يعتبر مفهوم المجتمع المدني من المفاهيم المتداولة بشكل واسع في الخطاب الثقافي الغربي و العربي ، و من هنا تكمن ضرورة العمل على المستوى المفاهيمي لتأصيل هذا المفهوم ، عبر إعادة صياغته و تحديد مدلولاته النظرية و العملية ، مما يستدعي رصد مكوناته المعرفية و العودة إلى الفضاء الزماني و المكاني الذي شهد ولادته لرسم الملامح العامة للتطورات و التمايزات التي طرأت عليه في سياق صعود أوربا الصناعية الرأسمالية ، باقتصادها و فلسفاتها و حراكها الاجتماعي الاصلاحي المتدرج و الثوري التغييري ، أي في جملة العوامل و الأحداث التي ساهمت في تكريس قطيعة متعددة الوجوه مع عالم العصور الوسطى . و نظرا للطابع الإشكالي الذي ينطوي عليه مفهوم المجتمع المدني ، باعتباره تجريدا ذهنيا لواقع اجتماعي شديد التعقيد و التباين ، يزخر بالتناقضات و لا يتوقف عن التغيير ، فقد عمدت هذه الدراسة إلى تحديد مكونات مفهوم المجتمع المدني النظرية ، كما تبلورت في إطار النظرية الليبرالية بمفرداتها الأساسية : العقد الاجتماعي مقابل نظريات الحق الإلهي للملوك ، التعددية السياسية بديلا للحكم المطلق ، إقرار حق المواطنة و الحريات العامة في الحياة و الملكية و العمل و الرأي و المعتقد بعد أن كانت هذه الحريات مقتصرة على الملك و النبلاء ، أي على أقلية أرستقراطية تمتلك حق التصرف في شؤون الدنيا و الآخرة ، و أخيرا الانتقال إلى مبدأ سيادة الأمة المشتق من حق المواطنة الذي جاء تعبيرا عن تجاوز الانتماء التقليدي في صيغه الدينية و المذهبية و الاثنية ، باتجاه علاقات اجتماعية طوعية و تعاقدية و حرة ، ينتظم فيها الأفراد لتحقيق غايات و مصالح مشتركة . وقد جاء مبدأ فصل السلطات و استقلالية الأجهزة القضائية و التشريعية عن السلطة التنفيذية ليحد من تمركز السلطات ، و يعيق إمكانية التحكم غير الشرعي في شؤون الدولة و المجتمع . و اعتمادا على الخلفية التاريخية لمفهوم المجتمع المدني ، كان الخيار الثاني منصبا على معاينة التطورات و التمفصلات و الانقطاعات الدلالية التي شهدها المفهوم خلال تاريخه الطويل . و هذا ما يحيل على أهمية تقصي المنظومة المفاهيمية التي شكل جزءا منها ، كما ظهرت عند عدد من المفكرين أمثال هوبز ، و لوك ، و روسو في مرحلة أولى ، و من ثم متابعة التحولات و الإضافات التي طرأت عليه عند كل من هيغل ، و ماركس ، و غرامشي ، و التوقف عند الرهانات النظرية ، و التوظيفات الإيديولوجية ، و الآفاق المعاصرة التي أكسبته المزيد من الأهمية على ضوء التغييرات و التحولات الكبرى التي شهدها العالم في السنوات القليلة الماضية . الحقيقة أنه بالرغم من الاجتهادات العديدة التي طرحت تعريفات لهذا المفهوم و حاولت تحديد نطاقه و أطرافه ، إلا أن الخلافات بينها مازالت متعددة ، يقينا أن هذه الخلافات في العديد من الأحيان ليست محض اختلافات في الدقة الأكاديمية للتعريف بقدر ما هي انعكاس لاختلافات في الرؤية لطبيعة مفهوم المجتمع المدني و الدور المنوط به تحديدا . فهناك من طرح المجتمع المدني بديلا للدولة و هناك من طرحه كمكمل لدور الدولة ، و هناك من يطرحه كمعارض للدولة و للسياسات الدولية السائدة ، و كممثل لفئات الشعب المختلفة التي تتأثر بهذه السياسات … . و تتراوح الاختلافات أيضا في تحليل مكونات المجتمع المدني من حصره في المنظمات الأهلية ، و هناك العديد من الذين يطرحونه بشكل أوسع كثيرا ليشمل كافة التنظيمات الاجتماعية و الاقتصادية التي تقع خارج نطاق الدولة ، إضافة إلى الأحزاب السياسية ، لذا من المفيد أن نتناول المحطات التاريخية للتطور الفكري لهذا للمفهوم ، من أجل تتبع تطور الأفكار حوله و أهميته في الوقت الحاضر. يرجع العديد من المفكرين طرح مفهوم المجتمع المدني إلى القرنين 17 و 18 على وجه الخصوص أي مع بداية الصراع من أجل نشأة و تطور الدولة القومية الحديثة و الذي كان مزامنا لأولى بوادر صعود البرجوازية و تكسر العلاقات ما فوق الاقتصادية التي سادت خلال القرون الوسطى . لكن البعض الآخر يرجع هذا المصطلح إلى عصور قديمة خاصة في المدارس الفلسفية في الجمهوريات الكلاسيكية الرومانية على وجه التحديد و الجمهورية الرومانية أيضا . تلك المدارس التي كانت قد انزوت ونساها التاريخ الأوربي في عصور الفيودالية ( العصور الوسطى ) ، و قد تم إعادة دراستها و تطوير الخطاب حولها في بداية عهد النهضة الأوربية من القرن 14 إلى القرن 15 ثم في عصر التنوير في نهاية القرن 17 و خلال القرن 18 . ففي المدرسة الكلاسيكية اليونانية استخدم مفهوم المجتمع المدني كمرادف “للمجتمع الجيد أو الرشيد” ، فكلمة مدني بالانجليزية civil تترجم في بعض الأحيان إلى مهذب أورشيد أو المتمدن civil manner السلوك المتمدن . فبالنسبة لسقراط على سبيل المثال فإنه رأى أن الصراع و الخلافات داخل المجتمع يجب أن يتم حلها عن طريق الجدل أي طريقة الحوار المنطقي لكشف الحقائق . و قد رأى سقراط أن الحوار الاجتماعي عن طريق الجدل هو حاسم من أجل تأكيد التمدن في المجتمع و أنه هو الطريق الذي يعود على المجتمع بالنفع العام ، أما بالنسبة لأرسطو فإنه نظر إلى المجتمع أو الدولة باعتبارهما تجمع التجمعات التي تمكن المواطنين من المشاركة في المهمة الفاضلة المتعلقة بأن يحكموا و يحاكموا . و قد ظهر مفهوم المجتمع المدني في هذه المجتمعات أي الجمهوريات الكلاسيكية القديمة ، و بالرغم من أنها كانت مجتمعات مبنية على امتلاك العبيد فإن المجتمع نفسه كان يعيش في ديمقراطية خاصة ، خارج هذا الإطار العبودي ( فالعبد لم يكن مواطنا ) ، أما المواطن فله حقه بل واجبه في المشاركة في الحكم و خلق النظم و الآليات التي تعمل على تطبيق ذلك . تزامن انهيار الإمبراطورية الرومانية و سقوط روما ، مع الإطاحة بمفهوم المواطنة و المشاركة في الحكم و التمدن … ، ليحل محلهما منطق الحق الإلهي و الحرب العادلة و هيمنة الثيوقراطية الكنسية و ملاك الأرض ، أما المجتمع بمعنى الناس الذين يعيشون على الأرض فكانوا في الأغلب من الفلاحين المرتبطين بها فهم بمعنى من المعاني ملك لملاك الأرض و مسؤولين منهم و لا يجمع بينهم سوى المكان و العلاقات الأسرية الممتدة و الانتماءات القبلية . لم تكن قضية المواطنة مطروحة بل تدهورت و تراجعت معها قضية المشاركة و الاحتياج لتنظيمات مجتمعية ، لأن الدولة القديمة انهارت و لم تتطور بعد الدولة الحديثة . كما شرع فلاسفة عصر النهضة في التنقيب على المباحث الكلاسيكية للعصور القديمة خاصة اليونانية التي اعتبروها مرجعيتهم الفكرية في تلك الفترة الأولية للتطور فقد بدأوا أيضا في استعادة المفاهيم حول الدولة و الدولة القومية و المجتمع و المواطنة و كذا الحقوق ، حيث انشغلوا بمناقشتها و مناقشة كافة المفاهيم المرتبطة بالحق الإلهي للحاكم و قضية المواطنة و طريقة الحكم و حقوق المواطنة، خاصة في عصر التنوير الذي ارتبط بالثورات الكبرى الانجليزية في القرن 16 ، و الفرنسية في القرن 18 . في أواخر عصر الفيودالية لعبت حرب الثلاثين سنة الدينية في أوربا ثم معاهدة وستفاليا التي تلتها ، دورا هاما في ميلاد الدول الحديثة في أوربا . فالمعاهدة أكدت على حق وجود دول في نطاقات جغرافية كوحدات سياسية ذات سيادة ، و كنتيجة لذلك استطاع الملوك ممارسة هيمنتهم المحلية من خلال تقليص نفوذ السادة الفيوداليين ، و عدم الاعتماد عليهم في حروبهم ، و بداية تشكيل الجيوش القومية ، و البيروقراطيات المحترفة ، و الإدارات المالية : أي مؤسسات الدولة الحديثة . لقد أسس كل هذا لمرحلة الملكية المطلقة في أوربا التي شكلت المرحلة الأولى في ميلاد الدولة الحديثة و بالتالي المجتمع المدني الحديث . فقد شكلت هذه التطورات الموضوعية اللبنات الأولى لتطور المفاهيم الفكرية ، و السياسية التي على إثرها تمت تحديدا مناقشة الحق الإلهي للحكام ، و حق المواطنة الذي أدى إلى الإطاحة بالحكم المطلق إبان ثورات القرن 18 و 19 و ميلاد الدولة و المجتمع البرجوازي الحديث . خلال هذه الفترة عرف مفهوم المجتمع المدني تطورا خاصا ، فمن المفكرين البارزين الذين تناولوا هذا المفهوم نجد توماس هوبز و جون لوك ، حيث نقض هذان المفكران العديد من المفاهيم التي ارتبطت بالحكم المطلق و الحق الإلهي للحكام و حاولا في المقابل طرح نظريات للحكم و إدارة المجتمع انطلاقا من المنطق الإنساني المجرد من أية تقييدات فكرية أو دينية . و في سياق تفسير نوازع الإنسان و العقل الإنساني ، بلور هوبز محورين أساسيين للتناقض و هما قانون الطبيعة من جانب و العقد الإجتماعي من جانب آخر . فبالنسبة لهوبز تنطلق دوافع الإنسان و طبيعته مما أطلق عليه سيادة المصالح الشخصية ̸ الفردية ، و هذا النزوع إذا ترك فإنه يؤدي إلى حرب بين جميع الناس ، و لكن الإنسان إذ يعي مخاطر الفوضى التي يؤدي إليها قانون الطبيعة ، فإنه يدرك الاحتياج إلى التوصل مع آخرين في المجتمع إلى اتفاق يحميه . أما بالنسبة لهوبز فإن هذا الاتفاق يتجلى في تشكيل الدولة من قبل الناس ، أي تفويض حاكم للحكم نيابة عنهم و التخلي عن سيادتهم الفردية لصالح حكم مشترك ، حيث رأى هوبز أن الدولة تمثل هذا الحكم المشترك الذي يجب أن يتخلى الناس خلاله عن سيادتهم الفردية من خلال عقد اجتماعي . إن نظرية العقد الاجتماعي بالنسبة لهوبز طرحت محوريين للعلاقات ، المحور الأول عمودي و هو العلاقة بين الحاكم و المحكومين ، و المحور الثاني أفقي بين المحكومين بعضهم البعض ، و هو الذي يتجلى في توصل المواطنين إلى تعاقد بينهم تحت رعاية الحاكم يحمي نزوعهم إلى المصالح الفردية من التعدي على مصالح الأشخاص الآخرين في المجتمع . المحور الأول يمثل الدولة و المحور الثاني يمثل المجتمع المدني ، فالتحليل النهائي لطرح هوبز هو أن المجتمع المدني يشكل حكومة و دولة ، و لكن من أجل الحفاظ على مجتمع يدير علاقته بشكل متمدن فهناك ضرورة الحاجة لدولة قوية . في المقابل فإن جون لوك و إبان الصراع خلال الثورة الانجليزية الكبرى بين الملكية و البرلمان ، بلور نظريته على فكرة أن العقد الاجتماعي يعتمد على مجتمع مدني قوي و دولة محدودة الصلاحيات . و بالرغم من الاختلافات فإن نظرية العقد الاجتماعي بالنسبة لمفكري العصر التنويري ترى أن الدولة و الحكم هما نتاج اختيار منطقي من قبل المجتمع لطريقة الحكم ، و لا تستمد حكمها أو صلاحياتها من الآلهة أو الأديان أو شيء آخر فوق الإرادةالحرة للبشر . فبالنسبة للوك فإن الشعب يخضع نفسه لسلطة عامة مشتركة ( الدولة ) ، و هذه السلطة تمتلك القوة للتنفيذ و المحافظة على القوانين . كما أن الدولة لا تمتلك القوة لتهديد الحقوق الأساسية للمواطنين ، و هذه الحقوق بالنسبة للوك تتمركز في حق حماية الحياة، الحرية ، و الملكية . و تبقى المأثرة الرئيسية لمفكري هذه المرحلة هي مواجهتهم و رفضهم لقضية الحق الإلهي في الحكم ، و تأكيدهم أن البشر قادرون على تشكيل النظام السياسي الملائم لهم و لقانون الطبيعة و النفع العام للمجتمع . و فيما يخص العلاقة بين المجتمع المدني و الدولة فإنه لم يكن هناك فصل حقيقي بينهما ، لكن المسألة كانت محصورة في إطار دور مجتمع مدني قوي في اختيار الدولة و تشكيلها ، و دور الدولة كمسؤول مفوض من قبل هذا المجتمع ، و قد كان تأثير ذلك واضحا من خلال خلخلة كافة العلاقات التي تعطي الدولة و الحاكم صفة فوق أفراد الشعب ، و تجعله بمعنى من المعاني موظف مفوض من قبل المجتمع محاسب منه و لا يستمد قوته إلا من هذا التفويض .
يأتي بعد ذلك هيغل ليفرق بين المجتمع المدني الذي استخدم له مصطلح ( مجتمع المواطنين ) و الدولة كمستويين منفصلين ، فبالنسبة لهيغل فإن المجتمع المدني نشأ في مرحلة من تطور الرأسمالية ليخدم مصالحها ، فإذا كان المجتمع المدني يمثل مستوى تحقق العلاقات الرأسمالية فإنه بطبيعة الحال يمثل مصالح و قوى متناقضة ، و بالتالي يحمل إمكانات الصراع داخله ، و عدم التكافؤ في القوى . في المقابل فالدولة التي رآها هيغل كأعلى تحقق للقيم و المبادئ في الحياة ، أكد أن دورها الأساسي هو تحقيق الرصد و الرقابة المستمرة لمجتمع المواطنين ( المدني ) من أجل الحفاظ على نظام أخلاقي متفق عليه . فالدولة بهذا المعنى لديها القدرة و السلطة و المسؤولية لتمارس تصحيح المشاكل التي ولدت مع المجتمع المدني . في مقابل أطروحة هيغل ركز كارل ماركس على أن المجتمع المدني يشكل القاعدة التحتية لقوى الإنتاج و العلاقات الاجتماعية ، و هي التي تهيمن عليها الطبقة السائدة اقتصاديا و إيديولوجيا أي الطبقة الرأسمالية . أما الدولة فخلافا لهيغل رأى فيها ماركس أنها البناء الفوقي الذي يمثل هيمنة الطبقة السائدة أي الطبقة الرأسمالية تحديدا ، و بالتالي فقد أكد أن دور الدولة هو التقنين و الحفاظ على هيمنة الطبقة الرأسمالية و الدفاع عن مصالحها أي عن علاقات الإنتاج و الملكية ، و إذ كان ماركس قد طرح بأن هذه العلاقات تقسم الشعب بشكل متزايد إلى طبقة رأسمالية تمتلك وسائل الإنتاج و التبادل ، ففي المقابل تبرز الطبقة العاملة التي لا تمتلك سوى قوة عملها لتنظم نفسها و تعمل على تغيير علاقات الإنتاج الرأسمالية ، عن طريق الاستيلاء على الدولة و استحواذ المجتمع بقيادة الطبقة العاملة التي تمثل أغلبية الشعب على وسائل الإنتاج و التبادل و بناء النظام الاشتراكي كمرحلة انتقالية للشيوعية .
يطور فريدريك انجلز تصور مسار النضال من أجل الاشتراكية في مقدمته لكتاب ” الصراع الطبقي في فرنسا ” سنة 1895 ، خلافا للتصورات التي سادت منذ ثورتي ( 1830 ) و ( 1850- 1848 ) و كومونة باريس . و تأتي أهمية هذه المقدمة بالنسبة لقضية المجتمع المدني ، في أنه ربما وضعت لأول مرة صيغة النضال السلمي الطويل الأمد كعملية تعمل من خلالها الطبقة العاملة و حزبها على التنافس مع الرأسمالية على مؤسسات المجتمع المدني تحديدا ، كمقدمة لابد منها تسبق انتزاع السلطة السياسية لصالحها ، مستفيدا من تجربة الحزب الاشتراكي الديمقراطي في ألمانيا حينذاك في النضال عبر البرلمان و تزايد شعبيته و حضور منظماته في المجتمع ليقول : ” إن الاستخدام الناجح لحق الاتنخاب العام و الذي يعد خبرة جديدة للطبقة العاملة ، قد علمنا طرقا جديدة في النضال … فقد وجدنا أن مؤسسات الدولة و التي يتم تنظيم حكم البرجوازية من خلالها ، تتيح للطبقة العاملة روافع هامة للنضال داخل هذه المؤسسات تحديدا . فبدأ العمال في المشاركة في كافة المجالات بدءا من انتخابات بعض البلديات إلى الانتخابات المحلية الأخرى وصولا إلى المجالس التجارية … لقد عملت الطبقة العاملة على منافسة البرجوازية على كافة المناصب في المهن التي وجد العمال لهم فيها فرصة لتواجد رأيهم و تحقيق نفوذهم . و هكذا حدث أن البرجوازية و الحكومة أصبحتا أكثر خوفا من النشاط الشرعي عن النشاط غير الشرعي لحزب العمال ، و أكثر خوفا من نتائج الانتخابات عن أشكال التمرد … ” . و يأتي مغزى هذا المقال بالرغم من أنه لم يتناول المجتمع المدني إسما ، إلا أنه بالنسبة للتيار اليساري الماركسي يعد أول حديث عن أهمية التنافس على مؤسسات المجتمع ( وفقا للماركسية هي مؤسسات البرجوازية ) و تزايد نفوذ الحركة فيها كشرط أساسي لتحقيق النفوذ الأكمل في السلطة السياسية و الدولة. فإذا اعتبرت الماركسية مؤسسات المجتمع المدني هي مؤسسات برجوازية أو تهيمن عليها البرجوازية لتحقيق مصالحها و تسييد فكرها ، فقد أكدت لأول مرة على أهمية تنافس تيار الطبقة العاملة و حزبها الاشتراكي على هذه المؤسسات من أجل تطوير نفوذه و فكره في المجتمع .
يعتبر أنطونيو غرامشي من أهم المفكرين اليساريين الذين تناولوا مفهوم المجتمع المدني ، حيث يقول في أحد النصوص الهامة من دفاتر السجن : ” ما نستطيع أن نفعله حتى هذه اللحظة ، هو تثبيت مستويين فوقيين أساسيين ، الأول يمكن أن يدعى المجتمع المدني ، الذي هو مجموع التنظيمات التي تسمى ( خاصة ) ، و الثاني هو المجتمع السياسي أو الدولة . هذان المستوييان ينطويان من جهة أولى على وظيفة الهيمنة حيث إن الطبقة المسيطرة تمارس سلطتها على المجتمع ، و من جهة ثانية تمارس الهيمنة المباشرة أو دور الحكم من خلال الدولة أو الحكومة الشرعية ” . يحتوي المجتمع المدني عند غرامشي على العلاقات الثقافية – الإيديولوجية ، و يضم النشاط الروحي و العقلي . و إذا كان صحيحا ما قاله ماركس من أن : ” المجتمع المدني هو البؤرة المركزية و مسرح التاريخ ” ، فإن المجتمع المدني هو اللحظة الإيجابية و الفعالة في التطور التاريخي ، و ليس الدولة كما ورد عند هيغل . غير أن اللحظة الإيجابية و الفعالة ، أي المجتمع المدني تمثل الظاهرة التحتية ( القاعدة ) عند ماركس ، بينما هي عند غرامشي لحظة فوق بنيوية ( بناء فوقي ) . و هذا ما يفسر اهتمامه الواسع بقضايا الثقافة و اشتغاله المطول و المتعمق بمفهوم المثقفين ، عبر التفرقة الشهيرة التي قام بها بين المثقف التقليدي و المثقف العضوي ، و دور الأخير في عملية الهيمنة . في النص المقتطف من ” الماضي و الحاضر ” يتكلم غرامشي عن المجتمع المدني كما يفهمه هيغل ، و سرعان ما يوضح أنه يعني به ” الهيمنة الثقافية و السياسية ، حيث تمارس الطبقة الاجتماعية هيمنتها على كامل المجتمع كاحتواء أخلاقي للدولة ” . بمعنى أن المجتمع المدني الذي قصده غرامشي عندما أشار إلى هيغل ، ليس تلك المرحلة البدائية لانفجار التناقضات التي يجب على الدولة أن تتغلب عليها ، لكنها المرحلة النهائية من تنظيم المصالح المختلفة المقدمة من القاعدة كمرحلة انتقالية باتجاه الدولة .
لقد أدخل غرامشي قطيعة جديدة في المضمون الدلالي لمفهوم المجتمع المدني ، باعتباره فضاء للتنافس الإيديولوجي . فإذا كان المجتمع السياسي حيزا للسيطرة بواسطة سلطة الدولة ، فإن المجتمع المدني فضاء للهيمنة الثقافية الإيديولوجية ، و وظيفة الهيمنة هي وظيفة توجيهية للسلطة الرمزية التي تمارس بواسطة التنظيمات التي تدعي أنها خاصة مثل النقابات و المدارس و دور العبادة و الهيئات الثقافية المختلفة . تتبدى استقلالية الايديولوجيا في الهيمنة الثقافية باعتبارها رؤية للعالم لا تستمد قوتها و قدرتها من التغلب و فرض السلطة كما هو الأمر في حالة السيطرة ، و لا من عقلانية مفترضة أو منطق مجرد ، بل من احتضان كتل المجتمع المتجانسة و إقامة اللحمة بينها . كتب غرامشي حول هذا المعنى في إشارة منه إلى ضرورة امتصاص القوى الحليفة من أجل ” خلق كتلة سياسية اقتصادية تاريخية متناسقة جديدة من دون تناقضات داخلية ” ، و أضاف موضحا أن سيادة أي طبقة اجتماعية أو تحالف طبقي تستوجب هيمنتها : ” إن تفوق أي كتلة اجتماعية يتخذ شكلين اثنين هما : (السيطرة) و(الإدارة) الثقافية الأخلاقية (الهيمنة) ” . هذه الهيمنة الثقافية التي لا تعرف مركزا و لا تأتي عن آلية موحدة ، بل هي نشاط متعدد المراكز يقيم تجهيزاته و تنظيماته خارج الدولة ، و في فضاء المجتمع المدني تحديدا ، في محاولة منها – الهيمنة – لإقامة سياسة للإيديولوجيا يكون الهدف منها استعادة المجتمع المدني لحقه في ممارسة شرعيته و الوصول إلى سيادته على مكونات وجوده الخاصة . بهذا يكون غرامشي أول من استعمل مفهوم الهيمنة بمعنى القيادة ، و إيجاد سياسة ثقافية تهدف إلى تنسيق و توحيد مواقف الفئات و الطبقات الاجتماعية كمقدمة لا بد منها لتحقيق السيادة ، و ذلك من خلال فاعلية الحزب ” المثقف الجمعي ” و قدرته على حشد و تعبئة كل أصحاب المصلحة في التغيير تحت قيادته ، و ذلك لأنه يحمل لواء الإصلاح و التغيير ، و يسعى لنشر آليات هيمنته الثقافية و السياسية على كامل المجتمع . هكذا يرى غرامشي على غرار ابن خلدون أن المطاولة الثقافية هي أساس و شرط المطاولة السياسية .
فمع غرامشي و دراساته عن المجتمع المدني و المثقفين بدأ تحول وجد استطالاته في دراسات مدرسة فرانكفورت ( أدرنو – ماركوز – هابرماس ) وصولا إلى التركيز على الرأسمال الرمزي ، و إعادة الاهتمام للفاعلين الاجتماعيين في أعمال عالم الاجتماع المعاصر بيير بورديو ، و ما رافق ذلك من انشغال واسع بحقوق الإنسان و حرياته ، مما جعل من الديمقراطية أحد مرتكزات الفكر السوسيولوجي المعاصر الذي حاول – في بعض رموزه – اكتشاف مزايا الليبرالية من جديد ، بل أكثر من ذلك بدأ الحديث يتسع ليطال أشكالا جديدة من التنظيم الإجتماعي تتجاوز الأفق الليبرالي رغم تأسسها عليه . هكذا عبرت كتابات ” جون رولز ” في مؤلفه ” نظرية العدالة ” ، و آراء نعوم تشومسكي في ” ردع الديمقراطية ” عن نزوع متزايد لتوسيع آفاق الفهم الديمقراطي عبر ربطه بالعدالة الإجتماعية و معالجة المشكلات التي تعترض التطور الديمقراطي بالمزيد من الديمقراطية .
يكمن القول أخيرا إن معرفة و إدراك تاريخية هذا المفهوم ، و تحديد مرتكزاته المعرفية و الإيديولوجية ، و بالتالي علاقته بالمفاهيم الأخرى ، هي المقدمة الضرورية لمعاينة و فهم أسباب شيوع و انتشار هذا المفهوم في الخطاب الثقافي و السياسي الغربي و العربي و الدلالات الجديدة التي يكتسبها ، و التي لا تنفصل عن الإشكاليات التي تثيرها هجرة المفاهيم و انتقالها من فضاء ثقافي و حضاري ، كالفضاء الثقافي الغربي عموما ، إلى فضاء مغاير كالفضاء الثقافي العربي . لذلك فمن الضروري التعرف على الكيفية المختلفة التي حاول الفكر العربي المعاصر عموما و السوسيولوجي منه بصفة خاصة نقل و تبيئة مفاهيم مثل الديمقراطية ، المجتمع المدني ، الحداثة ، المعلوماتية … . غير أن تلك المحاولات المتعثرة إلى حد بعيد لا تمنع البحث في الاشكاليات التي يثيرها مفهوم المجتمع المدني في حقل تداوله الغربي و العربي الجديد ، بل تبين ضرورة تحديد و تحليل العقبات و العوائق المعرفية و الإيديولوجية ، على المستويين النظري و الاجتماعي ، و التي تحول دون تحوله إلى جزء عضوي من الثقافة العربية المعاصرة رغم شيوع تداوله و أجرأته في السنوات الأخيرة .