عرض: حنان عبدالونيس عطية – باحثة في العلوم السياسية
خضعت قضايا السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية، فى مرحلة ما بعد أحداث سبتمبر، في صياغتها، وتوجهاتها، وأهدافها، فى جانب كبير منها لتأثير تيارات اليمين الديني والسياسي الأمريكي، والتى تصاعد تأثيرها فى السياسة الأمريكية خلال هذه المرحلة، سواء بصورة مباشرة من خلال مشاركة عدد من قادتها فى الإدارة الأمريكية بين عامى 2000 و2008، أو بصورة غير مباشرة من خلال الأطروحات الاستراتيجية التى قدمتها مراكز الفكر ومؤسساتها البحثية، والتى اعتمدت عليها بدرجة كبيرة الإدارة الأمريكية، وكذلك من خلال الحملات المضادة للمملكة التى تبنتها هذه التيارات داخل المملكة وخارجها، والتى زادت حدتها بعد أحداث سبتمبر، التى جاءت كاشفة، لحقيقة المواقف الأمريكية، الرسمية وغير الرسمية، من السعودية.
جاء ذلك بالرغم من ارتباط الدولتين بعلاقة تحالف استراتيجي منذ أربعينيات القرن العشرين وحتى الآن، كانت المملكة خلالها أحد أهم حلفاء الاستراتيجية الأمريكية، ليس فقط تجاه المنطقة العربية والعالم الإسلامي، ولكن فى استراتيجيتها العالمية، خاصة خلال مرحلة الحرب الباردة.
وقد جاء نمط قضايا السياسة الأمريكية، تجاه السعودية، خلال المرحلة التى تناولها كتاب ” البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية”، الصادرفي 2014 للدكتور عصام عبد الشافي، مرتبطاً بنمط التحديات التى واجهتها الولايات المتحدة مع الإسلام فى نموذجه السعودى إقليمياً ودولياً، من ناحية، وعلى ضوء تصاعد تأثير البعد الديني فى المجتمع الأمريكي، وانعكاس هذا التصاعد على توجهات السياسة الأمريكية، من ناحية أخرى.
وهذه القضايا التي تناولها الكتاب وإن بدت ذات طبيعة ثقافية دينية، كالإرهاب، وحقوق الإنسان، والتعليم، والمرأة، فإنها فى صميم السياسات الدولية الراهنة بصفة عامة، والأمريكية بصفة خاصة، وتشكل جانباً من القضايا غير التقليدية في السياسات الخارجية، والتى تؤثر وتتأثر بالقضايا التقليدية، كالتوزانات الإقليمية والمصالح الاستراتيجية.
وإذا كانت هناك قضايا ترتبط بالداخل السعودى أساساً، كالعمل الخيرى، والحرية الدينية، والتعليم، وحقوق الإنسان والمرأة، فإن إثارتها فى هذه المرحلة ارتبطت فى الجانب الأكبر منه بتأثير الداخل الأمريكي فى السياسة الخارجية الأمريكية، وصاغت الولايات المتحدة توجهاتها نحو هذه القضايا من خلالها منظومتها القيمية والحضارية، ورؤيتها للدين، والتى سعت لفرضها على الدول الإسلامية، ومنها المملكة العربية السعودية، دون أن تأخذ فى حسبانها مسئولية سياساتها الخارجية ذاتها عن توتير علاقاتها مع العديد من هذه الدول، من ناحية، وعن إفراز الاتجاهات المعادية لها من ناحية أخرى، حتى فى الدول الحليفة لها.
حرب الأفكار .. كمدخل للسياسة الأمريكية
وإذا كانت الولايات المتحدة قد انطلقت فى صياغة توجهاتها من قضايا العلاقات مع المملكة العربية السعودية من حرب الأفكار، كإطار عام حاكم لسياستها نحو قضايا الداخل السعودي، ومن الحرب على الإرهاب، كإطار عام حاكم لسياستها تجاه قضايا إقليمية وعالمية ذات صلة بالمملكة العربية السعودية، والإطاران (حرب الأفكار، والحرب على الإرهاب) من العمليات الجديدة في السياسة الخارجية، فإنها فى صياغتها توجهاتها وسياساتها تجاه المملكة العربية السعودية مزجت بين البعدين الديني/ القيمي، والمصلحى/ الاستراتيجي.
كما أن هذين الإطارين وإن كانا يعبران عن أبعاد دينية وقيمية وحضارية، ترتبط بالنموذج الحضاري والقيمي الذى تسعى الولايات المتحدة إلى فرضه، فإنهما يرتبطان فى الوقت نفسه بالأبعاد الاستراتيجية فى سياستها الخارجية، خاصة فيما يتعلق بالقضايا التقليدية لهذه السياسة، في المنطقة، كالتوازن الإقليمي، والصراع العربي- الإسرائيلي، والنفط.
وفى إطار هذا الارتباط، فإنه يصعب- إن لم يكن يستحيل- الفصل بين ما هو داخلى وخارجى فى هذه القضايا. فالحرب على الإرهاب، وإن كانت قضية عالمية، فقد ارتبطت بقضايا داخلية فى المملكة مثل تطوير التعليم، والعمل الخيري، والحرية الدينية، كما أنها ارتبطت بقضايا تقليدية، كالصراع العربي- الإسرائيلي، وتأمين مصادر النفط.
كذلك حرب الأفكار، فهى وإن كانت عملية جديدة في السياسة الخارجية، وترتبط بالقوة المرنة، والتى تعبر عن استراتيجية عالمية للولايات المتحدة، فإنها قد ارتبطت بقضايا داخلية في المملكة، كالمثاقفة الفكرية التى تصدت لها عدة تيارات داخلية فى المملكة، رداً على ما نادت به تيارات داخلية أمريكية، حول النموذج الحضارى الإسلامي، وما يقوم عليه من مرجعية، فى مواجهة النموذج الحضارى الأمريكي، من ناحية، كما أنها ترتبط فى الوقت نفسه بقضايا التعليم، والحريات الدينية، وحقوق الإنسان فى المملكة، من ناحية أخرى.
وفي هذا الإطار، يمكن تناول الكتاب حرب الأفكار، والحرب على الإرهاب، كإطارين عامين لقضايا السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية، مع تحليل قنوات كل إطار منهما. فمن ناحية، اتخذت حرب الأفكار عدة قنوات داخلية، منها: تطوير التعليم، والحرية الدينية، وحقوق الإنسان والإصلاح السياسى. ومن ناحية أخرى، اتخذت الحرب على الإرهاب عدة قنوات خارجية، منها: العمل الخيري، والعراق، والتوازن الإقليمي.
أدوات الضغط الأمريكي على السعودية
وفى إطار هذه القنوات، أثار الكاتب عدة إشكاليات حول أدوات وقنوات الضغوط الأمريكية فى كل منها، وحجمها، مقارنة بطبيعة الحالة السعودية، ودورها فى الاستراتيجية الأمريكية، وقائمة أولويات هذه الضغوط، ومغزى ترتيبها، ثم نتائجها مقارنة بحجمها، وهل هى ضغوط معلنة من أجل إحداث تغيير، أم مجرد دفع المملكة لتقديم تنازلات أو مرونة أكثر في توجهاتها الإقليمية تجاه قضايا استراتيجية إقليمية وعالمية؟ والأهم، ماذا تريد الولايات المتحدة للسعودية، ومن السعودية؟ وما حقيقة السيناريوهات الأمريكية، الرسمية وغير الرسمية حول مستقبل المملكة؟.
فى إطار هذه الإشكاليات، أكد المؤلف أهمية أن الفصل بين الداخلي والخارجي جاء لأمور تحليلية فقط، وأن التركيز على هذه القضايا دون غيرها جاء استناداً لأهميتها ومحوريتها في السياسة الأمريكية، كما تم التركيز على تأثير البعد الديني في صياغة توجهات وأهداف وأدوات السياسة الأمريكية، فى الإطار العام لكل مستوى من مستويات هذه القضايا، وفى قنواتها الداخلية والخارجية، مع بيان مدى التداخل بين هذا البعد والبعد الاستراتيجي والمصلحى في هذه السياسة.
وقد خلص مؤلف الكتاب إلى مجموعة من النتائج الأساسية، منها:
أولاً: إن أحداث سبتمبر 2001، شكلت العامل الأوسع والأكبر تأثيراً، من حيث انعكاساته على الولايات المتحدة الأمريكية، بل وعلى العلاقات الدولية فى المرحلة التالية، حيث كانت مقدمة للعديد من السياسات والإجراءات التى تبنتها الولايات المتحدة ضد الدول العربية والإسلامية، وفرصة لها لفرض المزيد من الضغوط على هذه الدول، وفى مقدمتها المملكة. وكان النموذج الإسلامى الذي تجسده المملكة أهم الأبعاد التى توجهت إليها الضغوط الأمريكية فى تعاطيها مع المملكة بعد أحداث سبتمبر، حيث كان محوراً للعديد من التوجهات والسياسات التى تنبتها الإدارة الأمريكية، فى محاولتها لاحتوائه من ناحية، وتهميشه من ناحية ثانية، وتفكيكه من ناحية ثالثة.
ثانياً: إن غلبة التوجهات السلبية في الولايات المتحدة ضد المملكة، بعد أحداث سبتمبر 2001، تجد سندها الأكبر فى وجود شبكة من التيارات الفكرية والمراكز البحثية والمؤسسات الحقوقية، المضادة للمملكة في المجتمع الأمريكي، والتي فشلت حملة العلاقات العامة التي تبنتها المملكة عقب أحداث سبتمبر داخل المجتمع الأمريكي في احتوائها، وتعديل توجهاتها، بينما اقتصرت المواقف الإيجابية على عدد من التصريحات المقتضبة، ذات طابع دبلوماسي، يحافظ على الحد الأدنى اللازم لاستقرار العلاقة بين الدولتين.
ثالثاً: شكلت حرب الأفكار الإطار العام والمحرك الرئيسى للتوجهات الأمريكية نحو القضايا الداخلية فى المملكة العربية السعودية، خلال الفترة محل الدراسة، وانطلقت هذه الحرب من أن المملكة لا بد أن تشهد تغييرا جذرياً في مختلف المجالات، من شأنه إحداث تحولات عميقة في البيئة الفكرية والثقافية، وكذلك فى الخصوصية الحضارية التي تتسم بها المملكة، وأن هذا لن يتحقق إلا من خلال خلق حالة من الجدل العام حول هذه البيئة، وتلك الخصوصية، وما تقوم عليه من معتقدات ومرجعيات. وكان التعليم، والحرية الدينية، والإصلاح السياسي والمجتمعي أهم القنوات التى تمحورت حولها السياسات الأمريكية خلال هذه المرحلة.
إلا أنه رغم المواقف الأمريكية الخاصة بالحرية الدينية التى تؤكد وجود انتهاكات لهذه الحرية في المملكة، فإن الإدارة الأمريكية لم تتخذ أية إجراءات لمواجهة هذه الانتهاكات، بل في المقابل اتجهت إلى تأجيل العقوبات التي يمكن أن تُوقع على المملكة، بوصفها “دولة ذات وضع مثير للقلق الخاص”، حسب قانون الحرية الدينية. وجاء هذا التأجيل ليتفق وطبيعة السياسة الأمريكية وأولوياتها فى كل مرحلة، حيث وجدت الإدارة الأمريكية أن توقيع مثل هذه العقوبات من شأنه أن ينال من تحالفها الاستراتيجي مع النظام السعودي، ويسبب حرجاً لهذا النظام، قد يدفعه لتنبي بعض الإجراءات التى لا تتفق والمصالح والتوجهات الأمريكية، التى يعد شريكاً أساسياً فيها، كالحرب على الإرهاب، والتوازنات الإقليمية فى المنطقة، وكذلك فى مواجهة تداعيات الأزمة المالية العالمية، التى كانت الولايات المتحدة أكثر المتضررين منها، فى ولاية بوش الثانية، ووجدت أن المملكة يمكن أن تسهم بفاعلية فى الحد من هذه التداعيات.
كما أن الإدارة الأمريكية رغم ضغطها على العديد من الدول العربية، وطرحها العديد من المبادرات ذات الصلة بالإصلاح السياسي، فإن هذه الضغوط وتلك المبادرات لم تكن ذات جدوى فيما يتعلق بالمملكة وغيرها، حيث اقتصر الأمر على بعض التصريحات الإعلامية، بل ووصل الأمر إلى إشادة بعض المسئولين الأمريكيين بما سموه “جهود الإصلاح السياسي في المملكة”.
ولكن فى المقابل، كانت المواقف الأمريكية غير الرسمية أكثر حدة فى نقدها للمملكة، ونموذجها الحضارى، ونظامها السياسي، ووصل الأمر ببعضها لإثارة قضايا تقسيم المملكة إلى عدة دول، حتى يسهل السيطرة عليها، وهو ما يؤكد وجود تيار داخلي قوى ومؤثر فى المجتمع الأمريكي يتعامل مع المملكة، بإمكاناتها الاقتصادية، ومرجعيتها الدينية ونموذجها الحضارى، على أنها تحد كبير لأمن واستقرار الولايات المتحدة، ويضع الخطط، ويقدم الأطروحات التي يمكن من خلالها التعامل مع هذا التحدى، حالياً ومستقبلاً، لتكون هذه الخطط جاهزة للتنفيذ، حال توافر الظرف الدولى المناسب، وحال وجود الإرادة السياسية الأمريكية لذلك، كما حدث فى أطروحات المحافظين الجدد التى وضعت فى الثمانينيات والتسعينيات من القرن العشرين، وتم وضعها موضع التنفيذ فى السنوات الأولى من القرن الحادى والعشرين.
رابعاً: شكلت الحرب على الإرهاب الإطار العام الحاكم للسياسة الأمريكية تجاه القضايا الإقليمية والدولية ذات الصلة بالمملكة العربية السعودية، خلال الفترة محل الدراسة، وكان ذلك نتيجة طبيعية لتداعيات أحداث سبتمبر 2001. وأمام هذه المحورية للحرب على الإرهاب، ارتبطت بالعديد من القضايا الأخرى، التي كانت محلاً لاهتمام السياسة الأمريكية، مثل قضية العمل الخيري، وتمويل الإرهاب، والقضية العراقية، بجانب القضايا التقليدية التى تمحورت حولها السياسة الأمريكية فى المنطقة، كالصراع العربي-الإسرائيلي، وأمن الخليج، والتوازن الإقليمي فى منطقة الشرق الأوسط.
وقد شكلت هذه القضايا، الجديدة والتقليدية، محوراً للتفاعل بين الولايات المتحدة والمملكة، وتشابكت فيها العديد من الأبعاد السياسية، والاقتصادية، والأمنية، والثقافية، والحضارية. وبين هذه الأبعاد، برز تأثير البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة، سواء على مستوى التوجهات أو السياسات التي قامت عليها هذه السياسة، فتم الربط بين “القضاء على الإرهاب”، و”القضاء على الإسلام”، والربط بين “ضبط العمل الخيري”، و”القضاء على فريضة الزكاة وتحجيم الصدقات”، كما تم الربط بين “غزو العراق”، و”تحقيق نبوآت الكتاب المقدس”.
ومن واقع تحليل هذه القضايا، يمكن القول إنها تمتعت بالأولوية فى السياسة الأمريكية تجاه المملكة، مقارنة بالقضايا الداخلية فى المملكة. فالولايات المتحدة فى إثارتها للقضايا الداخلية كانت تستهدف الضغط على المملكة لتتوافق مع التوجهات الأمريكية، فيما يتعلق بالقضايا الخارجية، وبما يتفق والأهداف التى تسعى إلى تحقيقها.
فالولايات المتحدة لم تكن تسعى لإصلاح فعلى داخل المملكة، أو تغيير فى مناهجها التعليمية، لأنها تعلم أن التدخل فى هذه القضايا من شأنه أن يثير عليها العديد من التوترات أمام الطابع المحافظ للمجتمع السعودي، ولكنها أرادت توجيه رسالة للنظام السعودى بأن قضاياه الداخلية ليست بعيدة عن الاهتمام، وأنها من الممكن أن تشكل سبيلاً للتدخل فى أوضاع المملكة، ليس فقط من خلال السياسة الأمريكية الرسمية، ولكن كذلك من خلال السياسة غير الرسمية، وأدواتها، وقنواتها متعددة المسارات.
وقد أثمر الضغط الداخلى عن العديد من التوافقات بين السياسة السعودية والسياسة الأمريكية تجاه القضايا الدولية والإقليمية محل الاهتمام المشترك، فكانت المملكة أقرب للأداة منها إلى الحليف الاستراتيجي للولايات المتحدة فى إدارة هذه القضايا. وكانت نتيجة هذا الضغط أكثر بروزاً فى قضية العمل الخيرى، للدرجة التى تم معها تشكيل لجان وفرق عمل مشتركة أمريكية- سعودية للتدقيق ومراقبة وإعادة هيكلة العمل الخيري السعودي، ليس فقط خارج المملكة، ولكن داخلها.
كما كانت المملكة أداة استخدمتها الولايات المتحدة لموازنة الدور الإيرانى فى العراق، وفى لبنان، وفى فلسطين، وأداة لتسوية الأوضاع فى العراق، وتسوية الخلافات بين الفصائل الفلسطينية، خشية احتوائها من جانب إيران، وأداة فى الصراعات المذهبية التى حاولت الولايات المتحدة إثارتها فى المنطقة، فى إطار سياسة التفتيت الديني والمذهبي التى تبنتها، سواء بين دول المنطقة، وبعضها بعضا كالصراع المذهبي بين إيران من جانب، والدول العربية من جانب آخر، أو بين السنة والشيعة داخل العديد من الدول العربية، كالعراق، ولبنان، بل وداخل المملكة ذاتها، كخطوة مرحلية وأداة مؤجلة قابلة للاستخدام، عندما ترغب الولايات المتحدة فى إثارتها وتحريكها.
وكانت القضية المذهبية أهم الأدوات التى اعتمدت عليها السياسة الأمريكية فى إدارتها للقضايا التقليدية ذات الصلة بالمملكة كأمن الخليج، والتوازن الإقليمي، وأيضاً قضية الصراع العربي- الإسرائيلي، التى اعتمدت فى إدارتها كذلك على المملكة كأداة من خلال العديد من القنوات، كطرح المبادرات للتسوية بين العرب وإسرائيل (مبادرة 2002)، والتسوية بين الفصائل العراقية (اتفاق مكة، أكتوبر 2006)، والتسوية بين الفصائل الفلسطينية (اتفاق مكة، فبراير 2007)، والتطبيع غير الرسمي مع اليهود (مبادرة حوار الأديان)، وجميعها أدوار جديدة على السياسة السعودية، لم تشهدها فى مراحل سابقة من تطورها، باستثناء لحظات استثنائية، برزت فى عدة مواقف كالحظر النفطي عام 1973، واتفاق الطائف الذي تم توقيعه لتسوية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1989.
خامساً: من غير الصحيح القول إن الولايات المتحدة لم تنطلق فى تعاملها مع العالم العربى من رؤية أيديولوجية أو عقائدية فقط، وإنما كذلك من رؤية براجماتية عملية واضحة لمصالحها فى العالم العربى، فى إطار رؤية استراتيجية أكثر وضوحا لمصالحها الكونية. فالولايات المتحدة، فى سعيها لفرض نموذجها الحضاري، وربط تحقيق هذا النموذج بدورها الرسالى فى العالم، زاوجت فى استراتيجيتها، منذ استقلالها وحتى الآن، بين البعدين الديني/ القيمي، والمصلحى/ الاستراتيجى، ولم يتم تغييب أو تهميش أى من هذين البعدين عبر مختلف مراحل تطورها، سواء كان هذا التطور للداخل عبر الولايات الأمريكية، وفرضه على مختلف العرقيات والجنسيات التي يتكون منها المجتمع الأمريكي، أو عبر توسعها للخارج، هذا التوسع الذى لم تكن بدايته الآلة العسكرية أو الاقتصادية الضخمة التى تمتعت بها الولايات المتحدة، ولكن أيضاً أدوات القوة المرنة كالثقافة، والفكر، والإرساليات الدينية، والمعاهد الثقافية، والمؤسسات التعليمية، ثم أدوات القوة الصلبة فى مرحلة تالية، وتحديداً مع تطورات الحرب العالمية الأولى.
ومع مضمون الكتاب، وما انتهى اليه من نتائج، وبغض النظر عن مدى الاتفاق أو الاختلاف معها، إلا أن المؤكد أنه يشكل إضافة علمية مهمة للمكتبة العربية، والتي تفتقر للعديد من الدراسات حول الأبعاد الدينية والحضارية في دراسة وتحليل العلاقات الدولية.