سوء تقدير هنا.. وحساباتٌ هناك

توتر صامت يُلقي بظلاله على العلاقات المغربية الموريتانية

بقلم :  محمود معروف – الرباطswissinfo.ch

معروف

هو خبر صغير، اتضح أنه كان صحيحا، لكن قراءته المتعدّدة، كشفت عن وجود أزمة في العلاقات المغربية الموريتانية، حتى وإن نفاها مسؤولو البلديْن وحاولوا الإستدلال على إنكارهم بمؤشّرات تؤكِّد الأزمة ولا تلغيها، خصوصا وأنها لم تكن غائبة تماما عن المشهد منذ تولّي الرئيس محمد عبد العزيز مقاليد السلطة في نواكشوط.

الخبر الذي ورد أولا في موقع “الأخبار” الموريتاني يوم 2 مارس 2014، أفاد بأن موريتانيا سحبت محمد ولد مكحل، القائم بأعمال سفارتها بالرباط، احتجاجا على تصريحات منسوبة للعاهل المغربي الملك محمد السادس إبّان زيارته الأخيرة إلى العاصمة المالية باماكو، دون الكشْف عن مضمون هذه التصريحات والتأكّد من صحّتها.
 
في المغرب، التزمت الجهات الرسمية الصّمت، فيما نفت وزارة الخارجية الموريتانية أن يكون الرئيس محمد ولد عبد العزيز قد سحب القائم بالأعمال في سفارة بلاده من الرباط، وذلك أثناء لقاء جمع يوم الاثنين 10 مارس أحمد ولد تكدي، وزير الخارجية الموريتاني بالسيد عبد الرحمن بن عمر، السفير المغربي بنواكشوط.
 في السياق، قالت وكالة “الأخبار” الموريتانية، إن ولد تكدي أبلغ السفير بن عمر أن استدعاء محمد ولد لمكحل “هو تعيين القائم بالأعمال في وظيفة دبلوماسية أخرى، ضِمن إعادة ترتيب البيت الداخلي”، وأن “العلاقات الموريتانية المغربية لم تتغيّر”، وأن “ما نُسب للملك المغربي محمد السادس في إحدى المواقع الموريتانية، غير مُهم، لافتِقاده للمِصداقية”.

سلسلة من سوء التفاهم

في اتصال مع swissinfo.ch، أبدت مصادر موريتانية، طلبت عدم ذكر اسمها، استغرابها من التفسير “السيِّء” لقرار استدعاء القائم بأعمال السفارة الموريتانية في الرباط، محمد ولد مكحل، حيث أن هذا الدبلوماسي لم يُـسحب من الرباط، بل رقي إلى درجة سفير وعُـيِّن في العاصمة المالية باماكو، خلفا للعمدة محمد الأمين ولد خطري.
 
في المقابل، لم تنف المصادر نفسها وجود ضباب على العلاقات بين الرباط ونواكشوط غيَّم بُعيْد تولّي الرئيس محمد عبد العزيز الرئاسة الموريتانية (أغسطس 2008 قائدا لانقلاب، ثم رئيسا منتخبا في 2009 )، وذهبت  إلى أن سلسلة من سوء التَّفاهم أدّت إلى حدوث فتور ملموس بين الرئيس عبد العزيز والعاهل المغربي الملك محمد السادس، وأن آلية تدبير العلاقات بين البلدين، اتَّكأت – حسبما يبدو – على هذا الفتور للمزيد من البعاد بين البلدين على الصعيد الرسمي.

وكانت الرباط رحّبت بالجنرال محمد عبد العزيز رئيسا لموريتانيا، التي تُعتبر بالحسابات الإستراتيجية المغربية، مجالا حيويا ودِفاعا أمنيا للمغرب، نظرا لتشابُك البلد العضو في اتحاد المغرب العربي، بحُكم الجغرافيا والتداخل القبلي، بنزاع الصحراء الغربية بين المغرب وجبهة البوليساريو، المدعومة من الجزائر. من جهة أخرى، شكّلت موريتانيا المعبَر البرّي للمغرب باتِّجاه القارة الإفريقية، خاصة في ظل التوتر الدائم في العلاقات المغربية – الجزائرية وإغلاق الحدود بين البلدين أغلب الفترة الزمنية الممتدة من استقلال الجزائر وحتى الآن.
 
الترحيب المغربي بعبد العزيز رئيسا، أشّرت له وثائق ويكيليكس، وتقول المصادر الموريتانية التي تحدثت لـ swissinfo.ch أن أسبابه تُعزى بالأساس إلى أن عبد العزيز خرِّيج الكليات العسكرية المغربية (تلقّى من 1977 إلى 1980، تكوين ضابط مختلف – أسلحة في الأكاديمية العسكرية الملكية بمكناس، وتابع من 1993 إلى 1994 تكوينا رفيعا بالمدرسة الوطنية للأركان في المغرب)، كما أن زوجته تنتمي لإحدى القبائل المغربية، بل ربطته علاقات صداقة مع عدد من المغاربة، يُوجد بعضهم في مواقع المسؤولية.

سوء تقدير بروتوكولي

هذا الترحيب المغربي لم يُسفر عن صدور مواقف مماثلة من طرف موريتانيا بسبب ما وصفه البعض بـ “سوء التقدير”. وكانت البداية عندما طلب عبد العزيز القيام بزيارة رسمية إلى المغرب كأول بلد يزوره بعد تولّيه الرئاسة، إلا أن رد الرباط جاء متأخرا متضمِّنا اعتذارا عن الموعد المحدّد.. وعندما تم تحديد موعد ثان للزيارة، اعتذرت نواكشوط متعللة بأنه “موعد غير مناسب” لرئيسها، وإثر ذلك اختار الرئيس عبد العزيز أن تكون الجزائر – الشقيق اللّدود للمغرب – وجهة له. وحتى الآن، لم يقم الرئيس عبد العزيز، بوصفه رئيسا لموريتانيا، بزيارة إلى المغرب، رغم أنه تحول لزيارة جميع دول المغرب العربي، من الجزائر إلى تونس وليبيا في عهد معمر القذافي، بل تشير معلومات مؤكدة، إلى أن الأجواء المغربية ليست خطّا لمسار طائرته، رغم ما يعنيه ذلك من زيادة في الوقت المخصّص لرحلته وتكاليفها.

الفتور أو الجفاء الذي سبّبه سوء تقدير بروتوكولي، تحوّل إلى توتر غيْر مُعلن رسميا في العلاقات، بعد اتهام موريتانيا وبشكل غير رسمي، المغرب بالوقوف وراء محاولة اغتيال الرئيس عبد العزيز رمْيا بالرصاص، التي وقعت يوم 13 أكتوبر 2012، ولوحظ آنذاك تأخّر العاهل المغربي الملك محمد السادس في مُعايدة الرئيس الموريتاني بعدم الإتصال أو بتوجيه برقية، كما تمّ التجاهل في البرقية التي بعث بها الملك للرئيس الموريتاني بمناسبة عيد الأضحى الذي تلى حادثة محاولة الإغتيال بأسبوعين، ما حدث للرئيس عبد العزيز. كما تردّد، أنه رفض استقبال القائم بأعمال السفارة المغربية بباريس، الذي جاءه مرّتين بباقة ورد ليُعايِده في إحدى مستشفيات باريس، حيث كان يُعالَـج.
 
المصادر الموريتانية التي تحدثت لـ swissinfo.ch أكدت أن العلاقات المؤسساتية الرسمية أو الروابط الإنسانية بين الشعبين “لم تتأثر بتداعيات هذه الأجواء غير الصافية” بين زعيمي المغرب وموريتانيا، لكن بعض الأحداث التي تلت ذلك وردود الفعل عليها تؤكّد أن “شيئا ما” أضحى غير طبيعي في العلاقات بين الجانبين.

حوادث سير عابرة أم توتر وجفاء؟

في ديسمبر 2011، أقدمت السلطات الموريتانية على طرد حفيظ البقالِي، مدير وكالة المغرب العربِي للأنباء في نواكشوط، وأمهلته 24 ساعة لمغادرة أراضيها، وهو القرار الذي اعتبرته الرباط، وبغضّ النظر عن مسبِّباته، “غير ملائم”. وبعد ذلك، رفض الرئيس الموريتانِي استقبال عبد الله بها، وزير الدولة المغربي (نائب رئيس الحكومة)، الذي كان في زيارة إلى نواكشوط، وتم الإقتصار في استقباله الذي اتسم بالبرودة على بعض المنتخبين.
 
وفي صيف 2012، رفضت نواكشوط اعتماد القنصل المغربي الجديد ورفضت الإجابة على أسئلة المغرب بشأن المبرِّرات التي اعتمدت عليها في قرارها المفاجِئ. ومن ناحيته، اعتذر وزير الخارجية أحمد ولد تكدي، عن الإجابة بحكم أنه جديد في العمل وأنه سيُراجع الرئاسة الموريتانية لمعرفة حيْثِيات القرار. في الأثناء، تسبب القرار في صدور احتجاجات عن السائقين الموريتانيين العاملين قرب مركز نواذيبُو الحدودِي، لما اعتبروها عراقيل كثيرة تعترضهم عند طلب التأشيرة المغربية، فيما لا يلقَى السائقُون المغاربة تعاملا مماثلا.

في يوليو 2013، منعت سلطات النقل الجوي الموريتانية طائرة تابعة للخطوط الملكية المغربية من مواصلة رحلتها من مطار الدار البيضاء باتجاه مطار نواكشوط، باعتبارها تقع خارج الإتفاق المنظم للرحلات الجوية بين البلدين. وفيما حمّلت الخطوط الجوية الموريتانية نظيرتها المغربية مسؤولية الإرتباك الذي شهدته حركة الطيران المدني والرحلات بين الدار البيضاء ونواكشوط، إلا أن الخطوط المغربية أنحت باللائمة على سلطات الطيران المدني الموريتانية.
 
هذه الأحداث، التي يتوقّف عندها المتابعون لسير العلاقات الموريتانية – المغربية، يمكن النظر إليها على اعتبار أنها حوادِث سير عادية في مسار علاقات طبيعية بين بلدين شقيقين وجارين، إلا أن ما يسود بين قصري الرباط ونواكشوط من أجواء، يساعد على اعتبارها “علامات توتّر أو جفاء”، تؤكِّد المصادر الموريتانية وجودها، بل يزعم بعضها أن ما يُريده عبد العزيز يتلخص في تعامل الرباط مع نواكشوط بندية وعلى أساس أنها ليست قابلة للإستقطاب، وتذكر هذه الأوساط بتأخر المغرب (من 1964 إلى 1969) في الإعتراف باستقلال موريتانيا، وظهور تخوفات من طموحات مغربية بها.

آثار سلبية وشكوك متبادلة

على المستوى السياسي، تقول المصادر إن المغرب يشعر بخيبة أمل من السياسة الخارجية للرئيس الموريتاني عبد العزيز تجاه قضايا تهمّه، وعلى رأسها قضية الصحراء الغربية. فنواكشوط، التي كانت حليفا للمغرب عام 1976 وقاسمته إدارة المنطقة المتنازَع عليها حتى 1979، نزعت تحت قيادة ولد هيدالة نحو دعم جبهة البوليساريو حتى 1984، حيث ذهبت موريتانيا تحت قيادة معاوية ولد الطايع، نحو الحياد المائل للجبهة الذي انتهى بالحياد المائل للمغرب. وكانت الرباط تأمل من ولد عبد العزيز مواصلة هذا الحياد المائل، على الأقل، وهو ما لم تلمسه.
 المصادر أعادت ذلك إلى أن محمد بن عبد العزيز قد يكون اختار (بحساباته وقراءته لعلاقات بلاده مع الجزائر وعلاقتها مع المغرب، في ظل استقطاب حاد بينهما) الجزائر لثقلها السياسي والإقتصادي، إضافة إلى تأثير جبهة البوليساريو في موريتانيا، نظرا للترابط القبلي، وذهبت إلى أن الرئيس الموريتاني قد يرى أن الذهاب نحو الجزائر بعيدا عن الرباط “أضمنُ لحكمه واستقراره”.
 
أوساط موريتانية ربطت الحديث عن الأزمة الحالية، بتجاهُل العاهل المغربي لنواكشوط في الوساطة الملكية في مالي (المجاورة لموريتانيا) بين النظام الجديد في باماكو وطوارق الحركة الوطنية لتحرير أزواد. وفي هذا السياق، يبدو أن القادة الموريتانيين لم ترق لهم الوساطة الملكية، لأن نواكشوط (التي كانت تستعد للعب دور الوساطة هذا بعد أن أصبح الرئيس محمد ولد عبد العزيز رئيسا للإتحاد الإفريقي) توقعت أن يطرق قادة حركة تحرير أزواد بابها، بدلا من باب الرباط. وفي هذا السياق، أشار كاتب موريتاني في اليوم التالي من زيارة العاهل المغربي إلى مالي إلى أن “الملك محمد السادس يعبُر المجال الجوي عدة مرات في جولاته الإفريقية، دون زيارتنا أبدا في موريتانيا”.

بدورها، لا تتردد بعض الأوساط المغربية في تحميل الجزائر مسؤولية الأزمة الصامتة بين نواكشوط والرباط، وفي هذا الصدد يقول مصطفى نعيمي، الباحث الأنثروبولوجي ومدير الدراسات الصحراوية في جامعة محمد الخامس بالرباط: “إن الأزمة تأتي فيما تُطوِّر الرباط استراتيجية للإستثمار في موريتانيا، سيما في مجالات النقل والإعلام والتواصل، كما في القطاع البنكي، حيث أن الإقبال على البنوك المغربِية من أجل تمويل شراكات مع رجال أعمال موريتانيين، يزدادُ أكثر فأكثر، في الوقتِ الذِي تسعَى الرباط إلى مواصلة البحث عن أسواق في غرب إفريقيا، عبر محور الرباط – نواكشوط – دكار، الذِي لا يمكن للجزائر أن تنظر إليه بعين الرِّضا، مما يجعلها تتحرك بسخاءٍ في موريتانيا، كيْ تظل ما أمكنها حاضرةً بقوة”، حسب رأيه.
 
خلاصة القول، قد تكون المسألة مجرد أزمة عابرة أو حوادث سيْر خفيفة، لكنها تترك آثارها بالتأكيد على العلاقات بين بلدين محكوميْن بالجغرافيا والتاريخ والمستقبل، ويخشى مراقبون أن يُؤدي استمرار وقوع هذه الحوادث، إلى الذهاب بالعلاقات من الأزمة إلى القطيعة، وهي ظاهرة ليست غريبة عن العلاقات العربية – العربية، خاصة إذا كانت القصور هي عنوان الأزمة أو المتسببة في حوادث السير.

 

عن سويس ءانفو swissinfo.ch

 

‫شاهد أيضًا‬

عندما توسط الحسن الثاني بين شاه إيران والخميني * عمر لبشيريت

يحكي عبداللطيف الفيلالي رحمه الله، وزير الخارجية والوزير الأول الأسبق، أن اتصالات المغرب ب…