دول شمال أفريقيا تغرق في أوحال ‘الربيع العربي’
|
انخفاض الصراع في القارة الافريقية مقارنة بشمالها يعود إلى النضج الفكري وارتفاع المستوى التعليمي ووعي الأفارقة بأنّ مصالحهم ترتكز على السلام.
|
عن صحيفة العرب [نُشر في 11/04/2014، العدد: 9525، |
لندن – أفرزت التحولات السياسية خلال السنوات الأخيرة في المنطقة العربية العديد من التباينات المختلفة على صعيد المغرب العربي الذي شهد انطلاق شرارة ما يسمى بـ”ثورات الربيع العربي”.
خلقت التغيرات الجيوسياسية، في أفريقيا مناخا مناسبا للنهوض بالحالة السياسية والاقتصادية في بعض دولها، والذي كان ملاحظا بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، حيث تعيش دول أفريقيا جنوب الصحراء حاليا مرحلة أكثر استقرارا مقارنة بما شهدته قبل عشرين سنة، بينما يواجه عدد من دول شمال أفريقيا اضطرابات طفت إلى السطح بالتزامن مع سلسلة “الثورات” التي هزّت دول المنطقة وتمخّضت عن فترات للانتقال الديمقراطي، وتبادل للأدوار بين شمال القارة الأفريقية وجنوبها ترافق في مراحله الأخيرة باستقرار أكثر نسبيا في الجنوب، وفقا لتصريحات أدلى بها خبراء متخصّصون في السياسة الأفريقية.
ولقد مرت تونس، مهد ما سمي بالربيع العربي، بفترة حرجة سياسيا واقتصاديا، مع حكم الإسلاميين فيها بعد انهيار نظام بن علي في 2011، حيث تفاقم التوتر السياسي الذي رافقه انفلات أمني، خاصة بعد اغتيال المعارضين البارزين شكري بلعيد و محمد البراهمي، و ثبوت تورط عناصر متشددة استفادت من جانب الحرية في تنقلاتها وتحركاتها في كنف حكم حركة النهضة الإسلامية.
ومع تصاعد حدة الاحتجاجات الشعبية والسياسية، اضطرت الحكومة الإسلامية إلى الانسحاب من الحكم، بعد جولة طويلة من المفاوضات رعتها أطراف نقابية، لصالح حكومة تكنوقراط، في انتظار موعد الانتخابات.
شمال أفريقيا
عن الاستقرار في شمال أفريقيا، يقول رئيس المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية طارق الكحلاوي “كلّما توجّهنا نحو غرب شمال أفريقيا، كلّما تحسّسنا استقرارا أكبر، وفي المقابل، نشهد انعداما للاستقرار كلّما توجّهنا نحو الشرق”.
ويوضح أن المشهد في شمال أفريقيا يغرق في أوحال عدم اليقين وضبابية المصير، ففي مصر وبعد أن تصور المتابعون أنّ البلاد تمكّنت أخيرا من التحليق نحو الديمقراطية، بعد سقوط حكم الرئيس السابق حسني مبارك في يناير2011، سجّلت مصر عودة اضطرارية نحو مناطق الإقلاع الأولى ودخلت منذ العام الماضي في مرحلة من عدم الاستقرار بحثا عن نموذج سياسي تحت ضغط القيود الاقتصادية التي كبّلت نسق الحياة في البلاد، مع صعود الإخوان المسلمين واستلامهم دفة الحكم فيها قبل سقوطهم.
“جيل” تابع قائلا “أفريقيا جنوب الصحراء عموما تعدّ اليوم أكثر ديمقراطية نسبيا ممّا كانت عليه منذ عشرين سنة مضت، فالانفتاح الديمقراطي أتاح لها فرصة الانعتاق من منطق الاعتماد على القبيلة أو على الطائفة من أجل فرض الوجود، وهذا ما قاد إلى ظهور الدكتاتوريات، أمّا في السياق الديمقراطي، فإنّ المنطق يفرض قانون التحالفات الذي يتجاوز الحيّز الضيق للعشيرة أو القبيلة أو الطائفة، وهذا ما يعزّز في النهاية الانتماء الوطني والتوافق والاستقرار”، ولعلّ هذا ما جعل نقاط التوتّر “تتقلّص إلى حدّ ما في القارة الأفريقية، لتنحسر في أفريقيا الوسطى وجنوب السودان ومالي”. وقد شهدت هذه المناطق الثلاث خاصة في الفترة الأخيرة، صراعات داخلية دموية كانت مرتفعة بدرجة أولى في أفريقيا الوسطى، وتعيش أفريقيا الوسطى منذ أواخر العام الماضي صراعا طائفيا استدعى تدخّل فرنسا عبر ما يعرف بعملية “سانغاريس″، كما قام الاتحاد الأفريقي بنشر بعثة دولية لدعم أفريقيا الوسطى والتوصّل إلى تسوية للنزاع فيها.
وتابع رئيس معهد الدراسات الاستراتيجية بتونس حديثه مشيرا إلى أنّ تونس، وبعكس ما شهدته مصر، تمكّنت من تحسّس مسارها نحو الاستقرار، واستطاعت بذلك أن تتخطّى حاجز التجاذبات الذي كاد أن يزجّ بها في خندق التناحر السياسي، فصار هناك اتّفاق على أنّ صندوق الاقتراع هو الحكم”.
وما بين مصر وتونس، وعلى ذلك الخيط الرفيع الفاصل بين بداية الاستقرار والفوضى، تقف ليبيا اليوم “متأرجحة” بين النموذجين المصري والتونسي، مع أن المعطيات الحالية في المشهد السياسي الليبي لا تنذر بوضع مستقر.
في الجزائر، وفي أعقاب مرحلة من الاستقرار والازدهار الاقتصادي، بدا أنّ هذا البلد الذي لم تمرّ عليه نسائم “الربيع العربي” قرّر أخيرا الانضمام إلى هذه الدورة، خاصة بعد تواتر الاحتجاجات والمظاهرات بشأن ترشّح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة لولاية رابعة، وقد دفعت بذرات الاحتجاج هذه إلى السطح الخلافات والصراعات الدائرة في الكواليس، التي تهزّ النظام حيال ترشّح بوتفليقة، وفي هذا الصدد قال الكحلاوي “وحدها الانتخابات الرئاسية القادمة ستظهر إن كانت تلك الخلافات الداخلية ستتحوّل إلى أزمة أم لا”.
وفي خضمّ المدّ والجزر الذي عصف بأوراق “الربيع″ بمختلف دول شمال أفريقيا، كان لابدّ أن تكون الدولة الوحيدة التي لم تطلها شرارة التغيير، والمستفيدة من غياب الحراك على أراضيها، المغرب، الذي يعيش حسب ما يراه الكثير من المراقبين ربيعا ديمقراطيا على طريقته، جاء خلال تعزيز مسار الإصلاحات، ويقوم على أساس محاربة الفساد ومواجهة تحديات البطالة وتحقيق التنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية ضمن إرادة سياسية مشتركة بين جميع المكونات السياسية من أحزاب وهيئات نقابية ومدنية.
وقد شكلت التحولات السياسية العميقة التي عرفها المغرب، مدعوما برغبة ملكية في ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان، لبنة من لبنات ورش الإصلاح السياسي والحقوقي الذي عرفه المغرب والذي يعتبر مثالا يحتذى في دول الجوار.
أفريقيا جنوب الصحراء
أما عن منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، فيشير مسؤول المكتب الأفريقي للاتّحاد الدولي لحقوق الإنسان “فلورون جيل” إلى أنّ “منطقة أفريقيا جنوب الصحراء شهدت نهاية الطغاة الذين حكموها نهاية تسعينات القرن الماضي، مما يعني أنّها انطلقت في المرحلة الانتقالية في وقت مبكّر مقارنة بدول شمال أفريقيا”، فالمجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا “سيداو” والتي تشكّلت في العام 1975 تعدّ اليوم من الأسواق الكبرى، حيث تجمع 15 دولة، أي ما لا يقلّ عن 308 ملايين ساكن، فهذه القوة الاقتصادية الإقليمية المستقرة تطرح في الوقت الراهن معدّلات نموّ تجاوزت الـ 6 بالمئة وفقا لإحصائيات سنة 2013، وهي أرفع نسبة على المستوى القاري.
ويواصل المسلمون الفرار من منازلهم في بانغي عاصمة أفريقيا الوسطى، ومختلف أنحاء البلاد إثر تصاعد الهجمات الطائفية، حيث زاد استهداف الأقلية المسلمة منذ تنصيب كاثرين سامبا-بانزا المسيحية، رئيسة مؤقتة جديدة للبلاد في فبراير الماضي، خلفا لميشال دجوتوديا، أول رئيس مسلم للبلاد منذ استقلالها عن فرنسا عام 1960، والذي استقال من منصبه بفعل ضغوط دولية وإقليمية.
أما في جنوب السودان فقد انزلقت الدولة الوليدة بعد انفصالها عن السودان في أتون صراعات داخلية بعد انشقاق نائب الرئيس السوداني ريك مشار، و دخوله في نزاع مسلح مع الرئيس سيلفا كير، ولا يزال الوضع غير مستقر مع المساعي الإقليمية لاحتواء الصراع بين الطرفين وإيجاد حلول سلمية، مع تفاقم حدة الوضع الإنساني وفرار الآلاف من السكان.
ومع أن الوضع السياسي والأمني العام في أفريقيا لا يزال غير مستقر في بعض بؤر التوتر، إلا أنه يبقى، حسب بعض الخبراء، نسبيا، ومن جهته، يرى الخبير في السياسة الأفريقية، ورئيس منظمة الطلبة الأفارقة بتونس “توري بلاماسي” أنّ انخفاض وتيرة الصراع إلى حدّ ما في القارة الأفريقية يعود بالأساس إلى النضج الفكري الأفريقي وارتفاع المستوى التعليمي، حيث “يتوفّر اليوم وعي أكبر لدى الأفارقة بأنّ مصالحهم ترتكز على السلام والاستقرار، لا على النزاع، ربما هذا الوعي موجود في أفريقيا السوداء الآن بدرجة أكبر من شمال أفريقيا”.
“بلاماسي” لفت أيضا إلى بعد استراتيجي ساهم في استقرار أكثر لأفريقيا جنوب الصحراء قائلا “ميزان القوة في أفريقيا جنوب الصحراء شهد تطوّرا مع دخول الشركاء الاقتصاديين الجدد إلى القارة، فلقد انتقلنا من أفريقيا التي كانت علاقاتها الخارجية مقتصرة فقط على القوى الاستعمارية السابقة (فرنسا وأنكلترا) إلى قارة قادرة على إدارة علاقاتها مع فاعلين جدد على غرار الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان.. فهذا الانفتاح أوجد نوعا من التوازن والاستقرار”.
وبين شمال القارة وجنوبها، يبقى ذلك الهلال الممتدّ من الصومال وصولا إلى موريتانيا، مرورا بالجنوب الليبي والنيجر ومالي، “المنطقة الرمادية” التي تضمّ الدول الضعيفة، والتي كانت في الغالب أرضية خصبة للإرهاب” حسب “بلاماسي”.