زمن التكفير ولّى وانقرض
بنسالم حِمِّيش إن فقهاء التجهيل والتكفير أناس هملٌ أغمار، لا يحفظ لهم التاريخ ذكرا ولا أثرا، عدا تحرشاتهم المتهافتة المشينة، بينما يُسكن التاريخ علماءه ومفكريه ومبدعيه في ذاكرة أمتهم، لأنهم مدى حياتهم أسسوا تراثها، وطوروه، وقووا وعيها بهوتها ومقدراتها، فهم إذن فيها الأعلون والأبقون. أما في أزمنتنا هاته، لم يعد اليوم أي حق لأفراد أو جماعات في إصدار فتاوى مكفرة أو سواها مثلما حدث مؤخرا للقيادي الإشتراكي الأستاذ إدريس لشـكر، فتاوى من شأنها أن توقع الفتنة والقتل معا في الناس وتعرض حياة شخصيات عمومية في شتى الميادين للإغتيال أو للجرح والإعطاب، وذلك أن مجتمعاتنا أضحت أكثر من أي وقت مضى قائمة على المؤسسات ومواثيق حقوق الإنسان، الدينية منها والوضعية. على أرض الإسلام وفي تاريخه، شأنه شأن كل الأديان، وُجد أعلام من أهل العلم والفكر اتصفوا بالتميز والاقتدار، كما بالجراءة والإقدام، فعانوا في حياتهم من محن اتهامهم بالزيغ والكفر، وهي تهمة جاهزة جائرةٌ في الغالب الأعم، جرى على إطلاقها وتغذيتها فقهاء كثيرو التشدد والغلو، سريعو التعريض والتكفير، يعضدهم في حالات عديدة أهل الدولة والسلطة. ولن أقف هنا على حالات تداخلت وتزاحمت فيها الثيولوجيا (علم الكلام) بالسياسة، كما في تاريخ الفرق والمذاهب، منها تحديدا الخوارج والمعتزلة ومختلف الأطياف الشيعية والسنية، حالات اتسمت عموما بالصراع العقدي حول التمكن من السلطة والنفوذ وتحكيم منطق الغلبة والعنف والقوة… لا، الأمر هنا يتعلق بشخصيات بأعيانهم لم تطلهم آلة التكفير بسبب انتماءاتهم السياسية والمذهبية – ولم يخل بعضهم منها – وإنما أساسا لكونهم قالوا بأفكار ونظريات ووقفوا مواقف هي في مجملها من نتاج أبحاثهم واجتهاداتهم، كما كان الأمر في تاريخ المسيحية القرنوسطية مع محاكم التفتيش وإعدام علماء وكتاب: جيرار بْرويْ دي لانـكـدوق (بسبب ترجمته ابن رشد إلى اللاتينية)، جيوردانو برونو بتهمة الطعن في بعض عقائد الكنيسة الكاثوليكية (وكلاهما مات حرقا)، غاليلي الشهير باكتشافه دوران الأرض حول الشمس، خلافا لعقيدة الكنيسة القائلة بثبوتـها ومركزيتها في الكون. وقتل غاليلي، كما نعلم، وهو يهتف: ومع هذا فإنها تدور! نعرض هنا لماما لعينة من أولئك الأعلام في الوسط العربي الإسلامي للتدليل والتمثيل، ونذكرهم بما لهم وهو كثير وما عليهم وهو لا يضر عند النظر والتحقيق. وهم إجمالا أغنوا الإسلام الثقافي بكلِّ روافده الخصيبة، وأسهموا أيما إسهام في تعزيز صحة قوامه وبنيانه، وتنمية طاقاته التكيفية والتجديدية: – أبو بكر زكريا الرازي (ت 313هـ) : إن هناك في نصوصه الناجية من الإتلاف والواصلة إلينا فقرات مثيرة بل مستفزة بمقاييس مكفريه وفي أعينهم المفتشة الرقيبة، هذا مع أنها في العمق تساؤلات أو خاطرات من وحي ما كان المفكر يحسه ويعانيه، إذ يقول شعرا: لعمري لا أدري وقد أذنَ البلى/ بعاجلِ ترحالي إلى أين ترحالي// وأينَ مكانُ النفسِ بعدَ خروجهِ/ من الهيكلِ المنحلِّ والجسدِ البالي؛ وقد كان ذلك أيضا من عواقب احتكاكه، كطبيب ممارس وعلى نحو تراجيدي ويوما بيوم، بظاهرة تفشي أمراض الجذري والحصبة والربو، مَهَرَ في معالجتها، وأخرى تُشخَّص كعلل عضال، لا يسع الطبيب إلا مصاحبتها بأدوية التخفيف من أوجاعها. والرازي كان ميالا إلى اعتبار ذرائع الأديان عامة حيال ذلك غير مقنعة أو قلْ قليلة الوقع والفائدة، إذ تدعي أن الآلام الجسدية والنفسية إنما يبتلينا الله بها، نحن مخلوقاته الضعيفة، إما لمعاقبتنا وإما لامتحاننا قبل أن يباركنا… وعوضا عن ذلك وعن استرخاص أرواح الناس (كما سماء من بعد ابن الخطيب) خليقٌ بالعلماء، حسب المفكر – الطبيب، أن يسعوا إلى تطوير الطب وقدراته من جيل إلى جيل، وتكثير المستشفيات والماريستانات (وقد أدار بعضها)، تُعنى مرافقها أيضا بالفقراء والمرضى النفسيين والحمقى. وقد ظل الرازي متشبثا بفكره العقلاني التجريبي ضدا على الفقهاء الحشويين وحتى دعاة التآويل، مما جعل طبه مرجعا مهما مؤثرا في أوروبا حتى أواخر القرن السابع عشر. – أبو حيان التوحيدي (ت 414هـ) : إن معرفتنا بمنحنى حياته، تكاد تكون متعذرة، وذلك أساسا بسبب تقاعس معاصريه وأعقابهم عن الترجمة له في مصنفاتهم المخصوصة، حتى إن ياقوت الحموي الرومي (ق 6 – 7 هـ)، المعترف له بالذكاء الثاقب والاقتدار الفكري والأدبي الفائق، استغرب لكون أي مؤلف «لم يذكر التوحيدي في كتاب، ولا دمجه ضمن خطاب، وهذا من العجب العجاب»، لكن ما هو معروف جيدا فهو أن بعض كبار الحنابلة والمحدّثين، كابن عقيل وأبي فارس وابن الجوزي والذهبي تناقلوا الكلام عن أن زنادقة الإسلام ثلاثة: الراوندي والتوحيدي وأبو العلاء المعري، وقالوا: «إن أشدهم على الإسلام أبو حيان، لأنه مجمج ولم يصرح». ومما قالوا عنه أيضا: «كان أبو حيان كذابا قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان […]. تعرض لأمور جسام من القدح في الشريعة والقول بالتعطيل. ولقد وقف سيدنا الصاحب ابن عباد [الوزير] كافي الكفاة على بعض ما كان يداخله ويخفيه من سوء الإعتقاد، فطلبه ليقتله، فهرب والتجأ إلى أعدائه»، إلخ. ونفجع لمثل هذه الأحكام العنيفة الجائرة في حق التوحيدي الذي سطر في «الإمتاع والمؤانسة»، حتى قبل تحفته الصوفية «الإشارات الإلهية « : «أنا أعوذ بالله من صناعة لا تحقق التوحيد، ولا تدلّ على الواحد، ولا تدعو إلى عبادته»… |
||
عن جريدة ..ا.ش..2/24/2014 |
||
باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي
يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…