انقسام المجتمعات العربية إلى علمانيين ومتدينين

يعيق التعددية

 

باحث تونسي يشير إلى أن النهضة حركة سالبة ليس لديها برنامج تغيير حقيقي

بسبب غياب المرجعية السياسية التي يمكن أن تكون نموذجا استرشاديا.

العرب محمد الحمامصي [نُشر في 26/02/2014، العدد: 9481،

 

يُجمع أغلب المراقبين للأوضاع السياسية في تونس، على أن حركة النهضة شأنها شأن أغلب التيارات الإسلامية الأخرى، أثبتت فشلها الذريع في محاولتها تغيير الصورة النمطية السائدة لهذه التيارات، خاصة وأنها حاولت خلال فترة حكمها إظهار النموذج التركي، قبل أن تتبنى الشعار الذي يتناقض معه وهو “الإسلام هو الحل”، أسوة بجل التيارات الإسلامية وعلى رأسها الإخوان المسلمون.

يوحد بعض بلدان الربيع العربي قاسم واحد تمثل في وصول التيارات الإسلامية إلى الحكم بسهولة، بعد الإطاحة بالنظم الديكتاتورية، وهي التي لم تشارك أصلا في طريق الثورة، للعديد من الأسباب التي تتعلق بتعاطي الأنظمة السابقة معها والأجندات التي تخطط لها هذه التيارات، وهو ما بدأ به الباحث التونسي محرز الدريسي، أستاذ العلوم السياسية والباحث المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، في بحثه “حزب النهضة من المعارضة إلى السلطة” الذي ألقاه بالقاهرة خلال مؤتمر ”مستقبل حركات الإسلام السياسي في الوطن العربي”.

جاء في ورقة الدريسي أنه إلى ما قبل 14 يناير 2011 كانت حركة النهضة شبه غائبة عن المشهد السياسي، إذ كانت تحت المجهر الأمني مفككة الأوصال يسكنها الوهن مع غموض في الرؤية واضطراب في الاختيارات، ودون سند تنظيمي ظاهر، ولذا لم يشارك أنصار النهضة في الحراك الثوري نتيجة الخوف الشديد من الملاحقات الأمنية، وحدد الباحث أزمة النهضة في أربعة عوائق:

* الأول هيكلة في الخارج وتفكك تنظيمي في الداخل مع صراعات بين قيادات الداخل والخارج

* الثاني تباعد في الرؤى وفي المنهجية وفي التحليل بين القيادة والقاعدة

* الثالث قواعد “مشردة” لم تتم تربيتها وتأطيرها داخل حضن التنظيم

* الرابع أرضية نظرية فقيرة لم تبرز كتابات معرفية باستثناء مؤلفات عبد المجيد النجار وراشد الغنوشي

الثورة التونسية

يشير الدريسي إلى أنه في صبيحة يوم 15 يناير 2014، كانت النخب التونسية أمام مفترق طرق أو أمام اتجاهين: توجه أول: إصلاحي التفت حوله مجموعات من داخل السلطة ومن خارجها “الحزب الديمقراطي التقدمي” على أساس المحافظة على المؤسسات القائمة وضرورة تفعيلها. أما التوجه الثاني فهو توجّه ثوري وتأسيسي يرى أنه من الضروري القطع مع المرحلة السابقة وأجهزتها وتكوين “مجلس حماية الثورة” من كافة الفاعلين السياسيين المعارضين، وعمال تونسيون.

ويقول الباحث في هذا السياق: “لقد أحيت ثورة تونس طلبا اجتماعيا وسياسيا عميقا لفك عقدة الاستبداد التاريخي، وفتحت فرصا جديدة للانتقال من التفكير النظري والمجرد في الديمقراطية إلى التفكير العملي في الديمقراطية، بجعلها في قلب التحولات السياسية، وأدخلت عوامل جديدة في مقاربة الانتقال الديمقراطي وتجاوز أولي لمآسي فترات القمع والقهر والقبض على الجمر، ويمكن القول إنّها مكنتنا من فرصة تاريخية فهي لم تسقط بعض الأنظمة الاستبدادية فقط، بل إمكانية انهيار منظومة الاستبداد ككل، وأحيت فكرة الوطنية وانبثاق روح إعادة صياغة التضامن المجتمعي هذا إضافة إلى حضور مكثف لمبدأ الانتصار لقيمة الحرية ومركزية الديمقراطية في بناء دولة المجتمع”.

ويوضح أن “طرق التعاطي مع هذه التحديات ومواجهتها، يمنح التغيير الشعبي عمقه ويضفي على ثورته ملامح ابتكارية، ويعطي للتحولات السياسية في تونس أرضية اختمار تاريخي بإعداد شروط إمكان تحقق البناء الديمقراطي بما هو جوهر الحداثة ومقدمات تحققها.

ونفترض ونأمل أن الحراك الثوري سيدخل المجتمع التونسي في مسارات الحداثة بما هو تعبير عن حرية الإنسان، وبما هي عقلنة للشأن السياسي في مبادئه وآليات اشتغاله، فـ”هابرماس” يؤكد في قراءته لنظرية ماكس فيبر أن الحداثة عقلنة شاملة، وأن الحداثة ملازمة للعقلنة، وأنها تنشئ مجتمعا غير قائم على الإكراهات والقمع، وإنما على التفاهم والتعاقد وفكرة طاعة القانون”.

ويستنتج الباحث أن المقاربة الإصلاحية مست “المأزق” الحقيقي لتعطب الحداثة وانغلاق أبوابها في تونس، وأن جوهر “الحداثة” أو ماهية “التقدم” تتمثل في إعادة صياغة علاقة الحاكم والمحكوم، وفق تصور بشري للحقل السياسي يشتغل على قوى سياسية وقوى اجتماعية وإرادة عامة، وأن الإنسان هو منطلق السياسة ومبتغاها، لذا نزعت طابعها الأخلاقوي وعمدت إلى تحديد طبيعتها وخاصياتها وفواعلها، وبالتالي “أنسنة السياسة”.

الإسلاميون والسلطة

يتساءل الدريسي عن السر الذي أتاح للإسلاميين هذا الصعود السريع إلى القمة، ويقول إنه من اليسير اللجوء إلى تفسير صعود الإسلام السياسي إلى الحكم باستغلال الدين “كرأسمال انتخابي أو سياسي”، وهو تبرير تبسيطي، لا يمتد إلى عمق الحراك المجتمعي الباحث عن حاجات حقيقية للدين، وعن طلب مُلح – مع التحولات العالمية وفقدان المرجعيات الأيديولوجية.

ويرى أن الإسلاميين تعجلوا الوصول إلى السلطة ومسك أجهزة الدولة دون أن تتوفر لديهم الشروط الضرورية التي تسمح لهم بأن يكونوا إضافة نوعية في ممارستهم السياسية، والآن هم يديرون الأشياء بطريقة عادية، ويلهثون وراء محاولة حل المشكلات المستجدة واليومية، ولكنهم لم يتمكنوا إلى حد الآن من أن يوفروا لأنفسهم رؤية أو بناء رؤية تجعلهم يدركون أن الدولة لها متطلبات وأن المجتمع التونسي لديه سقف عال من المطالب، وأن الأمر لا يحتاج فقط أن تكون في حكومة أو أن تمسك مجموعة من الوزارات لكي تؤثر في مجرى الأحداث، بل هي قضية أكبر تعقيدا.

ومطلوب من الحركات الاسلامية أن تقدم نفسها كرافعة وطنية، وصمام أمان وليست مصدر قلق أو خوف، والأهم من ذلك مراجعة الإرث التاريخي والتجارب السابقة والحالية للأحزاب السياسية الإسلامية وغيرها من أجل تجنب أسباب الإخفاق والتراجع والانطواء.
كما لا بد من المراجعة النقدية البناءة في تحليل وتشخيص الأداء السياسي لمسيرة الحركات الإسلامية والاستفادة من الأخطاء. ويؤكد الدريسي على أننا “نحتاج إلى فترة زمنية طويلة نسبيا كي نصدر أحكاما على التحولات الجارية الآن، لأن هذه التحولات لا تزال مفتوحة على أكثر من احتمال وعلى أكثر من سيناريو، وبالتالي من الخطأ استباق الأحداث وإصدار أحكام قطعية سواء كانت سلبية أو إيجابية، لكن لا شك أن ما يجري حاليا هو اختبار قاس للحركات الإسلامية، أي أن هذه التطورات الجارية ستحدد مستقبل هذه الحركات، إذا عرفت كيف تدير الشأن العام وتقوم بالمراجعات وتوفر الشروط الضرورية للانتقال، ليس فقط السياسي، بل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فإن هذه الحركات ستضمن مستقبلها، لكن إذا تتالت الإخفاقات، وتوالت الأساليب المحدودة والعقيمة في إدارة شؤون الدولة، فإن هذه الحركات قد تجد نفسها مهددة بالانقراض.

وهذا ما عزز غموض اللحظة الحالية في تونس، ودون أن نكون لا متفائلين ولا متشائمين، نحن في مرحلة ما بعد الاستبداد، وأن الانتخابات أغلقت الباب أمام كل التفاف آني أو اختطاف للإرادة الشعبية ولكنها لم تغلق إمكانية الالتفاف أو اختطاف الدولة أو تجويفها من كل روح ديمقراطية. والاحتكاكات التي وقعت، والخلافات المحتدمة بين الفاعلين في المشهد السياسي، وضيق أفق التسامح وتقلص هوامش قبول الاختلاف، غذّت حالة التنافي وأوصلته أحيانا إلى التصادم. وتؤكد هذه التعثرات وهذا التردد على أن التجربة لازالت في مرحلة ما قبل الديمقراطية ثقافة وقيما وأخلاقا ومبادئ، فغياب الديمقراطية كما يرى عابد الجابري “غياب مضاعف، فهي غائبة ليس فقط على مستوى السياسية” أي مرتكزات الحكم وأسلوب الحكم، بل أنها “غائبة في مستوى الأيديولوجيا”، أي بنية الثقافة.

أزمة حكم

عابد الجابري: غياب الديمقراطية مضاعف على مستوى السياسة والأيديولوجيا

يكشف الباحث أن أزمة الإسلاميين في الحكم هي عنوان أزمة الإسلاميين من ناحية ولكنها أزمة الحكم بصفة عامة من ناحية أخرى، وسيأخذ الإسلام السياسي وقتا طويلا لكي يصبح قادرا على الحكم بعد تطوير نفسه، وعلى الإسلاميين القيام بمراجعات فكرية عميقة تنتهي بانتقالهم من تبني الفكر الديني الفئوي إلى فكر الدولة والمواطنة المتساوية، ذلك أن انقسام المجتمعات العربية بين علمانيين ومتدينين، لا يقود إلى تعددية سياسية بل إلى شرخ مجتمعي يمنع التعددية، وأنه يجب تفضيل الشراكة في المراحل الانتقالية على الانفراد بالحكم لكي تراقب الأحزاب السياسية بعضها وتوازن بعضها، خلال عملية إدارة مرحلة الانتقال.

ويواصل الدريسي طرح التساؤلات عن مدى استطاعة وجاهزية حركة النهضة كنموذج إسلامي حاكم وهي التي أثبتت فشلها سابقا “هل يمكن أن تؤتمن النهضة أو الإسلام السياسي على المسار الثوري؟ وهل يمكن أن يحتضن الإسلام السياسي “التجربة الديمقراطية الفتية”؟ هل قوى الإسلام السياسي معارضون جيّدون وحكام سيّئون؟

ويقول “إن التيار الإسلامي ممثلا في النهضة أقرب إلى الحركة الاحتجاجية، فهي حركة سالبة ليس عندها برنامج تغيير حقيقي، فهي لطالما تقول إنها ضد الاستبداد، لكنها لا تملك مشروعًا للديمقراطية، وتقول إنها ضد الفقر وليس عندها خطة للتنمية لاجتثاث الفقر، وتصرّح بأنها ضد الفساد وليس لديها تصور في الإدارة والحكم، وهذا سببه غياب المرجعية السياسية التي يمكن أن تكون نموذجًا استرشاديًا، ولذلك عندما حكموا لجأوا إلى “التجربة والخطأ”.

ويتوقف نجاح الحركة الإسلامية ممثلة في حزب حركة النهضة في لعب دور إيجابي لأجل إعادة بناء الدولة والمجتمع السياسي وعلى مدى قدرتها على تجاوز التناقضات الفكرية التي ما تزال تعيق حركتها وتشوش وعيها وتبعث التخبط في سلوك جمهورها”.

ويضيف أن التساؤلات حول قدرة النهضة الإسلامية على تمسك مقاليد الحكم عديدة، باعتبارها لا تختلف عن الحركات الإسلامية التي تبنت مند نشأتها خطابا دفاعيا قائما على الإحساس بأن الإسلام في خطر، وأنه يتعرض إلى هجمات عدائية من خارج جسم الأمة ومن داخلها.

وأن دورها يتمثل في حماية الدين والرد على الانتقادات والاتهامات الموجهة للفكر الإسلامي بهدف إثبات تفوقه على خصومه في جميع المجالات انطلاقا من الشعار القائل بأن “الإسلام هو الحل”، لكن عيب الكثير منها هو عدم إدراكها لأن جزءاً هاما من مضامين هذا الفكر الذي تدافع عنه وتضفي عليه شيئا من القداسة هو فكر بشري، تجاوزته الأحداث ولم يعد يستجيب لمشكلات المرحلة وهموم المواطنين.
وهي ترفض بحكم الواقع الإقرار بضرورة إعادة النظر في فهم النصوص المرجعية، وفي بعض الأحكام من أجل إعادة الانسجام بين مقاصد الإسلام ومصالح المسلمين وحقوق جميع الناس. وبدل من أن يركزوا على ملفات التنمية اهتموا بموضوع الهوية وتغيير أنماط المجتمعات التي حكموها، فوجدوا أنفسهم يدورون في حلقة مفرغة وتدهور الأمن والاقتصاد، وعجزوا عن تطوير مشروع سياسي يتوجه إلى المواطنين وليس فقط إلى المؤمنين.

ويخلص الباحث إلى أن بلورة خطاب إسلامي مستوعب لمكتسبات الحداثة، ومنسجم مع منظومة حقوق الإنسان، ومحترم للتنوع والتعدد والتعايش، يشكل خطوة هامة، لكنها تبقى غير كافية إذا لم يقع وضع خطة وآلية تساعدان على نشر هذه الثقافة على نطاق واسع. لهذا فإن مخاوف كبيرة تشق الفكر السياسي الإسلامي وتجعل ممارساته وتصرفه في الحكم مُعاقة ومعطلة.

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…