أزمة دبلوماسية تثير غضبا وتساؤلات في العاصمة المغربية
لماذا اندلعت الأزمة الفرنسية – المغربية؟ ولماذا الآن؟ وما هو مُـستقبل العلاقات التي تربِـط بين البلديْن وهي علاقات تشمل إضافة إلى بعض مخلَّـفات العلاقة بين بلد مُستعمَـر وبلدٍ مُستعمِر عدة مصالح استراتيجية في مُختلف الميادين وترْعاها علاقات مَتينة لم تتزَعْزع حتى في أكثر المراحل قتامة؟ أسئلة حارقة تصعُب الإجابة عليها.
فكلُّ ما قيل، لا يتجاوز تحليلات مُراقبين وتخمينات محلِّلين، الأرجح أنهم لم يعرفوا شيئا، باستثناء عناوين الأزمة ومحاولة الرّبط بينها، للوصول إلى إجابات محتملة. ومع أن كلّ عنوان أتى في سِياقِه الزمني والمكاني، لكن عندما يكتنِف الغموض مُسبِّبات الأزمة ودوافعها، ويتم الإكتفاء بمجرد البحث عن “المُستفيد”، يصبح من الصعوبة بمكان الوصول إلى تقديرات صحيحة نِسبيا، لآفاق الأزمة وسبل تسويتها.
العنوان الأبرز لأزمة العلاقات بين باريس والرباط، تمثل في إرسال سبعة رجال شرطة فرنسيين إلى مقر السفير المغربي بالعاصمة الفرنسية يوم الخميس 20 فبراير 2014، بناءً على أمر من النيابة العامة، لإحضار رئيس المخابرات المغربية، ثم الإستماع إليه بخصوص شكاوَى عن تعذيب مُفترض لمواطِن فرنسي من أصل مغربي، بمقرِّ المخابرات.
حادث خطير وغير مسبوق
مثلما كان متوقعا، أثار توقيت وكيْفية الاستِدعاء الفرنسي الموجّه لعبد اللطيف الحموشي، المسؤول الأول عن حماية التُّراب المغربي، غضب الرباط وفهمتها رسالة غيْر ودِيّة وإساءة غيْر متوقّـعة وغيْر مبرّرة من صديق وحليف استراتيجي، فاستدعت وزارة الخارجية المغربية يوم الجمعة 21 فبراير 2014، شارل فر، السفير الفرنسي بالرباط وأبلغته “الإحتجاج الشديد للمملكة المغربية على إثر معلومات تُـهم شِكاية ضدّ المدير العام لمديرية مراقبة التراب الوطني، حول تورُّطه المزعوم في ممارسة التعذيب بالمغرب”.
وجاء في بلاغ رسمي أن امباركة بوعيدة، الوزيرة المغربية بالشؤون الخارجية، أوضحت للسفير الفرنسي بالرباط أن المغرب يرفُض رفضا باتّا المِسطرة الفجّة التي تمّ اتِّـباعها والمُنافِية لقواعِد الدبلوماسية المعمول بها، والحالات القضائية التي تمّ التطرّق إليها، والتي لا أساس لها. وأكّدت السيدة بوعيدة أن هذا الحادث الخطير وغيْر المسبوق في العلاقات بين البلديْن، من شأنه المساس بجوِّ الثِّـقة والإحترام المُتبادَل الذي ساد دائما بينهما، وطالبت بإلحاح بتقديم توضيحات عاجلة ودقيقة بشأن هذه الخُطوة غيْر المقبولة وبتحديد المسؤوليات.
الإستِدعاء تمّ على خلفِية شكْوى قدّمتها جمعية مسيحية بشأن عادل لمطالسي، المواطن الفرنسي من أصل مغربي، الذي اعتُـقل بملفّ تهريب مخدِّرات عام 2008 ومعها شكوى نتعمة اسفاري، الناشط المؤيِّد لجبهة البوليساريو، المحكوم عليه بـ 30 عاما سِجنا، على خلفية أعمال عُنف، سقط ضحيتها 11 من رجال الأمن المغاربة أثناء تفكيك مخيّم أكديم إزيك، الذي أقيم بضواحي مدينة العيون جنوب البلاد. وتقول الشكوى إن لمطالسي واسفاري تعرّضا للتّعذيب في مقرّ تابع للمخابرات المغربية المعروفة باسم DST.
هذه الحادثة غير المسبوقة تزامنت مع كشْف الممثِّـل الإسباني خافيير فارديم، المناصِر لجبهة البوليساريو، عن تصريحات للسفير الفرنسي في الأمم المتحدة، جيرار أرو (ورَدَ بداية اسم سفير فرنسا في واشنطن، فرانسوا دولاتر)، زعم أنه قال فيها إن المغرب بالنسبة لفرنسا مثل “العشيقة التي نُجامعها كل ليلة، رغم أننا لسْنا بالضرورة مُغرَمين بها، لكننا مُلزَمون بالدِّفاع عنها”.
وإلى جانب هذا، تشهد فرنسا منذ عدّة أسابيع أنشِـطة مكثَّـفة لجبهة البوليساريو وأنصارها رافقتها تحوّلات تظهَـر أحيانا وتختفي، في تعابير الموقِف الفرنسي تُجاه النِّزاع الصحراوي، بالإضافة إلى زيارة العاهل المغربي الملك محمد السادس لعددٍ من الدول الإفريقية، خاصة مالي، التي رسّخ فيها المغرب أقدامه، إن كان من خلال الإستثمارات الضّخمة في ميادِين مُـتعدِّدة أو عبر دوره في تسوية سِلمية للنِّزاعات القائمة في هذا البلد، وهي النزاعات التي دفعت فرنسا للتدخُّل العسكري للحدِّ من امتداد تنظيم القاعدة جنوب الصحراء.
مَـن وراء القرار ومَـن المستفيد منه؟
من هي الجهة التي اتّخذت قرار الإستِدعاء؟ وعلى أيّ مستوى؟ خاصة وأن الحموشي كان بالعاصمة رِفقة وزير الداخلية المغربي للمشاركة في القمة الأمنية التي تجمع كلا من فرنسا والمغرب وإسبانيا والبرتغال. وإذا كانت مشاركة الحموشي بهذه القمّة أمرا متوقعا، فكيف عرفت الشرطة الفرنسية بوجود الوفْد المغربي في مقرّ إقامة السفير المغربي بباريس؟ ثم ماذا تُـريد هذه الجِهات بالضبط: تطبيق العدالة أم أمورا سياسية؟
ورغم الإتِّصال الهاتفي بين العاهل المغربي الملك محمد السادس والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يوم الاثنين 24 فبراير 2014، الذي تطرّقا فيه “إلى الوضْع الرّاهن للعلاقات المغربية – الفرنسية، على إثر الأحداث التي شهِدتها الأيام الأخيرة”، واتفقا حسَب بلاغٍ للقصر الملكي المغربي، “على مُواصلة الإتصالات خلال الأيام المُقبلة على مستوى الحكومتيْن والعمل وِفق رُوح العلاقات المُتَّـسمة بطابَع التميُّـز التي تجمَع البلديْن”، فإن الأمور سُرعان ما تدهْـوَرت.
فقد أعرب وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس يوم الأربعاء 26 فبراير عن أسفه “للمُنعطَف” الذي اتَّخذته خصومة دبلوماسية فرنسية – مغربية، في حين نفت وزارته تصريحات ساخِرة نُسِبَـت إلى دبلوماسي فرنسي وقال: “بالفِعل، كان هناك في الأيام الأخيرة نوْع من التوتُّـر”، مضيفا “قدَّمنا توضيحات مُفيدة وعبَّرنا عن الأسف لحوادِث قد تكون حصَلت وعبَّرنا عن الأسف لمنْح هذا الوضْع أهمية ما كان ينبغي أن تُمنَح له، وأؤمل أن يُصبِـح كل هذا، إن لم يكن أصبح بالفعل، من الماضي”.
غضب واحتجاج.. رسمي وشعبي
فبالإضافة إلى الغضب والإحتجاج الشعبي والرّسمي وتأجيل المغرب لزيارةٍ كان سيقوم بها إلى الرباط نيكولا هولو، مستشار الرئيس الفرنسي لشؤون الأرض، قرّر مصطفى الرّميد، وزير العدل المغربي يوم الأربعاء 26 فبراير، استدعاء قاضِية الإتِّصال المغربية المُعتَـمدة بفرنسا، وتعليق تنفيذ جميع اتِّفاقيات التعاوُن القضائي بين البلديْن، من أجل “تقييم جَدْواها وتحْـيِينها، بما يُـتيح تدارُك ما يشوبُـها من اختلالات”، وذلك بعدَ عدم احتِرام الجِهات الفرنسية اتفاقيات التعاون القضائي بين المغرب وفرنسا، وما تبيّـن عنه ذلك من بُـروز عددٍ من الإختِلالات والنقائِص فيها.
الوزير المغربي سجّل أن القرار يأتي “بناءً على المَساعي التي بذلتْـها قاضية الإتِّصال المغربية المُعتمَدة بباريس، للحصول على التَّوضيحات الضرورية لدى السّلطات القضائية الفرنسية، حول حادثة استِدعاء النيابة العام لعبد اللطيف الحموشي، خلال ثلاثة أيام كامِلة دون طائل”، كما عبّر عن استغرابه من هذا “التعامُل الذي لم يسبَق أبدا للسلطات القضائية المغربية أن قامَت به في تعاوُنها مع نظيرتها الفرنسية”.
وإذا كان من الواضح من أن بلاغ وزير العدل المغربي يهدف إلى تحميل وزارة العدل الفرنسية مسؤولية ما جرى ليلة الخميس 20 فبراير، يشير الحسان بوقنطار، الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي المغربي في تصريحات لـ swissinfo.ch إلى أنه “رغم مرور أكثر من أسبوع على الحادِث المُسِيء للمغرب، لا زال الغُموض سيِّد الموقِف فيما يتعلّق بالجِهة التي اتّخذت قرار الإستِدعاء ومرامِيها، وهي جِهة أم جِـهات؟”
“كل الإحتمالات واردة..”
بوقنطار اعتبر أن الهدف من استدعاء المسؤول الأول عن أهم جهاز أمني للمغرب، هو “مُحاولة النّيل من العلاقات الصّلبة بين المغرب وفرنسا، والتي لها جذور ومُـكوِّنات، بوجود أيادٍ خفِية تُـريد أن تؤزِّم العلاقات بين البلدين”، حسب رأيه. وفيما أشار إلى أن هناك “أطراف مُناوِئة للمغرب فيما يتعلق بقضية الصحراء ومُوالية للجزائر”، إلا أنه يُـرجِّح أن تكون للحادِثة حسابات فرنسية – فرنسية تتعلّق بالإنتخابات البلدية المُقرَّر إجراؤها في نهاية مارس 2014. وأضاف “هناك مَن يُريدون إضْعاف الاشتِراكيين وإظهارِ أنهم عاجِزون عن التحكُّم في المؤسّسات الأمنية”.
في حديثه لـ swissinfo.ch، ذهب بوقنطار، المتخصِّص في العلاقات الدولية إلى أن “غِياب المُعطيات والمعلومات المؤكّدة حول مُلابسات حادِث استِدعاء الحموشي، يجعَل كلّ الجِهات الفرنسية المَعنِيّة، واردة، وكل الإحتمالات والأبعاد مُـمكنة”، لكنه يرفُض الرّبط بين كل عناوين الأزمة والزعم بأن تكون قد جاءت في سِياق واحد.
“العلاقات بين البلدين ليست خاضِعة لظّرفية أو لموقِف مُعيَّـن”
الخبير المغربي أوضح أيضا أن التصريحات المنسُوبة للسفير الفرنسي في نيويورك، حصلت في عام 2011 ولم يتذكر الأجواء والسِّياق الذي جاءت بخصوصها، وكانت في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي اليميني، فيما توجد فرنسا الآن تحت رئاسة فرانسوا هولاند الإشتراكي، كما أن نشاطات مُناصري جبهة البوليساريو، التي لا زالت مُقتصِرة على المُجتمع المدني، ليست حديثة، وإن عرَفت تكثيفا خلال الأسابيع الماضية، نتيجة تركيز الجبهة على الساحة الفرنسية، بحْـثا عن احتِـضان دُعاة منظومة حقوق الإنسان، خاصة بأوروبا، لأطروحة الجبْهة ومواقِفها التي تتمحْوَر في هذه المرحلة حول المسائل المرتبطة بها.
على عكس كثيرين، يؤكد الحسان بوقنطار على أنه “لا يُمكن لمثل هذه الخِلافات أن تؤثِّـر على العلاقات القوية التي تجمَع البلديْن”، كما يُذكّــر بأن العلاقات بين الرباط وباريس مرّت في التاريخ القريب بتوتُّـرات، لو عرفتها علاقات بين عاصمتيْن أخريين، لعرَفَت تحوّلات جِذرية، مثل قضية اختِطاف واغتيال الزعيم المغربي المُعارض المهدي بن بركة منتصف الستينات في قلب العاصمة الفرنسية، والتوتُّـر الذي شهدته في عهد فرانسوا ميتران في ثمانينيات القرن الماضي، ورغم هذا، لم تتأثَّـر ولم تتغيَّـر. فالعلاقات بين المغرب وفرنسا، “ليست خاضِعة للظَّرفية أو لموقِف مُعيَّـن”، حسب بوقنطار.
أخيرا، يبقى التساؤل قائما حول أسباب التأزم في علاقات باريس مع بلد تعتبِره بوّابتها الضرورية لكل ما يتعلّـق بمصالح فرنسا في القارّة الإفريقية؟ وحول مبرر الأزمة في علاقات الرباط مع دولة عُظمى شريكته الإقتصادية الأولى والمدافِعة عن مُقاربته لقضية الصحراء، التي تُعتَبر مغربيا، قضِية وِحْدة تُـرابية وأمن استراتيجي؟ الظاهر أن هذه الأسئلة قد لا تجِد أجوبة مقنعة أو نهائية عنها حتى في صورة انتهاء الأزمة الحالية وطي صفحتها.