المثقف والسلطة

د. عدنان عويّد

adnan oayeed

في المفهوم:

أولاً: في مفهوم المثقف: هل المثقف هو الباحث والمفكر في الشؤون السياسية والاجتماعية والفكر المجرد عموماً؟، أم هو الأديب والفنان والفيلسوف بكل ما تحمل هذه المفردات من دلالات؟، أم هو الأستاذ الأكاديمي المتخصص في أحد العلوم الإنسانية أو العلمية؟، أم هو كل هؤلاء انطلاقاً من موقعه الاجتماعي والسياسي والوظيفي والأكاديمي؟.

يقول غرامشي في مفهوم المثقف قياساً لما جئنا عليه هنا: إن مفهوم المثقف أوسع من ذلك بكثير، فالمثقف عنده، هو كل إنسان يمتلك رؤية معينة تجاه المحيط الذي يعيش أو ينشط فيه، لأن الثقافة في عرفه ليست مهنة، ولا معياراً يقسم المثقفين إلى طبقات وظيفية. وهذا التعريف برأيي صائباً من الناحيتين المنهجية والوظيفية معاً للمثقف العضوي، وأن هناك الكثير من المفكرين والمنظرين ممن يلتقي مع هذا الفهم الذي تقدم به غرامشي للمثقف، مع اعتقادي أيضاً بإمكانية النظر إلى المثقف بشكل عام وظيفياً ومنهجياً من باب التخصص الأكاديمي أيضاً .

عموماً نستطيع القول في هذا الاتجاه: إن المثقف من الناحيتين المنهجية والوظيفية هو من امتلك وعياً اجتماعياً وسياسياً ومهارات إبداعية خلاقة، وقدرة على توظيفها في المجتمع وقضاياه تحليلاً وبناءً، وذلك وفقاً لمصالح قوى اجتماعية محددة. وهذا بالتالي ما يدفع إلى نمذجة المثقف قيمياً من الناحية النظرية والعملية، ما بين مثقف سلبي، يمثله المثقف الانتهازي والوصولي والمتعصب والمهاتر، وكل من يقف ضد مصالح المجتمع، وآخر إيجابي يمثله أنموذج المثقف، الملتزم بتنمية المجتمع وتطويره ويأتي في مقدمته المثقف العضوي.

ثانياً: في مفهوم السلطة: أيضاً تعددت الآراء والمواقف الفكرية حول مفهوم السلطة أو تعريفها، بيد أن جل ما جاء حول هذا المفهوم كان يشير إلى أنها – أي السلطة – الدولة أو الحكومة، أو هي القوة المنتمية إلى النظام الرسمي ألدولاني المؤسساتي، ممثلة بالقوى الحاكمة، التي تستطيع أن تهيمن على حياة ومقدرات الشعب، وتفرض الجزاءات بسلبها وإيجابها على أفراده، عبر مؤسساتها التنفيذية والقضائية والتشريعية .. الخ . أو بتعبير آخر: هي وسائل مادية ومعنوية تمتلك في جوهرها قوة إخضاع للفرد والمجتمع سلباً أو إيجاباً، وفقاً لرغبة ومصالح منتجها وحاملها الاجتماعي، انطلاقاً من الفرد، ومروراً بالطبقة، وصولاً إلى المجتمع ككل.

إذاً، وفقاً لهذا المعطى، نجد للدولة سلطتها، وللمجتمع سلطته، وللطبقة سلطتها، وللفرد سلطته. فسلطة الدولة تتجلى في أيديولوجيتها وفي قوانينها وأنظمتها وشخص الحاكم والطبقة الممثلين لها. ففي المجتمع مثلاً، تتجلى في تقاليده وأعرافه، وكذلك في سلطة عشيرته وقبيلته وطائفته، كما تتجلى السلطة في قوة ومكانة شيخ العشيرة والقبيلة والطائفة، وفي الثقافة تتجلى السلطة في إبداعات الفنان والأديب والفيلسوف، وفي الإعلام، بما يسوقه هذا الإعلام لهذه القوى الاجتماعية أو تلك من مشاريع فكرية أو أيديولوجية ..الخ .

أمام كل هذه المعطيات، تأتي مسألة دور المثقف وتعقيداته في بِنْيَةِ هذه الدولة (السلطة). وربما الأسئلة التي سنطرحها على أنفسنا أدناه تشير أو تدل على عمق الإشكالية ذاتها:

1- هل كل مثقف يعمل مع السلطة الحاكمة، في إعلامها ومؤسساتها الثقافية بحكم عمله الوظيفي الرسمي الذي تفرضه شهادته العلمي ومهاراته ولقمة عيشه، هو مثقف سلطة بمفهومها السلبي؟. أي هو مثقف انتهازي ووصولي؟.

2- هل كل مثقف من خارج السلطة، ويعمل على تحليل بنية الدولة تحليلاً عقلانياً، ويشير إلى محطات تخلفها وسلبيات عمل حواملها الاجتماعية إيماناً منه بتقدم هذه الدولة والنهوض بها، هو مثقف معارض ويعمل على إسقاط الدولة والتآمر عليها مع الخارج؟ .

3- هل كل مثقف يحمل أو يؤمن بآيديولوجيا تتفق مع سياسة الدولة، أو مخالفة لأيديولوجيتها، هو مثقف سلطة، أو هو معارض متآمر إن كان مخالفاً؟ .

أعتقد أن هذه الأسئلة حيوية ومشروعة، وتتطلب منا الإجابة عليها في الوقت نفسه.

إن مسألة تحديد مَنِ من المثقفين يدخل في خانة التآمر والخيانة على بلده وشعبه، مسألة ليست بحاجة لكثير من العناء حتى ُتحدد، فكل من ينتج أو يتبنى ويسوق بوعي وإرادة قائمتين على معرفة مُسَبَقَةٍ، فكراً معادياً لوطنه قد طرحه عدو بلده، أو يلتقي معه بهذا الشكل أو ذاك في الطرح فهو خائن ومتآمر، وبالتالي من البداهة أن نقول أيضاً في هذا الاتجاه: إن كل من يشجع المستعمر على احتلال بلده أو تجويد صورة المستعمر واعتباره منقذاً لوطنه، فهو خائن ومتآمر. ثم أن كل من ينتج ويسوق لفكر يدعو إلى تفتيت اللحمة الوطنية والقومية، كأن يدعو إلى الطائفية والمذهبية أو العشائرية أو القبليّة، فهو أيضاً متآمر على وطنه. وكذلك كل من ينتج ويسوق لفكر أصولي جمودي (وثوقي) أو امتثالي أو أسطوري أو تغريبي أو استبدادي يساهم في ظلم أفراد المجتمع وتجهيلهم وعدم السماح لتطور المجتمع والدولة، فهو خائن ومتآمر. وأخيراً أن كل مثقف يعمل على محاربة الفكر التنويري والعقلاني ويبخس أي إنجاز تقدمي تفرضه ضرورات الحياة، كتحرير المرأة، وتشجيع الفن، ومحارب القيم والعادات والتقاليد البالية.. الخ، فهو بالضرورة خائن ومتآمر على وطنه ودولته. هذه برأي هي سمات وخصائص المثقف المتآمر والخائن لوطنه وشعبه. بيد أن هناك مثقفون آخرون وضعيون يعملون لخدمة الدولة، وهم يدعون فكرياً إلى العلمانية والليبرالية والتقدمية، مثلما هناك رجال دين ومشايخ وفقهاء يعملون أيضاً تحت خدمة مؤسسات الدولة ويروجون للفكر الديني الذي تتبناه هذه الدولة، قد يدخل هؤلاء جميعاً تحت إسم المثقف الانتهازي والوصولي والمهاتر، على اعتبار أن ما يؤدونه من وظائف ثقافية للدولة أو القوى الحاكمة، حيث لا يهم من تأدية هذا الدور إلا تحقيق مصالحهم الشخصية فقط، إذ تقتصر وظيفتهم هنا على تجويد القوى الحاكمة من خلال مواقع عمل رسمية تكلفهم بها الدولة والسلطة الحاكمة من أجل هذه الغاية، في الوقت الذي تعرف فيه الطبقة الحاكمة أن معظم هؤلاء لا تجد عندهم من الناحية المنهجية والمعرفية أي موقف استراتيجي ثابت سوى التطبيل والتزمير لها ولغيرها. وبالتالي انطلاقاً من إيمان هؤلاء أشباه المثقفين، بأن مسألة التعاطي مع الثقافة ليست أكثر من كونها وظيفة سلطوية، وهي لا تستقيم مع شرف الكلمة، وأن أكثر ما يطمحون إليه في ممارستها غواية مادية ووجاهة ورفاهية، مع معرفتهم المسبقة بأن ما يقومون به سيفاقم من مأساة الواقع وثقل معاناته على المواطنين. هذا مع معرفة السلطة أيضاً بالنتائج الكارثية المترتبة على هذا التناغم بينها وبين هؤلاء أشباه المثقفين، إلا أنها غالباً ما تكون بحاجة في فترات معينة من تاريخها لمثل هؤلاء المثقفين المطبلين المزمرين، الذين تُكسبهم السلطة صفة المعرفة لتبرير سياسات لها، ولكن الخطورة أن الاستمرار في الاعتماد على مثل هؤلاء الانتهازيين من المثقفين، سيشكل ظاهرة ثقافية لا يعود من السهل القضاء عليها أو تجاوزها، وأن القوى الحاكمة ذاتها بسبب شهوة السلطة وممارستها اللاعقلانية تصبح بحاجة ماسة دائمة لمثل هؤلاء المطبلين والمزمرين.

بيد أن المأساة في ذلك، هي أن هؤلاء المطبلين، يصلون بدورهم إلى مرحلة يعتقدون فيها أنهم وحدهم من يحق له أن يقود العملية الثقافية وحتى السياسية والتنظير والتخطيط لها في الدولة والمجتمع.

المثقف القدوة:

أخيراً نقول حول المثقف القدوة، أو المثقف العضوي على حد تعبير “غرامشي”: إن المثقف القدوة هو المثقف الذي استطاع منهجياً ووظيفياً أن يمتلك القدرة النقدية في التعامل مع الواقع تحليلاً وتركيباً، لمعرفة الكثير من معوقات تقدمه، وعوامل نهضته، والأهم هو ما ينتجه هذا الواقع من تخلف على كافة المستويات. وبالتالي غالباً ما يشكل هذا المثقف جزءاً من التركيبة الثقافية في بلده، حيث يساهم هنا وهناك بنشاطاتها، إن كان من خلال عمله الوظيفي الرسمي، أو من خلال مؤسسات ثقافية أهلية، وذلك إيماناً منه بضرورة التأسيس لوعي وثقافة عقلانية وتنويرية في وطنه، يمكن نشرها عبر ما هو متاح له من وسائل ثقافية تسمح بها ظروف نشاطه الثقافي والفكري، وقد كان من بين هؤلاء المثقفين من شكل أحزباً سياسية لعبت دوراً هاماً في حياة المجتمعات، أو من نظر لخلق أيديولوجيات قومية ووطنية مشبعة بالحس الإنساني، ومنهم أيضاً من ساهم في تطوير الكثير من الأنساق المعرفية والإبداعية في الفلسفة والفن والأدب وكان من المشاركين في السلطة أو أحزابها .

كاتب وباحث من سورية

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…