هل التكفير نزْوةٌ فردية، أم جزء من استراتيجية؟ ..

حالةُ أبو نعيم نموذجا

محمد العمري

بعد انطلاق محاكمة أبو النعيم، السلفي المكفِّر، شَرع في طرح مجموعة من الأسئلة على نفسه عبْرَ متعاونٍ أعاره صوتَه: حاول فيها التقليل من خطورة التهمة الموجهة إليه، نافيا “تكفير المُعيَّن” و”قذف المحصنات”، وذلك نقيضُ نصِّ كلامهِ الذي عيَّن فيه أسماء من كفَّرهم. وفي الأخير طرح السؤال الذي يهمنا هنا:
“ما الذي دفعك للدخول في هذه الصراعات”؟
يهمنا هذا السؤال في شكله وصيغته، أي من حيث هو، أما محتوى الجواب عنه فهو موجود في فتاواه التكفيرية، وفي تبريراته المترددة بين النفي والإثبات. ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن سؤاله وجوابه موجَّهٌ إلى الأصدقاء الذين اعتبروا كلامَه تشويشا عليهم، وإحراجا لهم، وحطْبا في حبل خصومهم، وإلى عواطف المؤمنين الذين يرفضون التطرف في الدين، وإلى القضاء من وراء كل ذلك.
فمَنْ حرَّكَ أبو نعيم حقيقة؟
امتدت افتراضات الأصدقاء قبل الأعداء بين عتبتين: عتبة عليا تساؤلية إشكالية، وعتبة دنيا مُبسِّطة مُهوِّنة.

1– العتبة العليا:


فرضية المؤامرة

يرى هذا الموقف أن إطلاق أبو نعيم النارَ في هذه الظروف الصعبة على اليساريين رجالا ونساء، سياسيين ومفكرين، أحياءً وأمواتا، وعلى مؤسسات الدولة، جزءٌ من “مؤامرة” مدبرة! أي أن الرجلُ مدفوعٌ من جهة ما! لغرض ما! هذا هو الافتراض الذي صرح به الأستاذ حامي الدين، مثلا، في مقال قصير بجريدة أخبار اليوم. بعنوان: “معركة لشكر الخاسرة أصبحت رابحة بفضل أبو نعيم”. ولا شك أن الصحيفة وجدتْ هذا العنوان ذا “جاذبية” فوضعتْه في أعلى صفحتها الأولى إلى اليمين.
يرى صاحب المقال أن المرء مُضطر، في مثل الحالة التي خلقها كلام أبو نعيم، إلى تجاوز مدخل “التحليل الملموس للواقع الملموس”، وتجريب مدخل المؤامرة. ومدخل المؤامرة يقتضي، بالضرورة، تجاوز فرضية العمل الفردي المعزول، وذلك بالجواب عن السؤال: مَنْ حرَّكَ أبو النعيم لكي يُصدِرَ “فتوى تكفِّر الكاتبَ الأولَ للاتحاد الاشتراكي”؟ فَـ”حينما تشتغل آلةُ التكفير لنشر خطاب الحقد والكراهية يُصبح من الواجب علينا – يقول الأستاذ ـ أن ندافع عن حق […] إدريس لشكر في التعبير…”!

تنوير:


1) الذي كان يهمني من نص الكلام المنقول عن صاحب المقال هو إعلانُه بأن خطاب أبو نعيم خطابُ “تكفيرٍ” و”حقدٍ” و”كراهيةٍ”، كلمات ثلاثٌ لا مزيد عليها. وتكمن أهمية هذا التوصيف في صدوره من داخل بيئة تبذل كل ما في وسعها لإخفاء هذا الوجه البشع مُعتبرةً ما صدر عن “الشيخ” “رأيــا”، أو “جدلا فقهيا”، مُستهدفةً التسويةَ بين الدعوة إلى الاجتهاد وبين التكفير والقذف. فالتوصيف الصحيح لما قيل هو الحد الأدنى لبداية حوار مفيد بين “المغاربة”، وقد تحقق هنا، وبقي تأويل الدافع.
نعود الآن إلى المحتوى فنقول: وقد بقي كلام الأستاذ في حدود إثارة الشبهة، فلم يضع الأصبع على الجهة التي حَركت أبو النعيم. وكنا نتمنى لو فعل ذلك. ونحن لا نستطيع أن ننوب عنه إلا في حدود افتراضات تجد ما يسندها في التاريخ، وبعد ذلك سنعود لتركيب ما نراه مُحركا ودافعا حقيقيا.

نقول وبالله العون:
رغم أن الأستاذ لشكر هو المستفيد الأول من فتوى الشيخ المُكفِّر ـ حسب تصور صاحب المقال، لا تصوري أنا- فإننا نشك في أن يكون هو الذي أوعز إلى الشيخ، أو اشترى خدمته! ويُستبعد أيضا أن يكون خصوم لشكر، وهم كثيرون هذه الأيام، قد وقعوا في شر أعمالهم بتحريك الشيخ! وهذه مساخرة حجاجية، الغرض منها تأزيمُ القول باستفادة لشكر، فالبحث عن الفاعل يبدأ عادة من البحث عن المستفيد.
فإذا لم يكن لا هذا ولا ذاك، فلا يبقى منْ مُستفيدٍ غيرِ “الأجهزة” “المعلومة” التي تدخل دائما بين الظفر واللحم، الأجهزة التي أوقعت شبيبة الإخوان في جريمة قتل الشهيد عمر بن جلون، فهي قد لا تفرق بين النعماني (المتهم بترتيب قتل عمر بنجلون) وأبو النعيم المتهم حاليا بالتكفير والقذف (والتكفير في بيئتنا شروع في القتل)! من يدري؟ غير أن هذا الفرض لا يستقيم إلا بوجود طرف ثالث! هذا الطرف الثالث قد يكون جهة قديمة أو جديدة من التكفيريين الكارهين للاشتراكيين جينيا، أو حتى من بقايا الشبيبة الإسلامية التي مازال مرشدها يتلوى في منفاه فوق صفيح جريمته الساخن كَـذَنَب ثعبان انفصل حالا عن جسمه، فكل ما نراه اليوم من ذلك الجسد هو ذنبه. إذن: من حرك أبو نعيم، الثعبان أم ذنبه؟

2 ـ العتبة الدنيا: فرضية


«نزوة المتفرد اليائس»

رغم أني أميل إلى “فرضية المؤامرة” بِـ”محتوى مخالف” ـ كما سأبين لاحقا ـ فإن التناولَ العِلمي يَفرض عرضَ وجهة النظر المضادة التي تبرئ الرجلَ من أي عمل تنظيمي يُضاعف جُرمه. أكثريةُ مُناصري الرجل يدعون ـ دون سند ملموس ـ أنه مجرد “ظليم”، أي غزال انفصل عن القطيع تحت إغراء خُضرة الدِّمَنِ، وفي أسوأ الأحوال هو عندهم “بَعيرٌ مُعبَّد”، أفرد عن القطيع حتى لا يعديه.
يقولون: كان الرجلُ صوفيا، ثم صار إخوانيا، وانتهى “سلفيا”. يقولون هذا بحسن نية دون أن ينتبهوا إلى أن هذا المسارَ مسارٌ تصاعدي أحمرُ! فنحن نعلم من التجربة التاريخية أن السلفي الذي يأتي من هذه القناة، حاملا هذا CV يكون حتما قلقا مُضطربا: فهو لم يغادر الصوفية والإخوانية إلا لضيق صدره ورفضه للانتظار: يرفض انتظار رحمة الله مع الصوفية، كما يرفض انتظار التمكين عبر المسار البرلماني مع الإخوان.

وقد ذَكرَ هذا الاحتمالَ (التفرد) الأستاذُ منتصر حمادة في حلقة برنامج “مباشرة معكم” التي خُصصت لموضوع التكفير والتطرف، ولكنه لم يجد آذانا صاغية لمصادمته لمعطيات وقرائن كثيرة سنذكر بعضها. ويظهر أن الذي أوقعَ مقولة التفرد في نفوس القائلين بها هو “النشاز”، أي أن فعل الشيخ كان مفاجئا، وبدون مقدمات، وإلا فليست لدى القائلين به الإمكانيات “الاستخبارية” التي تسمح لهم بالجزم بأن مبادرته كانت فردية طائشة، أي غير مؤطرة ضمن مخطط إجرامي. فالخلايا الإجرامية المتفرعة عن هذا الخطاب، المتغذية منه، تعد بالعشرات كما يبين عمل فرق الأمن والمخابرات التي تعلن عنها واحدة بعد أخرى بدون توقف منذ أكثر من عشر سنوات.
ومن يقول بالتفرد يسعى، في الوقت نفسه، إلى تهوين ما صدر عن الخطيب رأفة به من خلال تفكيك معنى الكفر وتليينه، لأنه يعلم أن البديل الوحيد لعدم إدانة مُكَفِّرٍ قاذفٍ للمحصنات هو الإحالةُ على مستشفى الأمراض العقلية. وهذا الاحتمال وارد، فربما بلغ الرجل درجة من الاكتئاب تفرض العناية به، إن لم يكنْ قد جُن أصلا. ومع ذلك فإن التكفير والقذف ليس مما يُبرر بِـ”رفع القلم”، فمن رُفع عنه القلم لَـزِم ضَبطُه بِلجام: لجام العدل أو المارستان. فأقل ما تفرضه المسؤولية على القائلين بَـ”شرود” الرجل هو المطالبة بإحالته على مصحة للأمراض العقلية. وعموما فقد صار عدد “المتفردين” كثيرا، وتجميعهم سيشكل قطيعا: فالعثماني (صاحب مقهى أركانة) كان مفردا، والنهاري كان مفردا، وأبو النعيم مفرد على هذا القول…الخ، ومن مجموع هذه المفردات تتكون جُملُ الإرهاب.

3 ـ الجمع بين الفرضيتين


نحن لا نعتبرُ أيًّا من الفرضيتين خاطئة من الناحية الشكلية، فلكل منهما ما يُرجِّحُه، والذي نختلف فيه مع القائليْن بهما ـ ولهما كل الاحترام ـ هو في المضمون (مضمون التفرد والمؤامرة)، وفي الفصل والوصل بينهما، نحن نربط بينهما في صورة “الجندي المنقطع”، كما سيأتي.
الرأيان صحيحان في مستوى الملاحظة والحدس، ولكن الجمع بينهما يقتضي وضع تصريح أبو نعيم في السياق العام الذي يُلحق نشاطَه التكفيري بما يجري في العالم العربي. يبدو تفرد أبو نعيم كتفرد ذلك الجندي الذي انفصل عن كتيبته خلال الحرب العالمية في أدغال جنوب شرق آسيا: انقطعت عنه الأخبار، وظل ينتظر الأوامر حتى أصابه اليأس، فصار يطلق النار على كل حركة أو خيال! وقد ظهر بعض مفقودي جنود الحرب العالمية في أدغال جنوب شرق آسيا بعد ثلاثة عقود، ومنهم من رفض وضع السلاح إلا بأمر من رئيسه المباشر، فأحضروه له بصعوبة. فالتفرد هنا لا يعني عدم انتماء الجندي إلى كتيبة مقاتلة، بل يعني فقط أنه من شدة يأسه، وصدمته بالواقع الحالي، صار يعطي الأوامر لنفسه.
وأحد أسباب اليأس وأقواها انتكاسُ مشروع الإخوان في مصر، حيثُ يبدو خطر فشله بشكل نهائي على مرمى حجر. لقد أحدث هذا الواقع المفاجئ بلبلة وفوضى عارمة في صفوف الحركات التكفيرية التي التحقت بحكومة الإخوان، وانضوت في مشروعهم كمدخل لسحق “أعداء الله” من العلمانيين والحداثيين؛ اشتراكيين وليبراليين. بل أصبح هؤلاء الأعداء شامتين متنطعين يفرضون شروطهم على “الشرعيين” الذين جاؤوا من الصناديق، كما وقع في المغرب وتونس!
أمام هذه النكسةِ انشطر الدينسيون شطرين: شطرٌ بدأ يُروِّج فقهَ الابْتلاء، وهو أقربُ إلى المعاناة ومراعاة الظرف المستجد (محمود شعبان في مصر)، وقد أطل علينا هذا التوجه في المغرب بعد ظهور التشكيلة الحكومية الحالية التي لم يرضَ عنها فريق من الأصوليين، فأسرع البراغماتيون منهم يدعون إلى الصبر والثبات وحفظ الذات مرحليا حتى تنفرج الغمة. وشطرٌ ثانٍ سلك طريق العنف والمتفجرات اللفظية (التكفير والقذف) والديناميتية المولوتوفية (في مصر تحديدا). وأبو النعيم ينتمي إلى هذا النوع اليائس. وسيزداد عدد المتفجرين من هذا النوع إن لم يتلقوا إشارة وقائية حازمة توقف العُــرَّ قبل انتشاره. وخطاب الكراهية والضغينة عُـــرٌّ:

إن الضغينة تلقاها وإن قدُمت كالعُــرِّ يكمن حيناً ثم ينتشــر

لا يخفي مُنظرو الإخوان، منذ أواخر ثمانينيات القرن الماضي، أن التكفيرين والتفجيريين هم “مخالبُ الظلم وأظافره” (حسب تعبير محمد عمارة واصفا تكفيرية سيد قطب وما ترتب عنها)، أي مخالب الإخوان حين يظلمون: حين يظلم الإخوان تنبت لهم مخالب وأنياب، وأبو نعيم من هذه المخالب، والتفجيريون في مصر من هذه المخالب والأظفار. وهي البديل عندهم للتنظيم الخاص المسلح الذي جر عليهم الكثير من المحن. إن العملية نوع من الخوصصة أو المناولة. وهم يمارسون هذه العملية حتى في الإعلام، فقد تعلموا أن يشتروا خدمات أقلام وأوراق وشاشات، وذلك بدل إقامة مؤسسات تنهار على رؤوسهم عند أول زلزال.
فمع الضربات العنيفة التي تلقتها الجماعات التكفيرية، ومع النضج السياسي التكتيكي الذي راكمه الإخوان وصل الطرفان إلى تكامل ضمني، قوامُه النصرة والمناولة: يعمل كل طرف بوسائله وطرقه، وينجز من المهام ما يرى أن الآخر في حاجة إليه حتى وإن لم يعبر له عن رغبته في ذلك صراحة. وقد سمعت هذا مرارا من كبار منظري هذا التوجه من قاداتهم، مثل إبراهيم منير، وكان هذا التحالف بين الإخوان القطبيين والجماعات التكفيرية سببا في انفصال عشرات القادة المستنيرين عن جماعة الإخوان ومناصبتها العداء، مثل كمال الهلباوي، وأبو الفتوح نفسه الذي ترشح ضد مرسي.
وفي المقابل يقدم الطرف الثاني (الإخواني القطبي المتحكم) الحمايةَ والتسهيلات والإمداد بالمعلومات التي يتيحها له التوغل في أجهزة الدولة. وفي هذا السياق ظهرت أدبيات كثيرة، من مفاتيحها: “نعمل جميعا في ما نتفق عليه، ويعذر بعضنا بعضا في ما نختلف فيه”، مع الالتزام بِـ”النصرة” في كل الأحوال. فإذا لم يكن البلتاجي هو من أعطى الأمر بانطلاق أعمال العنف في سيناء، مثلا، فهو قادر على وقفها خلال ثانية، حسب قوله. ويقال الأمر نفسه عن التفجيرات التي عرفتها مصر في الشهور الأخيرة.
منذ أواسط التسعينيات بدأ الإخوان في برنامج كان من المتوقع أن يُعطي ثماره خلال جيل من الزمن، أي في السنوات الأخيرة من العقد الثاني من القرن 21. هناك مؤشرات كثيرة تدل على أنهم سيبدؤون في التحرك وجني الثمار ابتداء من 2017، غير أن الربيع العربي فاجأهم وأفسد عليهم خططهم. وبعد تردد لم يجدوا بدا من الانخراط فيه. كان هذا البرنامج يتكون من ثلاث خطوات متوالية في الزمن، ومنها سيظهر موقع كل الأطراف:

1 ـ التمكين والتأسيس


تنطلق هذه الخطوة من توجيههم لقوله تعالى: “الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ …”، توجيهها في اتجاه واحد، وهو الإمساك بالحكم. فكيف تُطبق الزكاة، كما قال مامون الهضيبي في منلظرة معرض الكتاب سنة 1992، دون الإمساك بالكم؟ وقد أعاد بعضُ حلفائهم النظر في هذا التوجيه ـ بعد النكسة ـ فاعتبروا مجردَ عدم منع المسلم من أداء شعائره تمكينا له، كما سمعتُ مساء يوم 13 فبراير 2014 في قناة “الرحمة” لمحمد حسان الذي لعب على كل الحبال. وقد افترض الإخوان أن تتم عملية التمكين عبْرَ خطوات، ولذلك هدَّأوا اللعب مع حكم مبارك، بل اعتبروه أبا، كما صرح المرشد محمد بديع.

1.1 ـ استكمال برنامجهم الدعوي والخيري للتوغل في المجتمع، وإخراجه من الجاهلية التي هيمنت عليه، وهذا يدخل في إطار الصحوة الإسلامية. وهو برنامج شاسع يمتد من دور القرآن وتوزيع المساعدات العينية المشروطة إلى إلقاء الدروس في الأعراس والمآتم وعلى حافات القبور…الخ
1. 2 ـ التوغل في التنظيمات المدنية، والاستيلاء على النقابات والهيئات المهنية، والمشاركة السياسية عن طريق البرلمانات…الخ، (والتوغل في الشرطة والجيش ما أمكن). وفي هذه الخطوة وقع الشرخ بينهم وبين الخوارج المكفرين، قبل أن يعودوا إليهم خارجين من السجون التي حرروا فيها مراجعاتهم التي تحتاج إلى كلام لا يتسع له هذا المقام.

2 ـ إخلاء الميدان

وتغيير المفاهيم

2. 1ـ أخذت عملية إخلاء الميدان طابعا منهجيا مع إنشاء قناة الجزيرة، فقد جعلت من مهامها الأساسية إعادة قراءة التاريخ السياسي للمنطقة العربية بنظارات سوداء، قراءة بعيدة عن النقد التاريخي الذي يفهم ويتفهم ويأخذ ويُعطي. وقد كانت هذه القراءة المغرضة المُحرِّضة مقبولةً عند الجماهير العربية التي ذاقت مرارة الهزائم وظلم الحكام، وانقلاب الزعماء إلى ساسة غارقين في الفساد. أقول ما أقول وأنا أنظر إلى المنهجية التي اشتغل بها أحمد منصور، كنموذج، والأساليب الانتقائية المضللة التي اتبعها، خاصة بالنسبة لزعماء اجتهدوا وعانوا مثل جمال عبد الناصر والحبيب بورقيبة. فالحسنات تتحول إلى سيئات بشكل مقرف.
وفي هذا الإطار تدخل الحملة على اليسار المغربي التي وُظِّفَ فيها الزمزمي منذ سنوات، حيث ولغ في دم المهدي بن بركة، وكان وقْتها محمولا على أعناق وأكتاف شبيبة “الإخوان” المغاربة تمهيدا لأحداث 16 مارس، ثم انقلب عليهم، وسمى حزبهم حزب النذالة والتعمية، ونال رخصة استغلال خط للنقل الطرقي، فانتقل من الإفتاء بالجَزَرِ إلى كراء رخصة “الكارْ”، في انتظار حكم الواحد القهار.
وفيه أيضا ـ وهذا بيت القصيد ـ يدخل عمل أبو النعيم في خطبته التي كَفَّــر فيها بدوره المهدي بن بركة فعزل من الخطابة في المسجد. وفيه يدخل، أكثرَ من ذلك كله، درسُه البئيسُ عما سماه “دموية اليسار المغربي”، وقد لَعَقَ، فيه بلسانه الجاف، قَــيْءَ أذنابِ الاستعمارِ والخونة الحاقدين على المقاومة وجيش التحرير الذين لوثوا الشبكة (النيت) بترهاتهم.
ومن يرى الشيخ أبو النعيم جالسا يُلقي ترهاته من أعْلَى منصة، وأمامه ميكروفونان، يتساءل: من هو الجمهور الذي كان يتابع خطاب الفتنة الذي كان يلقيه في مكان عام؟ بل أين هو هذا المكان؟ فإذا كان هذا مسجدا فتلك مصيبة، وإن كان مقرا حزبيا فنحن نريد أن نعرف مَن هذا الحزب الذي يتبنى هذا الخطاب؟ ….؟
من بؤس الثقافة والعلم والوطنية أن يتحدث شخص من عينة أبو النعيم عن أَعْلامِ الفكر والوطنية والنضال في المغرب، من عينة العروي والجابري والمهدي بن بركة بلغة التكفير والتحقير، ولكن ما العمل لقد وَكل التنظيم الدولي للإخوان المسلمين هذا العمل الوسخ ـ كما ذكرنا ـ لأشخاص من هذه العينة استكمالا لبرنامجهم! وهذا ما يجري الآن في مصر.

2.2ـ تهجين المفاهيم الحديثة: كانت هذه العملية تُمارس، منذ عقود، في ميادين متعددة: تقدم فيها مفاهيم منافسة. مورس هذا التحريف في المجال الفلسفي (الحداثة عند طه عبد الرحمن مثلا) وفي المجال الأدبي والنقدي (دعاة الأدب الإسلامي) وفي المجال الحقوقي بخجل…الخ. حتى الطب بحثوا له عن بديل إسلامي في الأعشاب والرقى الشرعية…الخ
ولكن الجديد في الموضوع، الآن، هو أن وصول الدينسيين إلى الحكم، في مصر خاصة، وفي المغرب وتونس عامة، واستمرار الصراع في بقية البلاد العربية، وانفتاح شهية التنظيم العالمي للإخوان، وتعالي صوت القرضاوي فوق كل الأصوات، فتح الشهية للخروج من منافسة المعاني الحداثية بالمعاني الإسلامية، إلى إنكارها والانقلاب عليها وتهجينها تهجينا يصل درجة التحريم أحيانا. ويتحقق هذا التحريم عن طريق ربطها بالغرب الكافر سليل القردة والخنازير كما قال مرسي قبل أن يصبح رئيسا لمصر.
بدأت هذه الموجة في المغرب، في قمة المد الدينسي، بخطابٍ للفقيه بنحمزة أنكر فيه كونية القيم الإنسانية التي اعترف بها الدستور المغربي كما هي متعارف عليها دوليا، منذ عام 1992. وانطلق “الدعاةُ” أشباهُ الأميين يلهجون بضرورة العودة للقيم والمصطلحات الإسلامية ونبذ المصطلحات المتعلقة بالحداثة وحقوق الإنسان والعلمانية…الخ، ومنها الحرية والمساواة والفن….الخ
وفي هذا الإطار نظم القطاع الطلابي للإخوان المغاربة “محاضرات” الجهل والبذاءة والتحريض على الكراهية والعنف في مدارس المهندسين وكليات الآداب والشريعة في كل من الرباط ومكناس وفاس وأكادير… ومناطق أخرى عديدة، “محاضرات” استَقبلوا فيها بشعارات حربية وهتافات نارية خطيبا عزلته وزارة الأوقاف، هو نفسه الخطيب الذي أفتى بإهدار دم أحد الصحفيين، ومازالت قضيته رائجة أمام المحكمة. لقد تناولتُ تلك الخطب بالتحليل في مقال سابق تحت عنوان: نهاري يُعيد تكوين المهندسين. وهي موجودة على النيت.
وفي نشوة هذا الانتصار عاب الفقيه الريسوني على حكومة الإخوان المغاربة عَدمَ استعمال المفاهيم والمصطلحات الدينية الإسلامية… بل في هذه الحمى عابَ علــيَ أنَا أحدُ الشيوخ استعمال عبارة “المرض الاجتماعي” وصفا للإدمان، إذ الصوابُ عنده هو أن هذا من “المعاصي”، وإذا أخذنا عنوان مقاله بعين الاعتبار (وهو: “محمد العمري يفقد بوصلة الهدى والهداية”)، فينبغي أن نتوقع ما كان سيُترتب عن هذا الضلال من عقاب لو مَكَّن اللهُ للشيوخ. ولكن الله سلم، فسُبحان مُبَدِّل الأحوال، فمحمود شعبان الذي أفتى بقتل البرادعي وصباحي وغيرهما من زعماء معارضة مرسي هو الذي ينظِّر الآن لفقه الابتلاء، وقد سبقَ التكفيريين المغاربة إلى الكثير من الحجج المتهافتة التي يتسترون وراءها.
وهكذا نلاحظ أن شيوخ التطرف والتكفير ليسوا ثيرانا وحشية تائهة في رمال الصحراء، حاشا لله، ولا هم جنود ضاعوا في أدغال النِّبَّال واللاوس عقوداً حتى صار الواحد منهم يطلق النار على ظله، بل هم جنود مجندون، يقومون بمهام مختلفة حسب السياق. فقد تجد أحدهم يطلق النار في الفضاء فلا تفهم ما يقصد، والحالُ أنه كان يشغل الأعداء بمعركة وهمية لتغطية انسحاب أصدقاء في مأزق أو في موقع حرج، والتكفيريون من كتائب القدس في مصر إلى أبو النعيم في المغرب يطلقون النار في الفضاء لتخفيف الضغط عن الإخوان في المكان والزمان.
ومن طرائف هذه المعركة أن أبو النعيم قد تعرض لقصف مضاد شديد وهو يحاول فك الحصار عن الحكومة الحديثة التي نُتفَ ريش الإخوان فيها، فما كان من الأنصار إلا أن انتدبوا كتيبةً مشتركة من الإخوان والخوارج (القائمين والقاعدين)، بل ومن الدراويش الخرافيين أيضا، لفكِّ الحصار عنه، مستعملين شتى الحيل والخدع.
وقد أثاروا زوبعة في أحد المواقع الخاصة بهم حتى صارت بصائرهم لا تفرق بين الرأي والجدل، وبين التكفير والقذف، وصاروا لا يميزون بين “التوافق على دستور” و”الالتزام به مرحليا” وبين الحق في الدعوة إلى إعادة قراءته والنظر فيه والاستفتاء عليه، لم يعودوا يرون هذا الفرق حتى وهم يسمعون الناس يقولون: دستور سنة 1962، ودستور 1972، ودستور 1996…ودستور 2011. والأسوأ من ذلك حديث من هب ودب عن “النصي” و”القطعي”، وقولهم المضلل: “لا اجتهاد مع النص”. وما هم للنص بعالمين. إنا لله وإنا إليه راجعون.
أما بعد،
فإن الغرض الأول من هذا المقال هو تنبيهُ من اختاروا المشاركة السياسية على أُسُسٍ مدنية تداولية بمرجعية إسلامية إلى أن هذا الخيار لا ينسجم مع احتضانهم للتكفيريين والمُحرضين على الفتنة والقتْل ونشر البذاءة والجهل. لن يثق فيهم أحد إن هم رسبوا في امتحان فك الارتباط بالخوارج، وستتحالف ضدهم فئات من الديمقراطيين تقبل الإسلام ولكنها ترفض تصور الخوارج. إنه خيار صعب تجرعه الغنوشي بمرارة بعد استنفاد كل المناورات، فوجد بداية الطريق.

2/18/2014

‫شاهد أيضًا‬

اليسار بين الممكن العالمي والحاجة المغربية * لحسن العسبي

أعادت نتائج الانتخابات البرلمانية الإنجليزية والفرنسية هذه الأيام (التي سجلت عودة قوية للت…