في أيديولوجيا تيارات الإسلام السياسي
الأربعاء, 26 مارس 2014
عن التجديد العربي
أحسن القائمون على المهرجان الوطني للتراث والثقافة– الجنادرية حين وضعوا موضوع المواطنة والإسلام السياسي، على رأس عناوين الندوات التي شهدها المهرجان هذا العام. والعنوان يحمل معنى متضمنا بمناقشة الأفكار والرؤى التي تلتزم بها هذه التيارات. وقد كان لي شرف المشاركة في هذه الندوات والاستفادة من تلك المناقشات والحوارات.
ستقتصر المناقشة في هذا الحديث، على النمط العام في آيديولوجيا الإسلام السياسي. ونتناولها هنا، بمفهومها الكلي، باعتبارها منهجا عقائديا شاملا، بأبعاد وأوجه معقدة، وليست مجرد مدلول سياسي. ذلك لأنها في بعدها السياسي، تقتصر على تناول العلاقة بالخيارات والمؤسسات السياسية المختلفة، في حين يبرز بعدها الاجتماعي، علاقتها بالمجتمع وبمؤسساته. أما البعد السكيولوجي، فيتلخص في علاقته كظاهرة اجتماعية، وفكر جماعي للذات، وباللاوعي والوجدان والرغبة.
الأديولوجيا نقيضة للعلم، ذلك أن المهمة الأساسية للعلم، هي المساعدة على اكتشاف هذا الكون، وقهر الطبيعة، والعمل على تحقيق قدر أكبر من الرخاء والعيش الكريم للإنسان. ويفترض فيه أن يكون وصفيا، حياديا، كميا ودقيقا. أما الأديولوجيا، فمهمتها تحديد رؤية معرفية، للكون وللمجتمع والإنسان، تتبلور في صياغات وأطر تمنح ذاتها، مواقف وأدوات، ترى أنها تقربها من طروحاتها في شتى مجالات الحياة. إنها بمعنى آخر، موقف من الأشياء ومناهج تمد بقواعد من السلوك. ويفترض أن تكون تعبيرا عن أفكار قيمية، تعبوية هدفها الأساسي، ليس المعرفة، بل العمل. هذا يعني باختصار، أن مهمة العلم، هي اكتشاف هذا الكون، بينما تتكفل الأيديولوجيا بتحديد موقف منه.
تتناقض الايديولوجيا مع الواقع، لكنها تتقاطع في حالات معه. فالناس يطمحون لتغيير الواقع. يغلفون تنافسهم وصراعاتهم، بأقنعة أيديولوجية. في حين يفترض بالمصالح أن تكون موضوعية مستقلة عن الأوهام والتقديرات الذاتية. ولا تستثني حركات الإسلام السياسي، موضوع هذه الندوة، من هذه القراءة.
في أيديولوجيا الإسلام السياسي، تتناقض الرؤى مع الممارسة. ويخلط بين العقيدة والسياسة، وبين الأممية ودولة المواطنة. ويغيب عنها أن الدين عقيدة، والسياسة تسوية. في الدين تمسك بالمبادئ، أما السياسة فهي فن الممكن، وفيها مراعاة للمصالح. وفي العادة لا يتردد رجال السياسة، عن عقد صفقات مع الشيطان، لتحقيق مصالحهم، ولتلافي مخاطر تحدق ببلدانهم.
تتشكل نظرية الإسلام في الحكم، في رؤية تيارات الإسلام السياسي، استنادا على الخلافة، كما تصورها الفقهاء، والتي لم يستمر تطبيقها في دار الإسلام زمنا طويلا. ذلك يعني أنها في صياغتها منفصلة عن الواقع الاجتماعي والسياسي. فقد تجاوزها التطور التاريخي، بمراحل كبيرة. لكنها ظلت ملهمة للمخيال الجمعي لهذه التيارات. في هذا السياق، يرى الجابري، أن منطق الجماعة لا يتأسس على مقاييس معرفية، بل على رموز مخيالية تؤسس لموقفها من الأشياء. ومن وجهة النظر هذه، فإن المواقف والرؤى تتم بمعزل عن كل استدلال ودون حاجة إلى قرار.
المعضلة في هذه الأفكار، أنها لا ترتبط بالواقع الاقتصادي والاجتماعي، في عصر الثورة الرقمية. فهي أسيرة تاريخ، مختلف عن الواقع الراهن، وهي تمثل لرؤى رومانسية، منقولة من الماضي إلى الحاضر. إن الأساس الجامع لها، هو غربتها التاريخية، وبديماغوجيتها. إنها جزء من بنية كلية، يصعب التفريق فيها بين ما هو أساسي وجوهري. والنتيجة أن معاركها وصراعاتها، لا تكون بالضرورة انعكاسا للواقع الاقتصادي الذي تعيشه هذه الجماعات، بل في الغالب، محاكاة لصراعات قديمة تجد أسسها في الماضي وليس بالواقع الراهن.
أول ما يواجهنا عند محاولة تفكيك بنية هذه الجماعات، أنها بنية تحل فيها الهجرة المستمرة، بديلا عن الانتماء للوطن. وما دامت الرسالة أممية، فالوطن معدوم. وتجد هذه الرؤية جذورها فيما قبل نشوء الدولة الحديثة، في المجتمعات غير الزراعية، حيث القانون هو الترحال المستمر إلى حيث يوجد الكلأ والماء. والعلاقة الرومانسية، بأبعادها العاطفية والوجدانية لا ترتبط بالمكان، ولكن بغيمة المطر وجدول الماء. إنها تغن بعلاقة الفرد بالخيمة ووسيلة النقل، وكلاهما متحرك. وتتجلى الفروسية بالدفاع عن الحبيبة وعن مضارب الخيام، حيث يختزل مفهوم الوطن.
تنعدم في هذه البيئة المجتمعية، الحاجة لفكرة الوطن. إن حضور مفهوم الوطن يعني الاستقرار، وتشذيب العصبية، وترسخ فكرة الانتماء للأرض، تتحدد ملامحها وطبيعتها وخصائصها وحدودها، وذلك ما لا ينسجم مع طبيعة مشروع الإسلام السياسي، المستند على عقيدة الهجرة المستمرة، والترحال الدائم. وهو موقف يأتي منسجما مع مورثات سكنت في النفس منذ عهود سحيقة، وأضيف لها أجر الدنيا والآخرة، حين تم الجمع بين الجهاد والغنيمة. واختزل ذلك في بلوغ إحدى الحسنيين: النصر أو الشهادة.
والأفكار هنا لا تحتمل النسبية، أو السؤال والشك. والنتيجة أنها ترفض التنازل، من أجل التوصل لحقائق مشتركة، إن ذلك يجعلها باستمرار على الجادة النقيضة لعلم السياسة. ولذلك يسود التكفير بدلا من التفكير.
من أبرز حركات الإسلام السياسي، جماعة الإخوان المسلمين، وهي حركة أسسها الشيخ حسن البنا، في مدنية الإسماعيلية، بمصر عام 1928، قريبا من قناة السويس. والهدف المعلن من تأسيسها دعوي بحت, لكنها سرعان ما تحولت إلى حركة سياسية متطرفة دون أن تغير من أساسيات فكرها.
يرجع كثير من المراقبين التحول في برنامج الجماعة، لتأثرهم بفكر الشيخ أبو الأعلى المودودي، زعيم الجماعة الإسلامية بالهند. والقاعدة الفكرية للشيخ المودوي متأثرة إلى حد كبير بأوضاع بلاده. فالمسلمون في الهند يعيشون في محيط من البشر، من غير المسلمين. وقد رأى الشيخ، أن المسلمين، يعانون من أوضاع شاذة، كونهم يعيشون في دار الشرك، وأن خلاصهم يقتضي هجرتهم من تلك الدار إلى دار الإسلام. وتلك كانت القاعدة الفكرية، التي صنعت هوية باكستان، بعد انفصالها عن الهند.
وأخطر ما مرت به الجماعة، هو إسقاطات ما حدث في الهند، على أوضاع مصر، حيث انطلق السيد قطب في كتابه معالم الطريق، من ذات الرؤية، معتبرا المجتمع المصري، دار شرك، تقتضي المسؤولية الدينية، هجرته، والعمل بالقوة المسلحة، على إعادته لدار الإسلام. وقد وضعت تلك الأفكار المقدمات، لعواصف وبراكين عاتية شهدتها المنطقة والعالم بأسره ، ولا زالت تداعياتها ماثلة أمامنا حتى هذه اللحظة.