حسين مروة وجرأة البحث في الإسلام والمسلمين
|
القيادي الشيوعي البارز في لبنان والعالم العربي له العديد من المؤلفات التي اثير حولها الجدل، ودمه كان طريق
حزب الله للسيطرة على لبنان.عن صحيفة |
العرب عبد الحاج [نُشر في 09/03/2014، العدد: 9492، |
في مثل هذه الأيام من سنة 1987 سقط مروة من جراء رصاصات غادرة. لم تشفع له شيخوخته ومرضه، لا لشيء، فقط لأنه مفكر خارج السرب الطائفي والمذهبي، وينتمي إلى قوى خارج الاصطفافات الطائفية المتقاتلة في لبنان، وليس بوسع المرء حينما يفكر بشخصيات من طراز حسين مروة، إلا أن يجد نفسه أمام عوالم رحيبة خصيبة تحفزه بعمق وتواضع على التأمل في أعقد المسائل الفكرية المنحدرة من التاريخ والتراث العربيين. وكي يتسنى لنا الحديث عن حسين مروة، وكي نستطيع فهمه وتثمين دوره وما أعطاه، لا غنى لنا من أن نلمّ ولو يسيراً بالحياة التي عاشها.
من بيروت إلى النجف
ولد حسين مروة في جنوب لبنان لأسرة محافظة في العام 1910 وأرسله والده الشيخ علي مروة إلى النجف للدراسة في الحوزة العلمية، وهناك تعرف على حسين محمد الشبيبي وتوطدت علاقتهما فكان أن أعطاه الشبيبي كتاب (البيان الشيوعي) الذي سهر مروة ليلتين لقراءته حسب ما روى مروة نفسه وكان السبب الأول في بداية معرفته بماركس رغم تأخره عنه، ثم بدأ التحول الفكري لدى مروة يأخذ منحى علميا في بداية الأربعينات من القرن العشرين، يعترف مروة أنه يرتبط بالعراق وقضيته ونضاله، فبعد أن أصدر نوري السعيد قراراً بإسقاط الجنسية عنه وإبعاده خارج العراق كتب مروة مقالاً بعنوان (أنا عراقي.. وأن) نشر في جريدة صوت الأحرار البغدادية يوم 16 حزيران عام 1949 أي بعد أسبوع من خروجه من العراق، مثلت مدينة النجف التي عاش فيها مروة بلورة التأسيس الفكري لدى مروة والكتابة الأدبية في بداية حياته، لكن بعد استيعابه وتبنيه للفكر الماركسي واختياره الطريق لتوجهاته الذي (اعتبره) بداية وجود العدالة الإنسانية والاجتماعية في هذا الفكر الذي دفع حياته ثمناً لاعتناقه إياه، بعد طرده من العراق أعيد إلى لبنان لينضم إلى الحزب الشيوعي اللبناني بعد أن حرمه نوري السعيد من ممارسة نشاطه السياسي داخل العراق.
ابن الحوزة اليساري
ترأس حسين مروة تحرير المجلة الشهيرة (الطريق) من العام 1966 وحتى 1987 ودرّس مادة (فلسفة الفكر العربي) في الجامعة اللبنانية، و من يقرأ أبحاثه الهامة يلمس عنده هذه القدرة الخطيرة على تفكيك القول وتحطيم سكونية المفهوم. لم يقرأ مروة المفاهيم بانسلاخها من واقعها المادي حيث نبتت ونمت، فقد حاول دخول ساحات المفاهيم بدْءًا بمفاهيم تبدو للوهلة الأولى بديهية للثوري في وجودها وسياقها. هكذا تعامل مثلاً مع مفاهيم “الشرق والغرب”، “التبعية”، “الأصالة”، “التناقض”، “الحرب الأهلية اللبنانية”، ”الإسلام”،”الثورة”،”الطائفية”،”الدولة الطائفية”، ”العيش المشترك”،”الوحدة الوطنية”..ألخ وهي مفاهيم كما نرى ما زالت راهنة وراهنة جدًا. لم يتقبّل حسين هذه المفاهيم باعتبارها بديهيات للمفكر. قام بتفكيكها، مناقشًا مجادلاً، طارحًا الأسئلة والإشكاليات. ومن ثمة قام بخطوة كشف الغطاء عمّا تحاول إخفاءه هذه المفاهيم من تبعية، وكأنّ مهدي يسخر من هذه التسميات وما تؤشّر إليه في الفكر المهيمن أو في الفكر الموهوم.
ففي كتابه ”تراثنا، كيف نعرفه”، تخطّى حسين مروة الطريقة السلفية في معرفة التراث باعتباره قضية الماضي لذاته، وإسقاطه على الحاضر وإعادة إنتاجه بالتالي بصورته الغيبية، ليقدم سبل معرفة له، تقوم على الفكر العلمي الديالكتيكي، وتنظر إليه في تاريخيته، وتُصوّر الحاضر كحركة صيرورة تتفاعل من داخلها منجزات هذا الماضي وتؤسس للمستقبل.
التراث مادة التغيير
من خلال دراسة وتحليل الآثار الأدبية والفكرية والعلمية لأدباء ومفكرين وفلاسفة، طبعت أعمالهم المرحلة الممتدة من العصر الجاهلي إلى العباسي، مروراً بصدر الإسلام والأُموي، بطابع الثورية، كالصعاليك، ابن سينا، ابن المقفّع، الجاحظ، المتنبي، أبو العلاء المعرِّي، أبو نواس، جابر بن حيّان، ابن سعد، إخوان الصفاء، المتصوفة، ابن حزم وغيرهم، نفذ مروّة إلى تأريخ أمرين أساسيين أولهما الصراع الطويل الذي خاضته اللغة العربية كأداةٍ تعبيرية حيّة للفكر والأدب والفلسفة، بين القديم والجديد، أي بين النُّقاد واللغويّين والنحوييّن المحافظين، وبين حاملي راية التمّرد، على التقاليد القديمة، وإثبات أن عملية تطويرها، لم تكن لتتم بطريقة ميكانيكيّة، بل كان ذلك انعكاساً للتحّولات السياسية والانقلابات التي شهدتها كافة المراحل. وثاني الأمرين هو تأريخ مفاصل تمرحل التاريخ السياسي العربي وتطوره من العصر الجاهلي بنظامه القبلِي المنبثق من حياة البداوة البسيطة إلى ما بعد العصر العبّاسي بنظامه الإقطاعي- التجاري- الثيوقراطي الأكثر تعقيداً وتطوراً، مرتكزاً لذلك على دراسةً ديالكتيكيّة، لحركة تطور وتفاعل الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي بمجمله، وتبيان ارتباطه بتطور حركة القوى الاجتماعية المنتجة وعلاقتها بالأشكال التاريخية المسيطرة، إن في زمن حكمها أو في زمن تحولاتها وانتقالها إلى مرحلة أكثر تطوراً.
تفكيك المفاهيم
التفكيك المفاهيمي القاسي الذي مارسه مهدي عامل في كتابه “أزمة حضارة أم أزمة برجوازيات عربية” كان قوياً جداً بحيث أن ما يتوهّمه البعض من المفكرين العرب مقولاتٍ بديهية (والطوطم الأكبر لهذه المقولات مقولة الشرق والغرب) ينطلقون منها في محاولتهم تأسيس “نهضة” حضارية عربية، أو في محاولتهم الرد على السؤالين: لماذا تأخر العرب أو الشرق وتقدم الأوروبيون أو الغرب؟ وكيف يمكن أن يتقدم أولئك؟، إذًن ما يتوهّمه هؤلاء بديهيًا ينهار أمام مطرقة النقد الديالكتيكي التي يمسك مهدي بها، ليكشف “الشيء في ذاته” الماهية المتخفية خلف ما يظهر لنا للوهلة الأولى جوهرًا مكتفيًا بذاته لذاته، وليتكشف زيف هذه المقولات الجامدة فعليًا: فثنائية الشرق والغرب (وما يليها من توصيفات ثنائية ساكنة) ليست سوى مقولةٍ “غربية” (استشراقية امبرياليةٍ ورجعية بالتحديد) في نهاية المطاف، وتفكيك هذه المقولة سيكشف النهاية المأساوية لفكر حاملها، وهي انعكاس آخر لعجز الفكر البرجوازي العربي عن الخروج من مأزقه وعدم قدرته على قراءة الواقع الملموس كما هو بحركته وصيرورته الجدلية وأزماته الاجتماعية وتبعيته. وهذا ما يظهر أيضا بكيفية تعامل المثقفين العرب مع مفهوم التراث مثلاً؛ فمنطق الفكر البرجوازي العربي لا يستطع أن يتعامل مع التراث إلا من منطلقين: إمّا القطع المطلق أو إعادة الإحياء، وفي المنطقين وهمٌ لا يصدر عن التراث بذاته بل عن معالجة هذا الفكر للتراث بحيث يعيد إنتاجه في “شكلٍ يظهر فيه – أي التراث- كأنه بذاته في جمودٍ أو تحنطٍ أو تكرار”، وهكذا فالمشكلة ليست في التراث أي ليست “تراثية” بل في كيفية تعامل المفكرين العرب مع هذا التراث. وفي نقده لمفهوم التخلف يبيّن لنا مهدي عامل تلك الحلقة الدائرية المفرغة التي يسقط بها الفكر العربي المعاصر، فهذا يرى في التخلف الاقتصادي والاجتماعي والسياسي نتاج التخلف العقلي، وهذا التخلف العقلي يعود إلى كون هذا العقل ليس معاصِرًا، وكونه غير معاصر نتاج لكونه متخلفًا وهكذا دواليك! إذن هي رؤية غيبية بالأساس تحكم هذا الفكر العربي المعاصر، تبتعد به عن الواقع المادي ليصبح حل المشكلة المطروحة حلاً فكريًا مثالي الطابع، وهو حلٌ مثاليٌ بالضرورة من حيث أنه مظهر من مظاهر أيديولوجيا البرجوازية العربية في تبعيتها البنيوية للرأسمالية العالمية.
النزعات المادية في الإسلام
مهدي عامل رفيق مروة في الكفاح والشهادة، والذي اغتيل هو أيضا برصاص الطائفية المجرمة، يرسم صورة إنسانية لحسين مروة فيرى أنه في سيرة فكره ونضاله تختلط حياته ضد قوى القهر وأفكار القهر، ومنذ أن طردته من أرض العراق قوات الرجعية والتبعية ثار مع الثائرين على النظام في كتابات يومية هي رصد للواقع بعين الوجدان وموقف سياسي منه، إنه موقف من الكلمة وهي عنده قاصدة صائبة، إنه موقف مناضل. ثم يؤكد على أن “لحسين مروة، هذا الكادح من المهد إلى اللحد، تاريخ كفاح هو تاريخ حياة بكاملها، حياته أم حياة شعبه؟ حياته أم حياة حزبه؟”. ويشير إلى انه ‘كان راسخاً في فكره منذ أن ولد إلى الوعي الذي سيكون وعيه، وخاض معركة الواقعية في حقل النقد الأدبي وسيخوض معركة المادية في حقل الدراسات التراثية. وكان في كل مرة يخوض معركة الحرية والديمقراطية من أجل التقدم والاشتراكية”.
ويتناول محمد دكروب ملامح من المسيرة الفكرية لحسين مروة مؤكداً على حقيقة أنه منذ ظهور حسين مروة كاتباً ارتبطت صفته هذه بصفة كونه مناضلاً، فلم تنفصل الكتابة عنده ولا في أية مرحلة من مراحل حياته عن نشاطه العملي كمناضل، حتى كتابه الموسوعي الشمولي الأكاديمي “النزعات المادية” إنما كتبه في الأساس كإسهام في معركة أيديولوجية وكسلاح معرفي في معركة فكرية سياسية طبقية راهنة. وكان يرى في التزامه كتابة المقالة اليومية والأنواع الكتابية الأخرى شكلاً هاماً جداً من أشكال الممارسة الكفاحية باعتبار هذا الشكل علامة من علامات الحضور النضالي اليومي وإسهاما مباشراً في إنارة الوعي بالقضايا المطروحة وطنياً وسياسياً ومعاشياً وثقافياً. هذه المقاربة مهما حاولت ستظل قاصرة لأن حياة حسين مروة وفكره يحتاجان إلى الكثير.