قراءه منهجية في التطرف
د. عدنان عويّد
التطرف لغة:
قيل في اللغة العربية : تطرف المرء, أي جاء الطرف وجاوز حد التوسط . وكلمة التطرف تستدعي إلى الذهن كلمة (الغلو). أي تجاوز الحد المعقول في مسألة من المسائل الفكرية,دينية كانت ام سياسية. وفي المصباح المنير جاء الغلو: بمعنى التعصب والتشدد حتى تجاوز الحد. والتطرف أيضاً: هو الميل عن المقصد الذي هو الطريق المُيَسُر للسلوك فيه . والمتطرف هو من يميل إلى أحد الطرفيين.
التطرف اصطلاحاً:
الغلو والتطرف في قضايا الشرع، والانحراف المتشدد في فهم قضايا الواقع والحياة”، (فالميل نحو أي طرف سواء أكان غلواً أم تقصيراً، تشدداً أم انحلالاً؛ يعتبر أمراً مذموماً في العقل والشرع.). “. وفي القرآن الكريم {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} آل عمران: 143. أي أمة عدل.
التطرف والانغلاق الفكري:
إن التطرف في حدوده القصوى يوصل المتطرف فرداً كان أم جماعة إلى التعصب والانغلاق الفكري لا محال, على اعتبار أن المتطرف يصل إلى مرحلة من الإيمان الذاتي بأنه هو وحده من يمتلك الحقيقة المطلقة, وأن ما يؤمن به من رؤى وأفكار وعقائد هي صادقة صدقاً مطلقاً وأبدياً, وبالتالي هي صالحة لكل زمان ومكان, ولا مجال للبحث أو النقاش فيها مع الاخر, كونها لا تحتاج إلى محاججة تفترض بالضرورة تقديم أدلة تؤكد أو تنفي ما هو معتقد به, ثم أن المعارف المتعلقة بهذا المعتقد بالأساس لا تستمد إلا من خلاله, فهو يحوز على المعرفة العالمة, ومن يحوز على هذه المعرفة (العالمة/المطلقة), من حقه أن يدين من يخالف عقيدته في الرأي أو التفسير, أي المخالف المخالف للحقيقة, وفرض معتقده عليه بالقوة.
إن المتطرف يمتاز بمجموعة من السمات والخصائص النفسية مثل : فقدان التوازن الفكري في اتخاذ الأمور, كثرة اللجاج والمخاصمة مع المخالف له في الرأي, التضييق والتشدد على النفس, الحماقة والعجلة من أمره, والنزق واتباع الهوى.
هذا وتلعب القيم السائدة في أي مجتمع من المجتمعات, دورا مهما فى التطرف، وبخاصة إذا وجد في أي مجتمع من هذه المجتمعات تعدد طائفي أو مذهبي أوديني. وإذا افتقد هذا المجتمع إلى المرجعيات العقلانية في حماية الفرد أو الجماعة, كدولة القانون أو المواطنة, سيبرز على الساحة بالضرورة المرجعيات التقليدية التي يجد فيها الفرد والكتلة الاجتماعية القوة والمرجع الاجتماعي اللذين يحققان لهم الأمان والاستقرار. وبالتالي ستدفع هذه المرجعيات التقليدية هذه الكتل أو الجماعات الاجتماعية إلى تنظيم نفسها حول فكرة أو أيديولوجيا معينة، لأنها تؤلف حولها الأنصار وتجمع لها المؤيدين، بعد إجراء التثقيف والتلقين المطلوب لهم، وما الأحزاب المختلفة الكثيرة التي تظهر في مثل هذه المجتمعات المتخلفة أيضاً, إلا مظهر من المظاهر الدالة على خلق مثل تلك الكتل الاجتماعية المنظمة التي تلعب في آلية عملها تلك القيم السائدة دورا مهما فى التطرف.فحتى هذه الأحزاب التي تتشكل في هذه المجتمعات غالباً لاتحقق مرجعيات عقلانية لأفراد المجتمع كبديل عن المرجعيات التقليدية كونها تخترق في بنيتها التنظيمية من قبل توجهات عقيديّة دينية أو مذهبية أو أثنية متزمتة, وهذا ما يحولها إلى أحزب طائفية وإثنية وقبلية وعشائرية, وإن جاءت تحت عناوين كبيرة لما يسمى الحرية والديمقراطية والتعددية ودولة القانون وغير ذلك. فتحت ظلال الديمقراطية الهشة الملغومة بالمرجعيات التقليدية, تنتعش الحريات المشوهة وتزدهر الأفكار المبتسرة, ويسمح لها أن تسير إلى أقصى حدودها التي تصب في نهاية المطاف في التعصب والتطرف.
التطرف الفكري وأبرز تجلياته عبر التاريخ.
على الرغم من أن التطرف لا حدود له فكراً وممارسة, ويمكن أن يتجلى في كل مسامات الحياة الإنسانية. إلا أن التطرف الذي نريد الحديث عنه هنا, هو التطرف الذي يساهم في إمكانية خلق إشكالات فردية ومجتمعية تعمل بهذا الشكل أو ذاك على تعميق تخلف المجتمع وتقسيمه عمودياً وأفقياً من جهة, وإمكانية الوصول بهذا المجتمع إلى الدخول في مضمار الإرهاب الأشد خطورة على حياة الفرد والمجتمع معاً من جهة ثانية.
إن التطرف الفكري موجود في كل المجتمعات بنسب متفاوتة. وهو ظاهرة عالمية وتاريخية ونسبية في تجلياته وأشكاله ودرجة حدتها أيضاً, ولكنه ينتشر بشكل واسع في المجتمعات المتخلفة والأكثر انغلاقاً وذات الثقافة, المؤدلجة والشمولية، ويتجسد في ممارسة الضغط أو العنف أو الاضطهاد ضد أصحاب الرأي المغاير أفراداً كانوا أم جماعات، وذلك بدعم من تنظيمات وأحزاب سياسية أو دينية تحرض عليه وتؤججه. والهدف هو إسكات الرأي الآخروإقصائه, ليتسنى لهذه التنظيمات نشر أفكارها دون أي معارضة من أية جهة أو رأي آخر. فعلى المستوى الفردي مورس التطرف الفكري والعملي تاريخياً ولم يزل ضد مَنْ كانت لهم أفكار حرة وآراء جريئة ومواقف مستقلة, نضجت من خلال تناولهم نقد موضوعات فلسفيّة أو دينيّة أو حتّى أدبيّة, وفق منهج اتخذ من العقل مرجعاً لحوامله الاجتماعيين يفرز بالضرورة مباحث وأفكارا ورؤى جديدة بينت تهافت كل ما هو مسكوت عنه, أو ما هو جامد وتقليدي تجاوزه الزمان والمكان. وهو ما يزعج الكثيرين من الذين تعوّدوا، على عدم التفكير, أو في الحدّ الأقصى التمسكين بالتفكير التقليدي، حيث وجدوا بالفكر الجديد العقلاني ما يزلزل كياناتهم الفكرية التقليدية القائمة, ويحدث في خرساناتها المتكلسة التي يتحصنون خلفها ضعفهم وعجزهم الفكري عن مسايرة قضايا الحياة ومستجداتها.(1)
عند استحضارنا و استبطاننا لتاريخ الغرب وتاريخينا, نقف، كثيراً على صور رهيبة من فظاعات الإرهاب الفكري المسلّط عبر العصور على أصحاب الرؤى الثورية الحرّة وأفكارهم الجديدة. الذين كان حالهم كمن يصرخ في صحراء ولا أحد يستجيب. فهل ننسى مثلاً ما مورس من تطرف وإرهاب على ” غاليلو غاليلي”,الذي اعتبرته الكنيسة مهرطقا، بعد قيامه بإثبات خطأ نظرية أرسطو حول الحركة التي قال بنسبيها رداً على نظرية أرسطو التي سادت على مدى عشرين قرنا, والتي قال فيها : (إنه لا علم إلا بما هو ثابت, فلا علم للزّائلات و الأعراض.… وإن يتغير الشيء, هو, أن يصبح آخر, لا أن يأخذ مكان شيء آخر). هذا فضلا عن نشره وعلى نطاق واسع لنظرية نيقولا كوبرنيك حول مركزيّة الشمس. وكيف ننسى حادثة إعدام أنطوان لافوازييه أكبر عالم فرنسي في زمانه وأبو الكيمياء في العصر الحديث، بعد خمس سنوات فقط من قيام الثورة الفرنسيّة. وقبل ذلك بقرون عديدة أعدم سافنو رولا حرقا في فلورنسا سنة 1498 جرّاء نقده اللاذع لكل من رجال الدين والسلطة الحاكمة. وبعد أكثر من قرن أحرق في ساحة روما سنة 1600، الفيلسوف المجدّد جيوردانو برونو جرّاء صموده وتمسّكه بآرائه وأفكاره ذات النزعة التجديدية التي تناقض قناعات الكنيسة وطروحاتها إن في الدين أو في العلم. وكيف كان السجن أيضاً, من نصيب المفكّر فولتير الذي اعتقل في سجن الباستيل الشهير وأطلق سراحه بعد موافقته على النفي إلى إنجلترا. وكبف طورد الفيلسوف جان جاك روسو. وذلك بعد أن أصدر برلمان باريس حكما في حقّه بالسجن وإحراق كتابه ‘إميل’ الذي يبحث في فن تربية الأجيال. وهو من الكتب الاكثر قراءة في المجال التربوي إلى اليوم.(2)
أما على مستوى التاريخ العربي والإسلامي, فقد كانت مأساة ابن المقفّع الذي ينتمي فكريّا إلى فرقة ”إخوان الصفاء وخلاّن الوفاء” لمجرّد كتابة مخطوطة (كليلة ودمنة) التي كانت سببا في تقطيع جسده الذي أكره على أكله مشويًّا حتى مات, وهو في مقتبل العمر، ولم يتجاوز السادسة والثلاثين. وهذا الحلاج بعد تكفيره، يلقى مصيرا مشابها، حيث تمّ صلبه حيًّا، وفي مرحلة ثانية قطع جسده قطعاً هو الآخر، لأنّه قال : (من هذب نفسه في الطاعة وصبر على اللذات والشهوات ارتقى إلى مقام المقربين, ثم لايزال يصفوا ويرتقي في درجات المصافاة حتى يصفوا عن البشرية. فإن لم يبق فيه من البشرية خط, حل فيه روح الإله….). وقد أراد القول بالتوحد: إن الإنسان الذي يتمثل أوامر الله وينفذها قد التحم به وأصبح مثالاً للخير المطلق, مع معرفته المسبقة بأن ليس كمثل الله شيئ في هذا الوجود. وهذا ما جعل “أبو حامد الغزالي” ينصفه وحمل اقواله على محمل حسن.(3). كما كفرابن العربي أيضا، لاعتقاده بحلول اللَّهِ فِي الْبَشَرِ وَاتِّحَادِهِ بِهِم. أمّا البيروني، فقد تمّ تكفيره بعدما ناقش مسألة تكوين مرصد للتنبّؤ بأحوال الطقس، وانكر جهلة عصره عليه ذلك وقالوا إن ذلك من اختصاص الله وحده. وكيف ننسى أبي حيّان التوحيدي، الكاتب المعتزلي المبدع الذي اتّهم بالزندقة والإلحاد لقوله بالتعطيل- وهو النفي والإنكار- فأحرق كتبه بنفسه نتيجة الإحباط ، بعد أن تجاوز التسعين من العمر وعاش بقيّة أيامه مستترا خوفا من القتل. وهل ننسى أيضاً الفيلسوف “ابن رشد”أفضل فيلسوف أنتجته الحضارة العربيّة الإسلاميّة على مدى تاريخها المديد. فهو قامة علميّة عالميّة سامقة. أثّر في العالمين الإسلامي والمسيحي ,وهو المترجم و الشارح الأكبر لنظريات أرسطو. لقد نفي وأحرقت كل كتبه لأنه كان أبرز المنتقدين لزعيم المتكلمين الامام “أبو حامد الغزالي” الذي كفّر فلاسفة الإسلام في كتابه “تهافت الفلاسفة” الذي شرح فيه تناقض منهجهم. فردّ عليه ابن رشد منتقدا في كتاب (تهافت التهافت) الذي أكّد فيه على الاعتراف بحق الاختلاف, وبالحق في الخطأ.
أمّا في تاريخنا الحديث والمعاصر, فقد ظلت حالات التطرف قائمة ايضاً, فهذا عميد الأدب العربي” طه حسين”قد كُفر، لِمَا ورد في كتابه ‘في الشعر الجاهلي”. لأنّ التكفيريين رأوا فيه محاولة للاعتداء على التراث العربي الإسلامي وزرع الأساطير والشبهات في قلب السيرة النبويّة لتلويثها بعد أن نقّاها مؤرخو الإسلام!. أما “نصر حامد ابو زيد” فقد جاء تكفيره بعد تكفير فرج فودة وقتله، كون نصر حامد، مارس الفكر النقدي العلمي الخالص، بتأليفه لكتاب ”نقد الخطاب الديني” الذي رأى أنّه يخلط ما بين الديني والفكري و يعتمد على آليّة النقل، دون تدبُّر العقل؛ بما يناهض الإبداع ويسبّب العقم الفكري. كما دعا إلى وجوب التحرّر من سلطـة النصّ القرآني كما فسرها بعص رجالات السلف المتزمت, ومن كل سلطة تعوق مسيرة الإنسان، فوقع اتهامه بالارتداد والإلحاد، وأقر جهلة التاريخ التفريق بينه وبين زوجته قسراً.
وفي ذات السياق كان قبله”علي عبد الرّازق” صاحب كتاب ”الإسلام وأصول الحكم” الذي كفّروه وسحبوا منه شهادته العلميّة وقطعوا عنه راتبه كموظّف. وكذلك “محمود محمد طه” وهو مفكّر إسلامي سوداني، أتهم بالردّة ثمّ أعدموه رغم سنّه المتقدمة . والمفكّر “حسين مروة” الذي قتلوه. وكيف ننسى معاناة التكفير والتهجير والاتهام بالعمالة للغرب لـ (محمد عبده ورفاعة الطهطاوي. وأيضاً علي الوردي وعلي شريعتي، اللذين نقدا الفهم التقليدي الجامد للدين وأصنافا من رجال الدين وتفكيرهم المتخلف عن قضايا العصر، ودعيا إلى ثورة في الفكر الإسلامي, فأعتبروهما تنويريين, ووقع تكفيرهما بتلك التهمة.!(4)
وأخيراً نقف عند التطرف الفكري/ الأيديولوجي والاقتصادي ونتائجه الهدامة على المجتمعات وتاريخ البشرية, حيث يمثله تاريخ الصراع بين عقلية العصور الوسطى للكنيسة وما مارسته في محاكم التفتيش. لتأتي الأيديولوجيا الليبرالية والنازية والفاشية في عصرنا الحديث لتمارس القهر الفكري ذاته على أوربا والعالم في الحربين العالميتين الأولى والثانية. أما في تاريخينا العربي والإسلامي. فكيف ننسى التطرف الفكري للخوارج في صدر الإسلام. وكذلك تطرف المعتزلة في عصر المأمون والمنصور والمتوكل ضد الفكر السلفي الحنبلي, ثم ما جرى من تطرف ايضاً ضد المعتزلو ذاتهم, من قبل الفكر السلفي الحنبلي لأهل الحديث بعد محنة ابن حنبل ووصول الواثق إلى الخلافة. وهاهم اليوم الأخوان والوهابيون يمارسون التطرف الفكري تحت إسم الدين, ويحابون المخالفين لرأيهم ,بل ويمارسون عليهم أشد أشكال الإرهاب من قتل وتكفير وزندقة وتهجير.
ملاك القول: إن التطرف بكل أشكاله, يتسبب في الأفعال اللا إنسانية التي تتبعه. فالتطرف مقدمة طبيعية للإرهاب، لأنه يحيا ويتقوى بفعل الفلسفة الفكرية المتطرفة التي تغذيه وتحوله من تنظير في الفكر إلى تطبيق في الفعل. وبهذا يكون التطرف وجه العملة الفعلي للإرهاب.
كاتب وباحث من سورية
الهوامش:
1- (1-2-4 مجلة القس العربي – المهندس فتحي الحبوبي – تشرين الثاني- 2013)
2- 3- كتاب – تاريخ الإسلام – حسن ابراهيم حسن – ج3 – ص 234- 235 ).
………..
لنشرة المحرر … الدكتور عدنان عويد