بأصوات متعددة … محمد جسوس، فقيه السوسيولوجيا المغربية

لحسن العسبي

يعيدنا رحيل عالم الإجتماع المغربي، محمد جسوس، عن دنيا الأحياء، إلى إعادة تمثل ما يمكن تسميته ب «محنة السوسيولوجيا بالمغرب»، كواحد من أهم الأبحاث، ضمن خانة العلوم الإنسانية، التي تقاطعت واشتبكت (إذا جاز هذا التعبير إجرائيا) مع منطق السياسة مغربيا خلال القرن 20 كله. ولعل تجربة حياة محمد جسوس نفسها، تقدم لنا الدليل لمثالي على ذلك، كونه الرجل الذي تعايشت فيه صورة عالم الإجتماع وصورة رجل السياسة بقدر من الموائمة التي تغري بالبحث والتأمل.
ويكاد يكبر السؤال: هل نجح في تلك الموائمة، أم إنه ظل مثالا ملموسا للخصومة التي ظلت هائلة بين العالم والسياسي مغربيا؟. بل إن الجانب الأكثر إغراء، في تمثل ذلك، من خلال تجربته، كمواطن مغربي، ابن للحظة تاريخية لها منطقها في الصيرورة الممتدة لقصة المغاربة في التاريخ والحضارة،، أنه لم يستطع أن يترك مؤلفات وكتبا تأسيسية ضمن السوسيولوجيا المغربية، حتى وهو أحد أكبر مؤسسي هذا العلم بالجامعة المغربية. بل، ومن تحت جبته خرج على الأقل، جيلان من علماء السوسيولوجيا المغاربة الكبار. والسبب، في ما أتصور، كامن في شكل تمثله لدروه المواطن، في ذلك الزمن الهائل للتحول المغربي، بعد صدمة الإستعمار، الذي جعله يؤمن أن دوره، دور توعوي، من خلال الجامعة والتدريس. وأن مهمته (مجتمعيا) تتحدد في ذلك المعنى الذي نحته المفكر الإيطالي غرامشي الذي يقول بدور المثقف العضوي في كل مجتمع مأزوم، يعيش لحظة تحول صوب قيم الحرية والعدالة والكرامة والقانون.
لهذا السبب، كما لو أن محمد جسوس، لم يجد أمامه من خيار غير أن يحمل إزميل الحفر ويشرع في نحت (ووشم) معاني العقلانية والتحليل العلمي الملموس للواقع الملموس، في عقل أجيال مغربية جديدة، عبر الدرس الجامعي. وأن ينتج شكلا للأفكار اللئلائة للتقدم والحداثة والحرية في وعي الناس، عبر آلية سياسية تنظيمية هي الحزب والنقابة والإعلام. فكان مثل من يكتب أفكاره وأطروحاته في وجدان الناس وفي وعي جمهور طلبته، بدلا من أن يعتكف في مكتبه الخاص ليبني الفكرة سطرا سطرا، من خلال كتاب. حتى وهو مدون معروف لأدق التفاصيل والأفكار والأحداث. بل أكثر من ذلك، إن كثافة اللحظة المغربية للتحول خلال السبعين سنة الماضية، لم تترك للرجل أية فرصة كي يكتفي بترف التأمل والتحليل والكتابة، لأنه اختار أن يكون شكلا آخر لسقراط جديد، يمشي بين الناس، في دروب الحياة. ويقول كلمته فيهم عالية مسموعة.. أليس لهذا السبب ظل خطابه العمومي، منقوعا دوما، في الحكمة الشعبية وفي الأمثال المغربية العتيقة، الخارجة من حواري الفقراء والحرفيين والصنايعية. ومن حكمة الفلاحين عاشقي الأرض، الأوفياء للماء والتراب. وأنه ظل دوما، لوحده، ينجح في أن يدبج مصطلحات تتحقق فيها الحكمة العلمية والبلاغة الشعبية والرسالة السياسية البليغة النفاذة. أليس هو القائل، منذ 30 سنة، إن نظامنا التعليمي إن لم نبادر إلى إصلاحه، كآلية لإنتاج القيم والوعي والمعرفة، لن يفرخ لنا سوى «جيلا من الضبوعة».. هل أخطأ؟ هل أصاب؟. واقع التعليم المغربي العمومي وحده اليوم، يقدم الجواب الفصل.
ويحق للمرء هنا التساؤل: ماذا لو بقي محمد جسوس في جامعة برينستون الرفيعة بالولايات المتحدة الأمريكية، ولم يعد إلى سماء البلاد سنة 1968، هو الذي كان يدرس بها السوسيولوجيا؟. قد نكون ربحنا مفكرا له عشرات الكتب وقد تكون اللغة الإنجليزية ربحت باحثا مرموقا بلغة شكسبير، لكن هل سيكون الجسم السياسي المغربي الوطني والتقدمي، هو هو ، بدون محمد جسوس؟. الحقيقة إن الرجل كان ملحا خاصا لم ينتجه غير النبوغ المغربي. لأن قيمته كانت في أنه تمثل جيدا المدرسة السوسيولوجية الأمريكية والغربية عموما، لكنه تعامل معها دوما من موقع نقدي، مسائل، لا من موقع تبعي منبهر. بل أكثر من ذلك، وهذا أمر يحتاج إلى أطروحة كاملة، فإن محمد جسوس وجيله من الباحثين السوسيولوجيين قد حرر علم الإجتماع المغربي من سطوة التيارين الكبيرين اللذين تنازعاه، طيلة القرن 20، وحاولا بخلفية علمية قوية، مسنودة بميزانيات مالية ضخمة، أن يكيفاه لإنتاج معان وأحكام تخدم بناء معرفيا، وراءه مصلحة سياسية في باريس وواشنطن. ونجح الرجل العالم، عبر صيرورة أكاديمية، من خلال شكل دروسه والأبحاث الجامعية التي دفع إليها طلابه في أن يحرر السوسيولوجيا المغربية من الرؤية الفرنسية والرؤية الأمريكية إلينا كجماعة بشرية، عبر آلية التحليل التي يهبها علم الإجتماع. ويؤسس لمدرسة مغربية في السوسيولوجيا منافحة وناقدة لمنتوج تلك المدرستين.
لأنه قليلا ما ننتبه، مغربيا، أن مدرسة السوسيولوجيا المغربية، تتوزعها ثلاث تيارات كبرى هي: تيار ما أنتجته باريس عنا، قبل وبعد تأسيسها لمعهد الدراسات العليا المغربية بالرباط سنة 1917، بفطاحلتها الكبار الذين خدموا عمليا مصالح باريس الإستعمارية من حجم إدموند دوتي، ميشو بلير، روبير مونتين وآندري آدام. ثم تيار ما أنتجته المدرسة الأمريكية من فرع آخر للسوسيولوجيا المشتغلة على المغرب، خاصة أبحاث غيريتز، جون واتربوري وكنيث براون. وأن الدور الهائل الذي لعبه محمد جسوس رفقة زميليه الكبيرين، بول باسكون وعبد الكبير الخطيبي، هو أنهم منحوا للمغربي أن يستقل في الرؤية لواقعه عبر التحليل الإجتماعي. فأنتجوا تيارا ثالثا، أسس لمدرسة مغربية مستقلة في السوسيولوجيا. فكانوا بذلك مثل من أعاد للمنجل مقبضه، فأصبح ثابتا في اليد، صالحا للحصاد الوفير الرصين الراسخ في حقول المعرفة وحقول الحياة.
وداعا أستاذنا محمد جسوس، فقيه السوسيولوجيا المغربية الكبير.

2/20/2014

‫شاهد أيضًا‬

باب ما جاء في أن بوحمارة كان عميلا لفرنسا الإستعمارية..* لحسن العسبي

يحتاج التاريخ دوما لإعادة تحيين، كونه مادة لإنتاج المعنى انطلاقا من “الواقعة التاريخ…