكفالة مع الرجل، صارت تقتسم الولاية مع الرجل: هو ولي عليها وهي ولية عليه، بالمودة والرحمة، لا بالإكراه وبيت والطاعة. ولذلك وجب النظر في إعادة تقاسم الإمكانيات المادية كما تُتقاسم الأعباء.
لقد دخل إخواننا هذا الطريق السيار بشكل عفوي، وساروا فيه مدة، ثم لمحوا علامة «الأداء» فتوقفوا، رفضوا تأدية مستحقات الطريق، فأَرْبَكوا حركة السير! فما إن يُطلب من الدينسيين ترتيبُ النتائج المنطقية على مقدماتهم حتى تثور ثائرتهم! تثور ثائرتهم حتى ولو جاء هذا الطلب من خارج المعسكر «العلماني» الذي يسبب لهم حساسية مفرطة. حتى ولو جاء من مفكر إسلامي، خطيب جمعة، وإمام مسجد مجتهد، وغيور على الدين، مثل عدنان إبراهيم. فقد سبق لعدنان إبراهيم أن دعا إلى التفكير في الموضوع على أساس الوضعية الجديدة للمرأة، فأقيمتْ له المحاكمات، وقُذف بأقبح النعوت والموبقات، كما سنبين في مقال مستقل، جاهز.
خاتمة: سؤال للتأمل
ما دلالةُ قولِ الرسول (ص) في حق الصحابي الجليل زيد بن ثابت: «أرْحَــمُ أمتي بأمتي أبو بكر… وأفرضُهم زيدُ بنُ ثابت»؟
هذا الحديث صححه كثيرون (ومضمونه مؤيَّـدٌ بوقائع كثيرة على كل حال): فما معنى أن يكون زيد بن ثابت مجتهدا في تخريج المواريث في عهد الرسول ص، عهدِ القرآن والحديت؟
وزيد بن ثابت ليس المجتهد الوحيد المستنبط لِـ»القوانين التشريعية» من «الدستور» (القرآن)، بل هو الأمهرُ في تخريج القضايا، هو الأفرضُ (أو الأنحى) ومعه فرضيون آخرون نَحوا غير «نَحْـوه»، وسلكوا طريقا غير طريقه؟
هذا، وإذا كان هذا الحديث صحيحا، وكان زيد صاحبَ اختيار (وهو التأويل في اتجاه القاعدة العامة، كما تقدم): ألا يدل ذلك على ترجيح الرسول ص لهذا الاختيار على الاختيار الآخر الذي يقدم الدلالة الظاهرة المستقلة لكل نص (قال القرآن: «لهن الثلث»، نعطيهن الثلث دون اهتمام بِـ»المآل» )؟ وهو يدل قطعا على قبول الاجتهادات الأخرى التي تصل إلى حد التوريث والحرمان، كما سبق.
وأخيرا: كيف يقبل الرسول ص اجتهاداتٍ تصلُ إلى هذا الحد و»نتقاذف» نحنُ، ويكفِّر بعضنا بعضا ويُجهِّلُه لمجرد الدعوة إلى التفكير في الموضوع على ضوء المستجدات؟!
عن جريدة .ا.ش
19 ابريل 2014