فلسفة الانغلاق … وفكر الانفتاح
بقلم ..عبد السلام بنعبد العالي
ما الذي نجنيه عندما نصفّي الحساب نهائيا، أو نتوهّم أنّنا قد صفّينا الحساب نهائيّا مع الفيلسوف، وأنّنا “كشفنا حقيقته” و”وضعناه في محلّه” و”أغلقنا” دونه الأبواب كلّها، فأجبنا عن الأسئلة جميعها، تلك التي يطرحها، أو تلك التي تطرح بصدده؟ ربّما لن نكون قد عملنا بذلك، على أقل تقدير، إلا على إغلاق الأبواب دوننا، وحرمان فكرنا من حرية الانفتاح.
ذلك أنّ المسألة لا تتعلّق أساسا بكشف الحقيقة والإجابة عن الأسئلة، “وإنّما الخروج، الخروج منها” على حدّ تعبير دولوز. وليس الخروج بطبيعة الحال هو الابتعاد. ليس معناه أن نغلق الأبواب دون الفيلسوف ودوننا “ونطلع برّه”. فليس الخارج موقعا هندسيا أو رقعة جغرافية، وإنّما هو “موقف” استراتيجيّ. إنّه حركة تصدع الداخل، انه انفتاحات “الداخل”، وهو المجال المفتوح للانفصال والالتقاء اللامتناهيين.
فبينما تتميّز أبواب الانغلاق بمحدوديتها، إن لم نقل بأحاديتها، فإنّ فجوات الخروج لامتناهية. فعوض منهج يسعى في تاريخ الفلسفة نحو التوحيد والضمّ والانشغال بنقطة البداية والانطلاق، وصولا إلى أبواب النهاية والاكتمال، يتمّ البحث هنا عن نوافذ الانفلات. كتب دولوز ذات مرّة:” كنت أفضّل الكتّاب الذين كان يبدو أنهم ينتمون إلى تاريخ الفلسفة، لكنهم كانوا ينفلتون من أحد جوانبه، ومن ثمّة يخرجون منه كلّية”. دولوز نفسه هو الذي كان قد نبّه فيما قبل أنّ الانغلاق والنزعة الشمولية الكلية اللذين طبعا تاريخ الفلسفة منذ ميلاده، جعلا الفلسفة تسعى لأن تغدو لغة رسمية لدولة خالصة، فصار الفكر يستمدّ شكله الفلسفيّ من الدولة كجوهر متقوقع على ذاته. فابتدع دولة روحية، دولة تعمل ذهنيا. دولة توقف وتلغي وتعاقب وتحدّ وتراقب. من هنا الأهمية التي اتخذتها بعض المفهومات في تاريخ الفلسفة كالشمولية و”جمهورية العقلاء”، و”موظّفي الفكر”، وتعالي المعاني، و”محكمة العقل”، و”تقصّي الحقائق” ENQUETEوالحكم والاعتراف، و”الدفاع” عن الحقيقة، و”اتّهام” الفلاسفة، والسؤال والجواب، والأخذ والردّ، والأفكار الصائبة، والحرص على أن نكون دوما جهة الأفكار المحقّة، والإنسان المشرّع، و”الحقّ” في التفكير…
ومن هنا أيضا السعي نحو “كشف حقيقة” الفيلسوف، ومعرفة “الحقيقة كل الحقيقة” في شأنه حتى أن اقتضى الأمر إيداع الفكر سجن “تاريخ الفلسفة”، و”إغلاق” جميع الأبواب دونه.
المصدر : . . عن سؤال التنوير