المنطلقات العقلاتية للحوار…
في هذا الزمن العربي الذي اختلطت فيه كل الأوراق السياسية والاقتصادي والثقافية والطائفية والقبلية والعشائرية والمذهبية، بحيث لم نعد نعرف نحن المواطنين العرب لماذا نتصارع وتسيل دماؤنا، ولمصلحة من هذا الصراع؟، ولماذا تقف وراءه وتدعمه قوى الشر والضغينة العربية منها والإقليمة والدولية،؟
بحيث تحولنا إلى أوراق صفراء في مهب الريح تتلاقفنا أيادي الجهل والتخلف والتكفير. من هذا الموقف المأساوي يطرح الحوار علينا نفسه بالضرورة، ويطلب منا ان نجلس سويَة كي نعرف ماذا نريد ولماذا نحن نتصارع ومن المستفيد من هذا الصراع.
بيد ان هذا الحوار في سياقة العام يتطلب أيضاً معطيات عقلانية يجب أن تتناسب مع طبيعة وحدة الصراع الدائر هنا، لذلك كان لا بد للمنهج العلمي أن يفرض نفسه علينا لنأخذ ببعض أسسه أو قواعده أثناء صياغتنا لهذه الورقة.
نقول: كلما اتسع هامش الحرية والديمقراطية في أي مجتمع من المجتمعات، سلطت الأضواء أكثر فأكثر على قضايا المجتمع بكل مستوياتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية، وراحت الحوارات الفكرية تتسع وتنتشر أكثر فأكثر أيضا على الساحات الثقافية والإعلامية لهذا المجتمع أو ذاك، لتشكل مادة أو مواد حيوية للحوار والنقاش بين المهتمين بشؤون المجتمع من سياسيين ومثقفين، وهذا ما يساعد في المحصلة على توليد واستنبات أفكار ورؤى جديدة لم تكن موجودة أو مفكرا بها أصلا قبل اتساع الهامش الديمقراطي في هذا المجتمع أو ذاك. وعلى الرغم من الأهمية القصوى لدور هذه الحوارات والنقشات التي تدور هنا وهناك بشكل رسمي مخطط له من قبل الدولة أو مؤسسات البحوث والدراسات، أو حتى بشكل غير رسمي في المجتمع، حول ما يتعلق بقضايا المجتمع وتنميته وتقدمه وتحرره… الخ، ثم لما ينتج عن هذه الحوارات من تشكل لقناعات عند الأفراد أو الكتل الاجتماعية – بغض النظر عن انتماءاتها السياسية والدينية والطبقية والعرقية- فإنها ستلعب دورا لا يستهان به في التأسيس العملي والفكري لما ينتج عن هذه الحوارات من قناعات عبر نشاط هذه الكتل أو الأفراد في محيط المجتمع أو الدولة عموما، وبالتالي إعادة بناء أو تشكيل بنية المجتمع بكل مستوياتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية وفقا لنتائج هذه الحوارات والنقاشات. نقول: بالرغم من أهمية هذا الدور الذي يلعبه الحوار، إلا أن الخطورة تظل كامنة في أهداف الكتل أو الأفراد المتحاورين، وفي المناهج الفكرية التي اعتمدوها في حواراتهم، وأساليب تطبيقها، والتي غالبا ما يحدد طبيعتها مواقف عاطفية أو مصلحيه، أو أرضية ثقافية هشة أبرز ما يميزها المزاجية والسطحية في الفهم لمعطيات الموضوع المتناقش أو المتحاور حوله، أو الانطلاق من مواقف ذهنية محدودة الأفق ومبتسرة أو قبلية. وهذا ما يدفعنا في الحقيقة هنا إلى طرح أو تحديد رؤية منهجية في الحوار لا ندعي بأننا قد امتلكنا عبرها ناصية الحقيقة المطلقة، وذلك لإيماننا بنسبية هذه الحقيقة وتاريخيتها بامتياز.
إذن، لكي يكون الحوار بين الآخرين موضوعيا وعقلانيا أجد من الضرورة الاتكاء على الأسس المنهجية التالية:
ضرورة معرفة أن كل القضايا التي يتم الحوار أو النقاش عليها أو حولها، هي ظواهر اجتماعية تسير عبر انساق مادية أو فكرية، وتتجلى عبر مستويات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية أو ثقافية، وأن كل ظاهرة من هذه الظواهر هي ليست ثابتة في جوهرها وتجليها عبر الزمان والمكان، بل هي ظاهرة تاريخية. أي هي ظاهرة لها صيرورتها وسيرورتها في السياق التاريخي العام لوجودها. لذلك هذا يدفعنا لتأكيد التالي:
1- إن هذه الظاهرة (الاجتماعية) أو تلك لم تأت من فراغ، بل هي ظاهرة تشكلت بفعل النشاط الإنساني الحيوي والفاعل والمبدع في التاريخ الإنساني، إن كان عبر علاقة هذا الإنسان مع الطبيعة أم علاقته مع أخيه الإنسان.
2- إن هذه الظاهرة (الاجتماعية)، ليست مطلقة في وجودها، بل هي نسبية ونسبيتها تحددها حركتها الدائمة في شكلها ومضمونها عبر تاريخها.
3- إن هذه الظاهرة (الاجتماعية) هي جزء من كل، أي هي ظاهرة من مجموعة ظواهر التي تشكل الوجود الاجتماعي برمته، وبالتالي هي ليست منعزلة عن بقية الظواهر الأخرى، بل مرتبطة بها بعلاقة جدلية ذات تأثير متبادل، غالبا ما ينطبق عليها مضمون الحديث القائل: (المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى).
4- إن هذه الظاهرة (الاجتماعية) لها شكل ومضمون، ولم يكن طرفا المعادلة هذين منعزلين أو منفصلين عن بعضهما البعض عبر تاريخ هذه الظاهرة، بل هما في صيغة علاقة جدلية أيضا، فالشكل والمضمون كل منهما يؤثر في الآخر ويتأثر به.
5- إن هذه الظاهر (الاجتماعية) في الوقت الذي هي فيه منتج إنساني بامتياز، أي هي نتاج نشاط الإنسان الحي والمبدع، فهي ذاتها في المقابل تقوم بالتأثير على الإنسان ذاته، وتعمل على تشكيل وإعادة تشكيل وعيه وصقل مهاراته وتنمية خبراته الحياتية. لذلك في الوقت الذي يعي فيه الإنسان هذه العلاقة الجدلية ما بينه وبين منتجاته، غالبا ما يتجاوز حالة اغترابه وضياعه في منتجاته التي تتحقق تاريخيا. وهنا لم يعد المنتج الإنساني مقدسا يجب عبادته أو الخضوع له، وبالتالي تصنيمه، بل يتحول (المنتج) إلى ظاهرة يتم التعامل معها وفقا لما تحققه من منفعة مادية كانت أم معنوية للإنسان.
نقول: إذا كانت هذه هي أهم الأسس التي تقوم عليها طبيعة الظاهرة (الاجتماعية) والتي تحدّد بدورها أسس الحوار المنطقي والعقلاني الذي يدور حولها. فما هي إذن أهم الأسس التي يجب أن تتوفر في المحاور ذاته كي تتحقق طبيعة الحوار الموضوعي المنشود هنا؟.
أولاً: تفهم طبيعة الظاهرة المتحاور حولها، والية تشكلها، وطبيعة صيرورتها وسيرورتها التاريخيتين، وجدلية علاقاتها الداخلية والخارجية. بل امتلاك الفضول المتيقظ دائما للوصول إلى الفهم الأفضل لهذه الظاهرة أو تلك.
ثانياً: الإقرار بان الإنسان المتحاور نفسه يعتبر ظاهرة اجتماعية قائمة بذاتها، وبالتالي تنطبق عليه شروط الموقف المنهجي المطروح اعتماده هنا. بمعنى آخر، إن الإنسان ذلته صيرورة وسيرورة، وهو يتطور ويتحرك فيزيائيا وبيولوجيا وذهنيا في كل لحظة من تاريخ حياته، وهو ليس معزولا عن الآخرين، وله مصالحه ومهارته وقدراته الذهنية وثقافته، وهذه مسائل تتفاوت في درجات قوتها وضعفها من شخص لأخر بسبب طبيعة الظروف التاريخية (الطبيعية والاجتماعية) التي تكوّن فيها هذا الإنسان النسبي في طبيعته.
ثالثا: يجب على كل متحاور أن يحترم الرأي الآخر مهما يكن هذا الرأي مخالفا لرأيه وقناعاته، وضرورة اعتباره رأيا قد يحمل بعض الصواب تجاه الظاهرة المتحاور حولها، طالما أن الحقيقة نسبية.
رابعا: عدم تخوين المتحاورين لبعضهم، أو تخويفهم أو ممارسة الإرهاب الفكري بينهم، أو استخدام سلطة النص على أرائهم وأفكارهم. وكذلك الابتعاد عن المفردات السوقية أثناء الحوار، أو الاستهزاء بالرأي الآخر وتسفيهه… الخ.
هذا هو المنطلق المنهجي الذي أجده يؤسس لحوار عقلاني أردت الإشارة إليه، أو طرحه في هذه المقالة المتواضعة، آملا أن أكون قد اشتهدت وأصبت فيما اشتهدت به، ليس طمعا بالأجر وإنما حبا بالمعرفة واحترما للرأي الآخر الذي علينا أن نقاتل من اجله، بل والأخذ به إذا وجدنا انه يصب في مصلحة الوطن والمواطن والإنسانية عموما، ولا اضن أن ما يصب في هذا الاتجاه سيوجد عليه خلاف بيننا، هذا إذا كنا نطمح فعلا لتحقيقه وتجسيده عمليا وفكريا في حياتنا.