مصر: حتى لا ينبعث الاستبداد في جلد جديد
دخلت مصر في حملة الترشح للانتخابات الرئاسية وذلك بحشد توكيلات الدعم الشعبي للمرشحين من داخل المحافظات , وقد ركز الإعلام المصري على الكم الهائل من التوكيلات التي حصل عليها المرشح المشير السيسي, والتي وصلت لحد الآن إلى ما يناهز 300 ألف توكيل بينما العدد القانوني المطلوب لا يجب أن ينزل عن 15 ألف فقط من 15 محافظة ..و تحيط بالحملة لدعم ترشح السيسي أجواء إعلامية وشعبية غير سليمة , بل خطيرة على مجمل العملية السياسية الديمقراطية في محطتها الانتخابية الرئاسية , وبيان ذلك في ما يلي من وقائع :
_ بث الكراهية و الفرقة داخل المجتمع المصري, بخطابات وشعارات تقطر حقدا وعداوة لجزء من المجتمع المصري ومن الحقل السياسي والحزبي , فمن التخوين والشيطنة للإخوان المسلمين , إلى الدعوة الصريحة إلى الاستئصال , يقول المنسق العام لحملة السيسي : ” إن الشعب المصري قادر على استئصال فصيل الإخوان المسلمين ” ( عن صحيفة ” صدى البلد الإلكترونية) , وفي نفس السياق اعتبرت إحدى منسقات حملة السيسي في لقاء تلفزيوني أن حملة دعم السيسي ” بدأت منذ 2012 , منذ كان السيسي وزير دفاع .. لأننا كنا ضد الإخوان اللذين كانوا سيسلمون البلد لإسرائيل…”.
وينخرط في هذه الدعاية الغارقة في الكراهية للإخوان إعلاميون وفنانون يتغنون : ” أرواحنا كلها فداك ” .. ” ربنا يحميك يا سيسي .. مليون شكرا.. رجعت لنا الأمل أنت ” .. كما تجري هذه الاستعدادات للانتخابات الرئاسية في ظل ممارسات قمعية شرسة لمختلف المظاهرات والتظاهرات أسفرت لحد الآن عن 1400 معتقل من مختلف التيارات السياسية والمنظمات الطلابية والحقوقية إضافة إلى المئات من كوادر الإخوان ومؤيديهم.. فيما يتم إطلاق الرصاص يوميا على أي شكل من أشكال الاحتجاج بما يخلفه أحيانا من قتلى وجرحى..
_أسطرة شخص المشير السيسي, بإنتاج أشكال ورموز ” لعبادة الفرد” وصنع ” كاريزما ” له لأن الحاجة الموضوعية لها قائمة, ولا يبدو لقطاعات واسعة من ا لمصريين أفق غير ” بطل منقذ ” , يتم اليوم إضفاء كل مواصفات وخصال ” رجل الخلاص ” و” بطل تحرير ” المصريين من الخوف والإرهاب وخطر الاخونة” عليه ..إلى آخر القاموس الإعلامي التأطيري والتوجيهي للوعي والعواطف في اتجا هين : كراهية الآخر ( الإخوان هنا ) وعبادة المشير المنتظر أي الرئيس القادم في انتخابات غير متكافئة .لقد أصبحت صورة السيسي تطاردك أينما وجهت نظرك : في ألعاب الفيديو , في علب الشوكولاطة , في أوراق مالية مقلدة , في سلسلة المفاتيح , أما في ميدان التحرير فصورته تغطي كل جنباته ( عن تقرير لوكالة أ ف ب ) .
إنها أجواء انتخابات رئاسية تنعدم فيها كليا شروط المنافسة المتكافئة بما يحقق نزاهتها وشفافيتها واحترامها لقواعد ومساطر التباري الديمقراطي .. انتخابات قد تتحول بل تحولت إلى مبايعة لا جدوى بعدها إلى صناديق اقتراع .. فهل بهذه الممارسات و” الثقافة” ستستحق انتفاضة 30 يوليو شرف أن تكون حقا امتدادا وتعميقا لثورة 25 يناير 2011 ولأهدافها وتطلعات شعب مصر منها ؟
_ احتكار الإعلام وهيمنة الخطاب الواحد , إذ يعيش المشهد الإعلامي أكبر ردة أخلاقية , وتردي مهني , و انفعال جنوني , ما أصبحت معه الرسالة الإعلامية في مهب المديح للمنقذ المنتظر , والقذف والشتم والتخوين لكل من ينآى بنفسه عن الإنخراط في هذه المهزلة المسماة إعلاما , بل وصلت تدخلات بعض البلطجيين الإعلاميين إلى حد الاحتقار لعقول الناس, فمثلا ,في برنامج تحليلي لمباراة المنتخب المصري التي انهزم فيها بستة أهداف لواحد أمام منتخب غانا قال أحد المتحدثين مفسرا الهزيمة ” لو تواصل اللاعبون مع السيسي لحققوا إنجازات كبيرة أمام غانا , ولأحرزوا الفوز ” ..
هذه بعض الوقائع اليومية الجارية في مصر وهي على أبواب انتخابات رئاسية حاسمة في تحديد مستقبل لا مصر وحدها بل كل المنطقة العربية, وهي وقائع لا تدعو إلى التفاؤل كثيرا, فا لانتقال إلى الديمقراطية يقتضي كمقدمات:
_ التحرر من منطق ” الغلبة” , واعتماد لغة الحوار , والتحلي بروح التوافق لا التفوق , واحترام تكافؤ فرص ووسائل التنافس الديمقراطي على السلطة , وهذا ما هو شبه منعدم , حيث إقصاء مكون تاريخي من العملية , وحيث احتكار صورة المنقذ البطل لكل الفضاءات والمجالات , من القنوات الفضائية إلى علبة شكولاطة للأطفال …
_ التدبير العقلاني للاختلاف بدل الجموح الانتقامي الإستئصالي الذي يدفع إلى ارتماء أطياف الإسلام السياسي في حضن التطرف الإرهاب , وبالتالي إلى الانسداد الديمقراطي ..
_ تحرير الإعلام المصري من هيمنة الصوت الواحد, و من خطاب التحريض والتخوين والتهريج, احتراما للرسالة الإعلامية النبيلة ولأخلاقياتها..
ولعل تحقيق ذلك سيظل رهينا بتجديد الرؤِية لطبيعة التحديات وحجم الرهانات التي أضحت تهدد دول المنطقة أكثر من أي ظرف سابق , وهي تحديات ورهانات سيكون من باب التدمير الذاتي اختزالها في ثنائيات مانوية : نور وظلام , خير وشر , إسلامي وعلماني … فبدون شمولية في الرؤية للمصير الواحد الذي يعني الجميع , وبدون روح توافقية ديمقراطية بين مختلف مكونات المجتمع السياسي والمجتمع المدني , سيبقى الاستبداد قادرا على الانبعاث في جلد جديد ..